علاء اللامي*بعد ساعات على عبور كتيبة «سترايكر» الأميركية الحدود العراقية، عائدة ليلاً إلى أراضي إمارة الكويت التي انطلقت منها نهاراً جهاراً قبل سبعة أعوام وبضعة أشهر، أعلن البنتاغون، بشيء من الفخر، أن عملية انسحاب قواته المقاتلة، التي تعد أكبر عملية عسكرية منذ الحرب العالمية الثانية، قد اكتملت قبل الموعد المقرَّر بأسبوعين تقريباً. وفي صبيحة اليوم التالي، رَوَت الصحافة البغدادية، أن وزير خارجية حكومة المحاصصة الطائفية هوشيار زيباري مازح سفير دولة الاحتلال قائلاً: بلدنا رائع، وها هي قواتكم تنسحب بسلام، ولا ينقصنا شيء سوى حكومة!
قد لا يبدو للوهلة الأولى أن ثمة علاقة بين إعلان البنتاغون ومزحة زيباري، ولكننا لو أمعنّا النظر جيداً، لوجدنا أنهما تلخصان بشكل عجيب قصة أغرب وأقسى غزو عسكري شهده العالم بعد الحرب العالمية الثانية. فها هم الغزاة الذين اجتاحوا بلداً ثرياً، أنهكته مغامرات دكتاتوره الذي حكمه بالحديد والنار نهاراً، ترافقهم كتائب الإعلاميين والمصفقين والحلفاء المحليين من سياسيي المنفى... ها هم يهربون ليلاً، تاركين البلد نهباً للفوضى والقتل والفساد والأمراض والتلوث البيئي والتصحّر والتهجير والتهجير المضاد. بلد دون حكومة أو جيش حقيقي، وببرلمان اجتمع مرة واحدة لربع ساعة بعد خمسة أشهر من انتخابه، ثم غادر نوابه للاصطياف في الخارج.
ومع ذلك، فالانسحاب الأميركي الذي وصفه أحد أطراف المقاومة العراقية بأنه ليس إلا إعادة انتشار، هو انسحاب فعلي لما يقرب من ثلثي قوات الاحتلال ولكنه ــــ وهنا المغزى المهم الذي ينبغي التوقف عنده ــــ لا ينطوي، مهما ابتهج سادة البنتاغون، على أي انتصار أو شبه انتصار للغزاة، بل هو أقرب إلى هروب لصوص مذعورين ليلاً. غير أنه أيضاً، ولشديد الأسف، لم يكن انتصاراً صريحاً لأعدائهم في المقاومة العراقية وفي عموم معسكر مناهضة الاحتلال والطائفية، على الرغم من البسالة الفريدة التي أبداها مقاتلوها، وضخامة الإنجاز العسكري الذي قدمته على الأرض. ولعلّ مَن أبرز غياب هذا الانتصار، الطابع الجزئي لتلك المقاومة وعدم شموليتها، وانحصارها جغرافياً ومجتمعياً في نطاق ومكونات معينة. وثانياً، الدور التدميري الذي مارسته الأطراف التكفيرية والطائفية المسلحة الشيعية والسنية، وبخاصة تنظيم القاعدة، ذلك الدور الذي وجد دعماً هائلاً وتسهيلات قد تصل حد التنسيق والتمويل المباشر من مخابرات الاحتلال والدول الإقليمية، وفي مقدمتها دولة العدو الإسرائيلي.
إن هذا الواقع القاتم ــــ في ما يخص تجربة المقاومة العراقية ــــ لم يعد متعلقاً بالماضي الذي انتهى، بل يلقي بظلاله الثقيلة على المستقبل وما سيأتي به. فمع انسحاب الجزء الأكبر من قوات الاحتلال بهذا الشكل المريح، ودون أن تكون حالة القوات المحتلة الباقية والبالغة خمسين ألفاً مهددة أو مستهدفة وملاحقة من قبل المقاومين، فإن النتائج على المدى البعيد ستكون لمصلحة المحتلين، الذين سينجحون في فرض حالة الاحتلال غير المباشر، والشروع في تطبيق اتفاقية «الإطار الاستراتيجي»، وهي الاتفاقية الأخطر بمئة مرة من الاتفاقية الأمنية. كما أن من المعبّر أن نشهد تلك الحماسة التي أبداها رئيس الوزراء المنصرف والطامح لعهدة جديدة، نوري المالكي، لتطبيق تلك الاتفاقية خلال لقائه بسفير دولة الاحتلال الجديد جيمس جيفري، بعد يوم واحد من اكتمال الانسحاب الجزئي، مستبشراً خيراً بتطبيق ما يتعلق بالمساعدات الأميركية في الزراعة والصناعة والميادين الثقافية والعسكرية والبعثات الدراسية، وكأن البنتاغون، وإدارة أوباما عموماً، ليست إلا جمعية خيرية تقدم العون والمساعدات الإنسانية لأجل سواد عيون العراقيين. إن الاحتلال غير المباشر الذي تريده الولايات المتحدة للعراق لن يتحقق هذه المرة بقوة الصواريخ والدبابات، ولا حتى بالقواعد العسكرية التي تعلن يوميا أنها لا تطمع بها، بل بأساليب أخرى دبلوماسية وثقافية واقتصادية، لعل من أكثرها فاعلية إبقاء العراق تحت مقصلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، باستعمال المخلب الكويتي والابتزاز السعودي والتهديدات الإيرانية بالمطالبة بالتعويضات ذات الأرقام الفلكية عن حروب صدام حسين، وربط العراق باتفاقيات اقتصادية وثقافية طويلة الأمد بالمركز الإمبريالي الأميركي، وإغراق الاقتصاد العراقي في الديون والبروتوكولات الاحتيالية وغير المتوازنة. وعندها لن يكون في وسع العراقيين الخروج من الجبِّ حتى لو انتخبوا عشرات البرلمانات وشكّلوا مئات الحكومات وفق القالب الطائفي العرقي الذي وضعه الاحتلال.
إن نظرة جديدة إلى الواقع العراقي، تغادر عقلية المؤامرة التقليدية وخطابات الستينيات والسبعينيات البلاغية المدغدِغة للمشاعر، باتت ضرورية اليوم. فالصراخ التحذيري الذي يطلقه البعض من بناء القواعد العسكرية الدائمة في العراق لا معنى له، أو إن شئنا الدقة لا معنى له حالياً، إذْ إنَّ الإدارة الأميركية تريد أن تغسل يديها تماماً من مغامرتها العسكرية، وهي صادقة في ذلك إلى درجة معينة. وهي حين تعلن أنها لا تريد قواعد عسكرية ــــ رغم الكرم الحاتمي التي تبديه الأحزاب الكردية في هذا الخصوص ــــ فهي فعلاً لا تريد تلك القواعد، لأن حيازتها إياها تعني الفشل في إنهاء الجانب العسكري من مغامرة الغزو، وربطها مستقبلاً بمسؤوليات جديدة ذات ثمن مرتفع، في حين إن العراق مطوَّق عملياً بالقواعد العسكرية في الدول المجاورة والمحميات النفطية الخليجية بشكل مجاني، ولكنها ــــ رغم ما قلناه هنا ــــ ستُبقي هذا الخيار قائماً ولن تلغيه نهائياً. وهي حين تقول إنها ستسحب كل قواتها، فهي تعني ما تقول، ولكنها ــــ وهنا بيت القصيد ــــ ستستبدل تلك القوات بأكثر منها، ولكن على شكل مرتزقة في الشركات الأمنية الدولية والأميركية التي تحترف القتل والمغامرة، وبشبكات الجواسيس والميليشيات المخترقة. وبكلمات قليلة ومختصرة، يمكن لنا أن نقول إن الولايات المتحدة تريد ابتلاع العراق وثرواته، ولكن ليس بالدبابات هذه المرة، بل بالقفازات الحريرية والاتفاقيات الملغومة، وبقرارات الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وبالضغوط التي تمارسها دول الجوار ومخابراتها، وأخيراً بمساعدة قوى «الرتل الخامس» وشخصياته الناشطة ضمن «العملية السياسية» الاحتلالية داخل العراق، على اختلاف تلاوينها الطائفية والتكفيرية والليبرالية الصديقة للاحتلال.

الولايات المتحدة تريد ابتلاع العراق وثرواته، ولكن ليس بالدبابات هذه المرة، بل بالقفازات الحريرية

أما بخصوص الزعم الأميركي القائل إن القوات المقاتلة قد انسحبت، ولم يبقَ في العراق إلا قوات تدريب وإسناد ومستشارين، فهو أمر ينفيه حتى المدافعون عن المغامرة الاحتلالية. فالخبير كينيث بولاك، مدير مركز سابان لسياسة الشرق الأوسط في مؤسسة بروكينغز الأميركية، يكتب في الواشنطن بوست، غداة اكتمال الانسحاب الجزئي، ما يلي: «من أصل الـ50 ألف موظف عسكري تقريباً الذين بقوا في العراق، ما زالت الأغلبية من الجنود المقاتلين، وكل ما حدث هو أنه أُطلقت عليهم أسماء أخرى. فالوحدات الرئيسية التي ما زالت في العراق لن يُطلق عليها بعد اليوم فرق الكتائب المقاتلة، بل كتائب المساعدة والاستشارة». وبالمناسبة، فبولاك مقتنع بأن ثمرة غزو العراق الوحيدة هي «إرغام الزعماء السياسيين للبلاد على احتضان الديموقراطية، على مضض في حالات كثيرة، ولكنهم احتضنوها على أي حال. وهكذا، لم يعد زعماء الأحزاب يخططون لقتل خصومهم، بل للتفوق عليهم في الانتخابات». ولكنه لا يتردد في الإعلان أن أقلية من العراقيين هي التي تطالب بالانسحاب الفوري وبأي ثمن من العراق، تقابلها أقلية تطالب ببقاء قوات الاحتلال إلى الأبد، واضعاً ما يسميه الأغلبية الكبيرة في الوسط بين تينك الأقليتين، وشعارها هو: نعم للانسحاب ولكن ليس الآن! أقول إن هذه التخريجات التي يطرحها الخبير الأميركي المبتهج أكثر مما ينبغي بأن السياسيين العراقيين «لم يعودوا يخططون لقتل بعضهم بعضاً بل لمنافستهم انتخابياً»، ليست في أفضل أحوالها إلا كلاماً فارغاً ولا دليل عليه إلا الاستطلاعات التي تجريها مؤسسات الاحتلال وأصدقاؤها العراقيون المشتغلون لديها بالقطعة والساعة من يساريين «سابقين» وليبراليين لم تنبت أسنانهم اللبنية بعد. أما الواقع الفعلي في العراق، فيقول شيئاً آخر، ربما لم يسمع به هؤلاء، وهو: لقد كان الاحتلال خراباً شاملاً، وهو ما زال وسيبقى إلى أمد غير منظور هكذا، ولن يجعل منه الهروب الكبير ليلاً، فردوساً ديموقراطياً.
* كاتب عراقي