علاء اللامي*للمرة الثانية يشنُّ تنظيم القاعدة حملةَ قتلٍ وتمثيلٍ بالجثث والإذلال لعلماء الدين المسلمين السُّنة الذين يوصفون عادة بالمعتدلين ممن يرفضون الطروحات التكفيرية للتنظيم. وكانت المرة الأولى التي شنَّ هذا التنظيم فيها حملة دموية كهذه قد حدثت سنة 2007، وذهب ضحيتها عدد كبير من رجال الدين وشيوخ العشائر السنية ولم ينجُ من تلك الحملة حتى بعض قادة المقاومة العراقية ورموزها ممن لا علاقة لهم بالقاعدة، وفي مقدمتهم القيادي المقاوم، وبطل معركتي الفلوجة الأولى والثانية ضد قوات الاحتلال والقوات الحكومية في عهد وزارة إياد علاوي، الشهيد عبد المنعم الشيبي الذي اختطفه مسلحو التنظيم، ثم ذُبِحَ وعُرِضَ رأسه في وسط مدينة الفلوجة.
لقد دفع تنظيم القاعدة ثمن حملته تلك غالياً حين انتفضت عليه القبائل العربية السنية في المنطقة الغربية من العراق بالسلاح، وطردته من حاضناته الاجتماعية والسياسية وقتلت الكثيرين من قادته وكوادره ومقاتليه، في ما عرف بحركة الصحوة التي استثمرها الاحتلال في ما بعد خير استثمار. ويمكن إيراد العديد من الأمثلة على ممارسات القاعدة في تلك الحملة على سبيل التذكير ومقارنة التفاصيل والحيثيات تحليلياً، ومنها:
ـــــ قتل رموز المقاومة والجهاد العراقيين وقياداتهما تحت شعار: إما أن تبايع أمير دولة العراق الإسلامية «في عهد البغدادي» أو أن تَقْعُد أي أن تكف عن مقاومة الاحتلال تحت أي عنوان أو راية أخرى غير راية القاعدة.
ـــــ ممن قتلوا يرد اسم الشيخ عمر محمود الفلاحي إمام جامع «النزّال» وخطيبه في مدينة الفلوجة، الذي قتل وهو يعتلي منبر الخطابة في الجامع برصاص مسلحي القاعدة. والشيخ المذكور من مؤسسي العمل المقاوم والجهادي وصاحب مواقف شجاعة معروفة للقاصي والداني.
ـــــ اغتيال الشيخ مهند الغريري إمام جامع عمر بن الخطاب في منطقة «الكرمة» في محافظة الأنبار، والشيخ القتيل هو أحد مؤسسي مؤتمر أهل العراق، وهو معروف بتاريخه ومواقفه المعادية للاحتلال ودفاعه عن أهل المنطقة.
ـــــ ذبح السيد صدام عبيد حمود النعيمي ورمي جثته في المزبلة لأنه شتم تنظيم القاعدة في لحظة غضب في حادثة معروفة خلاصتها: لهذا الشهيد ثلاثة أشقاء في سجون الحكومة الحليفة للاحتلال، وله شقيق رابع يعمل في محل تجاري لتدبير حياة أسرتهم الكبيرة واحتياجاتها. وذات يوم جاءت مجموعة مسلحة من تنظيم القاعدة وقصفت قوات الاحتلال انطلاقاً من مكان قرب محله، ثم انسحبت بسرعة، وحين ردت قوات الاحتلال دمرت المحل واستشهد الأخ الرابع فحضر المجني عليه وراح يشتم القاعدة لأنهم سببوا مقتل أخيه وتدمير مصدر رزقهم، فما كان من مسلحي القاعدة إلا أن ألقوا القبض عليه ثم ذبحوه بالطريقة البشعة التي سلف ذكرها.
ـــــ اختطاف د. حسيب العارف وقتله، وما زالت جثته مجهولة المكان حتى الآن.
ـــــ قتل اللواء وجيه براق، وهو أحد مؤسسي العمل المقاوم ورجل معروف بمواقفه الوطنية.
ـــــ اغتيال الشيخ أحمد مفرج لأنه رفض القيام بعمليات مسلحة من أماكن مكتظة بالمدنيين.
ـــــ قتل أحد الرسل الذي كان يحمل رسالة من إحدى العشائر إلى قيادة تنظيم القاعدة في قاطع بيجي ـــــ تكريت.
ـــــ الطلب من أحد شيوخ عرب الجبور في منطقة الدورة أن يسلم ابنه إلى القاعدة لينفذ فيه حكم الذبح. ولهذه الواقعة الغريبة قصة خلاصتها أن أحد أمراء القاعدة في منطقة «الدورة» في ضواحي بغداد كان دموياً ومستهتراً يقتل ويصادر ويقمع كما يشاء ومتى يشاء، حتى فاق عدد مَن اتهم بقتلهم بيديه خمسين عراقياً، فضجت المنطقة بالشكوى منه ومن أفعاله من دون أن يفعل له قادته شيئاً، فبادر ابن الشيخ المذكور وقتل ذلك الشخص عقاباً له على ما فعل بالناس. غير أن القاعدة انحازت إلى أميرها وطالبت الشيخ بتسليم ابنه!
ـــــ الاستيلاء على أسلحة وأعتدة فصائل مسلحة من المقاومة العراقية لأنها ترفض مبايعة أبو عمر البغدادي وتنظيم القاعدة.
ـــــ البدء بعملية التهجير الطائفي، ما أدى إلى رد فعل من الميليشيات الطائفية الشيعية، وهُجِّرت آلاف العوائل العراقية من مناطق سكنها الأصلية، الأمر الذي سبب معاناة مريرة للعراقيين، وأحدث شرخاً اجتماعياً يصعب علاجه.
ـــــ اختطاف الشيخ ناجي جبارة من محافظة صلاح الدين، الذي ما زال مختطفاً وعلى قيد الحياة كما يعتقد.
ـــــ اختطاف المقاوم المعروف نامق خضير علي، الذي قاتل الاحتلال لعدة سنوات حيث اختطف لدى عودته من زيارة لدولة مجاورة ثم ذبح وفخخ جثمانه بالمواد المتفجرة في قضاء الحويجة.
ـــــ محاصرة عشيرة «زوبع» التي ينتسب إليها الشيخ حارث الضاري، والاعتداء على رجالها مع كل ما قدمته هذه العشيرة وأبناؤها للعمل المقاوم والجهادي.
الحملة الجديدة، التي تصاعدت في الأيام الأخيرة، لم تأت مختلفة من حيث الأساليب والحجج والسياقات، لكنها لم تُثر ما أثارته الحملة السابقة من ردود أفعال، حيث بلغ أقصى مدى لها دعوة عدد قليل من خطباء الجمعة من رجال الدين السنة كالشيخ عساف الدليمي وأصوات قليلة من زملائهم الشيعة كالشيخ فؤاد الحلفي للبراءة من تنظيم القاعدة وأفكاره وممارساته. أما على المستويين العربي والإسلامي، فقد ظل الصمت والتجاهل هما سيدي الموقف، ولم يحرك علماء الدين أو رجال السياسية الإسلاميون المعتدلون أو زاعمو الاعتدال في العالمين العربي والإسلامي كالشيخ القرضاوي أو سواه ساكناً، مع أن المستهدفين في هذه الحملة من المسلمين السنة وليسوا من غيرهم.
لقد بلغت الحملة الجديدة، التي ما زالت متواصلة، ذروتها باعتقال الشيخ «عبد الجبار الجبوري، 42 عاماً» في منزله في إحدى قرى محافظة «ديالى» لعدة ساعات، ومن ثم ذبحه بوحشية بحضور أفراد عائلته وإحراق جثمانه أمام منزله. والمغدور هو ابن عم النائب والقيادي في جبهة التوافق والحزب الإسلامي العراقي د. سليم الجبوري، وقد سبقت هذه الجريمة جرائم عديدة خلال العام الجاري، وهي ثالث جريمة خلال الفترة القصيرة الماضية بعد مقتل الشيخين إحسان الراوي ومصطفى العاني.

الحجج الموجبة لهذه الجرائم تمتد على حيز من التراث الديني المُفَسَّر بطريقة خاصة
إن مسؤولية الاحتلال والحكومة القائمة حالياً ثابتة وضخمة عما يحدث للمواطنين العراقيين عموماً، ولرجال الدين خصوصاً، بل إن الأمر يتجاوز حدود تحميل المسؤولية اللفظي ليبلغ درجة التشكيك والتساؤل المبررَين عن السبب الحقيقي وراء تكرار هذه الخروق والارتكابات السهلة لهذه الجرائم من مسلحين ينسبون عادة إلى تنظيم القاعدة. كذلك إن فصائل مسلحة أخرى، تنشط تحت مسميات مختلفة، وتزعم العداء للاحتلال، تتحمل بدورها المسؤولية عما يحدث وعن صمتها المريب عن هذه الجرائم التي لا يمكن تفسيرها إلا بالموافقة الضمنية أو بالجبن عن قول الحقيقة خوفاً من رد فعل تنظيم القاعدة، دع عنك انعدام أي دور لها في حماية المستهدفين في مناطق نفوذها.
أما بخصوص الحجج والأسباب الموجبة لهذه الجرائم، التي يكررها التنظيم التكفيري المذكور، فهي تمتد على حيز واسع من التراث الديني المقروء والمُفَسَّر بطريقة خاصة يعتمدها التكفيريون المعاصرون، ومن عناوينها الأبرز: الارتداد عن الدين وموالاة الكافرين والحرابة والخروج على إمام المسلمين أو رفض مبايعته، والمقصود هنا «الخليفة» الذي أعلنه التنظيم. ومثلما برر التنظيم قتله لآلاف المسلمين المدنيين في التفجيرات العشوائية بحجة (التتريس بين صفوف العدو حيث سيبعث هؤلاء القتلى يوم القيامة حسب نياتهم، فمن كان مؤمناً ستكون الجنة مأواه وإلا فهي النار...) من دون أن يفصح لنا عن مسؤوليته وجزائه جراء قتل أولئك المسلمين الذاهبين إلى الجنة. فهو يبرر قتله المئات من علماء الدين المسلمين من السنة والشيعة وغيرهم، ومن السادة المنتسبين إلى الدوحة النبوية والنسب الهاشمي، بأسباب مستمدة من التراث التكفيري العريض وبحجة الجهاد ومقاومة الاحتلال، علماً بأن هذا الأخير ـــــ الاحتلال ـــــ لم يبلغ عدد قتلاه بأسلحة هؤلاء التكفيريين عشر معشار قتلاهم من المسلمين العراقيين. يحدث هذا فيما يكتفي أغلب علماء الأمة ورموزها الدينيين بالصمت والتفرج وهم يشاهدون شلال الدماء العراقي المتواصل السفك.
* كاتب عراقي