خالد صاغيةحاول القاضي دانيال بلمار ذات مرّة الفصل بين السياسي وغير السياسي في شأن المحكمة الدولية. كان ذلك حين سئل عن جرائم ومجازر جماعيّة لم تُنشأ من أجلها محاكم دوليّة، فيما المحكمة تقام اليوم من أجل اغتيال شخص واحد. ردّ بلمار آنذاك بما معناه أنّ قرار إنشاء المحكمة قد يكون سياسيّاً لكونه صادراً عن مجموعة دول مجلس الأمن، لكنّ عمل المحكمة شأن مختلف. فمنذ لحظة إنشائها، تستطيع المحكمة أن تمارس مهماتها باستقلاليّة تامّة عن السياسة.
لكنّ الوقائع التي تلت إنشاء المحكمة تترك أقلّه شكوكاً في ذهن أيّ مراقب محايد. وقد لا يكون ذلك بسبب فريق المحكمة نفسه أو الخروق الاستخباريّة الممكنة له، بل بسبب الظروف السياسيّة الشديدة التعقيد التي تعمل المحكمة في ظلّها. فلا يمكن مثلاً تخيُّل قرار يدين رأس نظام دولة ما (سوريا مثلاً)، في ظلّ عدم استعداد دوليّ لتغيير النظام في تلك الدولة. ولا يمكن تخيُّل قرار يدين جهة سياسيّة كبرى (حزب اللّه مثلاً)، في ظلّ عدم رغبة دولية في التخلّص من تلك الجهة، أو أقلّه الحدّ من نفوذها.
صحيح أنّه لا يمكن النظر إلى العدالة الدوليّة كمجرّد ألعوبة في أيدي الدول الكبرى، لكن، تماماً كما قيل ذات مرّة إنّ الحروب أشدّ خطورةً من أن تُترك للجيوش، فإنّ التوازنات الدقيقة في منطقة ملتهبة كالشرق الأوسط، هي أشدّ خطورة من أن تُترك لقرار اتّهاميّ يصدر عن محكمة دوليّة.
لذلك، يبدو «تسييس» المحكمة قدراً أكثر منه فعلاً إرادياً. وهو تسييس يصيب المتّهِمين والمتّهَمين على حدّ سواء. فتماماً كما شاءت الصدف أن تُتّهم سوريا باغتيال الرئيس رفيق الحريري في زمن الهجمة الدولية على سوريا، ويُتّهم حزب الله في زمن الهجمة الدولية على سلاحه، كذلك بات ملفّ شهود الزور قضيّة مركزيّة لدى الجهة المقابلة.
والواقع أنّ هذا الملفّ، تماماً كالاتّهامات التي سبقته، لا يمكن إخفاء وجهه السياسيّ. الملفّ يمثّل دون شك ورقة قوية في وجه صدقيّة المحكمة، لكنّه مرتبط أيضاً باللعبة السياسيّة. فما لم تشأ المعارضة السابقة أن تناله قسراً بعد أحداث 7 أيّار، يراد اليوم أخذه تحت شعار «شهود الزور». أي المطلوب، بكلّ بساطة، ليس تغيير الطاقم المحيط بالرئيس سعد الحريري وحسب، بل تفكيك «دولة» فؤاد السنيورة أيضاً. إنّه نوع من تصحيح «الحماقة» التي ارتكبت في الدوحة، حين جرت الموافقة على إعادة السنيورة نفسه إلى كرسيّ الرئاسة الثالثة مقابل تعديلات في زواريب الدوائر الانتخابيّة.
لقد بدأ سعد الحريري بتقديم التنازلات في دمشق. المطلوب أن يخلع ثيابه في بيروت.