عبد العلي حامي الدين *الأحد الماضي، نجحت الحكومة التركية التي يقودها حزب العدالة والتنمية بالحصول على موافقة 58% من المواطنين على مشروع التعديلات الدستورية. فقد صوّت حوالى خمسين مليون مواطن تركي في استفتاء شعبي على التعديلات التي يطمح من خلالها الحزب الحاكم إلى الاقتراب من المعايير الأوروبية لحقوق الإنسان، وذلك في سياق سعيه إلى ضمان حصوله على عضوية الاتحاد الأوروبي.
فمنذ حصول حزب العدالة والتنمية على رئاسة الحكومة، وهو يخوض حملة للإصلاحات القانونية والدستورية الشاملة بهدف الوصول إلى معايير كوبنهاغن الأوروبية، نزولاً عند شروط الاتحاد الأوروبي مقابل بدء المفاوضات مع تركيا. هكذا عدّل البرلمان التركي خلال الأعوام الثمانية الماضية أكثر من مئة قانون جزئياً أو كلّياً لإحداث مجموعة من المقتضيات القانونية التي تسهم في إبعاد الجيش عن السياسة تدريجياً وبهدوء، بعدما اعتادت المؤسسة العسكرية التي نصّبت نفسها للدفاع عن المبادئ العلمانية منذ عهد الرئيس أتاتورك، أن تتدخل تدخّلاً غير مباشر في ممارسة الضغوط على المؤسسات المدنية، أو مباشرة عبر الانقلابات العسكرية، وحفظت لنفسها دوراً رقابياً وتنفيذياً في الحياة السياسية عبر مجلس الأمن القومي التركي.
ومن أهمّ الخطوات المتّخذة في هذا السياق: إعادة هيكلة مجلس الأمن القومي التركي الذي كان تحت هيمنة كبار قادة الجيش، وزيادة الأعضاء المدنيين فيه إلى تسعة مقابل خمسة أعضاء من قادة الجيش بعدما كان عددهم هو الأكبر، وعُيّن مدني أميناً عاماً للمجلس لأول مرة منذ 1928، ورُبط هذا المجلس مباشرة بالحكومة بعدما كان يخضع في السابق لرئاسة الأركان، ولم تعد قراراته ملزمة للحكومة كما كان في السابق. كما أُخضعت ميزانية الجيش للرقابة ومحاسبة القضاء والبرلمان بعدما كان معتاداً على الإنفاق دون الرجوع إلى الحكومة، إذ كان يقتطع في السابق 9% من ميزانية الدولة دون مناقشة أمام البرلمان، كما كان يشرف كلياً على شراء الأسلحة ويسهم كثيراً في الصناعات الأساسية الضخمة.
تقديم الإسلام بصورة مختلفة عمّا تعرضه الحركات الإسلامية في العالم العربي
ويتعلق الاستفتاء بتعديل جملة من المقتضيات تستهدف الحد من صلاحيات القضاء العسكري وتنص على تعديل بنية هيئتين قضائيتين لمصلحة الحكومة. وتضمّ التعديلات المطروحة على الاستفتاء 26 مادة دستورية من أهمها إمكانية محاكمة العسكريين أمام محاكم مدنية، إضافة إلى حق المواطن التركي في المطالبة بحقوقه الشخصية في تملك الدخل، ورفع الحجر عن السفر إلى الخارج إلا في حالات التحقيقات المبدئية، وحق الأطفال في الرعاية من الدولة. وكذلك رفع جميع الأحكام القانونية التي تمنع التظاهر والإضرابات والاعتصامات حتى لو كانت لأسباب سياسية، والسماح لجميع المواطنين بالانتماء إلى منظمات متعددة في وقت واحد، وإعادة النظر في سلطات المحاكم العسكرية، وحصرها بمحاكمة العسكريين فقط، ومنع محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وإعادة تشكيل المحكمة الدستورية وإضافة عضوين لها من مرشحي البرلمان التركي، والسماح للطعون الشخصية بقرارات المحكمة الدستورية. وفي حال المطالبة بحظر حزب سياسي يجب تحقيق نصاب قانوني بموافقة 2/3 من أعضاء المحكمة الدستورية.
طبعاً لا تستجيب هذه التعديلات لجميع المقاييس الديموقراطية. ولكن نجاح عملية الاستفتاء بحد ذاته سيمهد الطريق لتغييرات كبيرة في السنوات القليلة المقبلة، وسيفتح آفاقاً جديدة أمام التحول الديموقراطي في تركيا، وسيؤدي إلى ترسيخ المزيد من الحريات الفردية والحقوق، وسينهي هيمنة مؤسسات تقليدية غير منتخبة شعبياً على مقدرات الدولة.
نجاح هذه الخطوة يعود إلى اعتبارين حاسمين، الأوّل متعلّق بالمحيط الأوروبي الذي رحّب بالتعديلات الدستورية واعتبرها «خطوة في الاتجاه الصحيح مطالباً بضرورة مطابقتها لمعايير الاتحاد وتنفيذها فعلياً على أرض الواقع».
والثاني متعلق بالرؤية التي يحملها حزب العدالة والتنمية، وبنظرته لكيفية صناعة التغيير في تركيا، التي انطلقت منذ شهر آب/ أغسطس 2001 عندما أسس رجب طيّب أردوغان، رئيس بلدية اسطنبول سابقاً، برفقة عبد الله غول، حزب العدالة والتنمية رافضين الالتحاق بحزب السعادة الذي أسسه نجم الدين أربكان بعد حل حزب الفضيلة الذي كان يجمعهم جميعاً.
وقد نشأ الحزب الجديد على أسلوب يحاول التأسيس لتجربة جديدة توفر مخرجاً للمأزق الأيديولوجي الذي عاناه حزب أربكان في المرحلة السابقة. ومن الإجابات التي صاغها رفاق أردوغان عن طبيعة عملهم السياسي، الآتي:
ـــ أنهم يستندون إلى قواعد الديموقراطية والشفافية والرغبة في التعاون مع الغير، ولا يتمحورون حول عقيدة دينية معينة. بل لا يرون أي حرج في اتخاذ العلمانية كإطار نظري لمفهوم الدولة، وذلك عبر التمييز بين المؤسسات الدينية وبين الدولة والحزب كمؤسسات سياسية، لكنها علمانية غير معادية للدين وتؤمن بأهمية القيم الإسلامية في الرقي بالوعي الاجتماعي. كما أنها علمانية لا تتنكر للهوية الإسلامية للشعب التركي.
ــــ أنهم يؤمنون بالشراكة في تسيير شؤون الحزب بطريقة مؤسساتية، ويرفضون أسلوب الطاعة العمياء كما كان الأمر في عهد أربكان.
ــــ أنهم سينشغلون بالقضايا الحقيقية التي تشغل الرأي العام التركي مثل عدم المساواة في توزيع الثروة وارتفاع نسبة البطالة وضعف الخدمات الصحية واختلالات نظام التعليم...
ــــ أنّ منظورهم للمسألة الاقتصادية لا ينطلق من تصوّر نظري طوباوي حالم كنظرية «النظام العادل» (أربكان)، ولكنهم يؤمنون بممارسة سياسات اقتصادية واقعية تتناسب مع الظروف الدولية وتعتمد مفاهيم المنافسة الحرة والعقلانية والشفافية مع حماية ذوي الدخل المحدود من الناحية الاجتماعية.
ــــ الرهان على تلبية رغبة المواطنين في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وتهيئة الظروف المناسبة لذلك.
ــــ اعتماد المقاربة الحقوقية الصرفة مدخلاً للبحث عن حلول لبعض القضايا الهوياتية الحساسة مثل قضية الحجاب، والحذر الشديد تجاه اعتماد خطاب يحمل أي مشاعر دينية أو عقدية.
إنها قصة مراجعات عميقة نجحت في تقديم الإسلام بصورة مختلفة عمّا تعرضه الحركات الإسلامية في العالم العربي، كما أنها انتبهت إلى أن المعايير الدولية في مجال حقوق الإنسان تعتبر جزءاً من الحل بالنسبة للدول السائرة في طريق الديموقراطية وفرصة للتأهيل الديموقراطي وليست معايير «مفروضة من الغرب» لتحطيم الخصوصيات كما يرى البعض. وهو الأمر الذي يتطلب المزيد من الوقت لتنتبه إليه الحركات الإسلامية في العالم العربي.
* باحث وعضو المجلس الوطني لحزب العدالة والتنمية المغربي