سعد اللّه مزرعاني*بطريقة من الطرق، استعاد الرئيس سعد الحريري والنائب سامي الجميّل نقاشاً احتدم منذ حوالى مئة سنة، ولم يتوقّف طيلة تلك المدة. ليست الظروف هي نفسها. الزمن يحمل الكثير والعميق من التحوّلات. والتاريخ لا يعيد نفسه الأعلى شكل «مأساة أو مهزلة» (حسب ماركس).
ومع ذلك، نحن مرّة أخرى أمام نقاش تأسيسي يتكرّر بما يؤكّد عمق الخلاف حتى الهوية والمرجعية والانتماء والعلاقات والمستقبل... وبما يؤكّد أنّ لبنان لا يزال وطناً قيد الدرس!
ليست مشاركة سعد الحريري وسامي الجميّل في النقاش هي الأبرز، فثمّة مشاركون عديدون، وبعضهم أكثر إلحاحاً ووضوحاً وأهمية... لكنّها قد تكون الأكثر دلالة. فهما، كلاهما، من الجيل الشاب. وكلاهما يشغل موقعاً مهمّاً في منظومة الشراكة الطائفية والمذهبية القديمة والمتجدّدة. وكلاهما اختبر في محيطه وفريقه وتياره أشكال التعاون والتباين. وكلاهما، أيضاً، عانى مآسي وخسائر كبيرة في امتداد نزاعات وصراعات محلية وخارجية متداخلة ومتفاعلة، كان أخطرها ما حصل في السنوات الخمس الماضية، ومن ضمنها العدوان الإسرائيلي على لبنان في تموز من عام 2006.
هل ثمّة رابط ما بين ما قاله سعد الحريري، بشأن العلاقة مع سوريا، وما قاله سامي الجميّل بشأن العلاقة مع إسرائيل؟ لا شكّ في ذلك. والأمر يتعلق بمسار قد يشير إلى خيار أو يُذكّر به على أقل تقدير. بكلام آخر، إنّ اقتراب الحريري من سوريا هو ما يحاول الجميّل مواجهته بالتلويح بالتقرّب من إسرائيل! ويستعيد ذلك انقساماً وخلافاً وصراعاً كانت قائمة باستمرار، وإن تخلّلتها مساومات وتسويات كان من بينها «ميثاق» عام 1943 (الصيغة اللبنانية)، واتفاق «الخيمة» عام 1958 (ما بين جمال عبد الناصر وفؤاد شهاب)، واتفاق «الطائف» عام 1989، واتفاق «الدوحة» عام 2008...
للحكاية «المملّة» والمتكرّرة تاريخياً هذه، سياق سياسي شديد الوضوح: إنّه ذلك الذي دفع بفريق 14 آذار إلى التشتّت بعد التوحّد. ومعروف أنّ هذا التوحّد قد انتظم تحت شعارات الفريق الذي وُصف يوماً بـ«الانعزالي» بسبب موقفه المناهض للقوى السياسية الشعبية والرسمية التي عارضت، كلّياً أو جزئياً، السياسات الأميركية والغربية والإسرائيلية في المنطقة.
وصف سمير جعجع عن حقّ نشوء تحالف 14 آذار وقبله «لقاء البريستول» قائلاً: هم جاؤوا إلينا ولم نذهب نحن إليهم... في امتداد ذلك، وأساساً بسبب الغزو الأميركي للعراق والمشروع الشرق أوسطي الذي كان الغزو في خدمته، نشأت فرص جديدة لإحداث تحوّلات جذرية في موازين القوى في المنطقة وفي لبنان لمصلحة «حلف الاعتدال العربي» الذي أعلن فريق 14 آذار الانتساب إليه رسمياً في وثيقة اجتماع «البيال» عام 2007.
لم تسر الأمور على النحو الذي يريده الأميركيون وحلفاؤهم الإسرائيليون والعرب واللبنانيون منذ عام 2006. وبعد صعوبات واشنطن في العراق، تتابعت العثرات والهزائم. لبنان الساحة الثانية بعد العراق في تلقّي نتائج الغزو والمشروع الأميركيين، عاش على نحو دراماتيكي الصراعات والتحوّلات. «المراجعة» السعودية في قمة الكويت الاقتصادية أوائل عام 2009 كرّست «رسمياً» الفشل الأميركي والإسرائيلي. المصالحة السعودية ـــــ السورية هي ثمرة هذا الفشل الذي تعاملت معه قيادة المملكة بواقعية وببراغماتية لم تشاركها فيها القاهرة.
لم تتغيّر الأهداف بالنسبة إلى الاعبين الكبار. هم يستطيعون تغيير وسائلهم وتحديد خسائرهم، لكنّ الأمر يختلف بالنسبة إلى اللاعبين الصغار، إذ تضيع الطاسة ما بين الهدف والوسيلة. الكبير قد يدفع الثمن من مكاسبه أو من مدّخراته أو من نفوذه... أما الصغير فيدفع من اللحم الحي. يحصل ذلك تكراراً في لبنان. ويحصل بنحو تختلط فيه المأساة بالملهاة إلى الدرجة التي يغدو فيها الأمر غير باعث على التسلية إطلاقاً!
ثمة فريق في سجلّه أنّه يحصر في ذاته امتلاك مواصفات الوطنية الصافية. هذا ادّعاء يزداد عبثية وفئوية بمقدار ما يتفاقم العجز عن مراجعة المواقف والتجربة لتبيان الخطأ القائم فيه والخطر الناجم عنه.
لكن في المقابل، لم يكن الاعتراض من طبيعة مختلفة جذرياً. لقد تباينت المواقف من مواضيع الصراع، وخصوصاً على المستوى الإقليمي. لكن البديل، كان نسبياً، من طبيعة الأصيل نفسها في مجالين على الأقل: الانطلاق من المنطلق الطائفي نفسه، والسعي إلى الاستقواء بالخارج في الصراع الداخلي.
وصف يوماً الصحافي الراحل جورج نقاش هذه المعادلة قائلاً، بعد الترجمة عن الأصل الفرنسي: نفيان لا يبنيان وطناً! يومها، في الأربعينيات، ارتضى ممثّلو المسيحيين عدم المطالبة بالالتحاق بفرنسا، مقابل عدم مطالبة ممثّلي المسلمين بالوحدة مع سوريا. على مثل هذه المعادلة السلبية قامت الصيغة اللبنانية «الفريدة». لقد كرّست صيغة عام 1943 أرجحية الجناح «المسيحي» من البورجوازية اللبنانية (الطائفية دائماً أداة). سعى هذا الجناح إلى المماثلة ما بين الكيان والنظام الطائفي. حاول رفع ذلك إلى مستوى «الرسالة» و«الطبيعة» والهوية... ولقد تكرّس في أذهان جمهور واسع أنّ لبنان يكون على هذه «الصيغة» أو لا يكون، ليكون بديلاً منه الترك والهجرة أو الانعزال والتقسيم وطلب صداقة الأعداء، بمن فيهم الصهاينة المغتصبون في إسرائيل!

نحن مرّة أخرى أمام نقاش تأسيسي يؤكّد أنّ لبنان لا يزال وطناً قيد الدرس
اليوم يتكرّر، في الحوار والسجال وإعلان المواقف والعلاقات، فصل مأسوي جديد. إنّه مأسوي في الجانب الأساسي منه، لأنّه يكرّس الانقسام. ولأنّه يتجاهل، مرّة جديدة، موجبات بناء الوطن أو الأمة، كما لاحظ المرحوم جورج نقاش قبل حوالى ستة عقود ونصف عقد من يومنا هذا.
في مجرى التاريخ اللبناني المعاصر ارتُكبت ولا تزال أخطاء لا تُغتفر. وكذلك في الفترة نفسها اجتُرحت إنجازات مدهشة وغير مسبوقة. قد لا يتساوى فريقا المعادلة الطائفية التقليدية في حجم الإنجازات والأخطاء، لكنّهما يتقاسمانها كلّ في مجال، أو في الحقل الواحد أحياناً كثيرة. وليس صعباً القول إنّ «الإنجازات» كانت نوعاً ما فئوية، أما الأخطاء فكانت دائماً، «وطنية»، وبامتياز. نقصد بذلك، أنّ الإنجازات لم تصب في مصلحة بناء الدولة الواحدة والحصينة، فيما أمعنت الأخطاء إضعافاً لمشروع قيام الدولة إلى الدرجة التي نعيشها اليوم من مخاطر التلويح بالخيارات الخطيرة ومن بينها التقسيم إذا تعذّر التقاسم أو كانت صيغه مرفوضة جذرياً من أحد الأطراف المشاركة.
لن نكرّر هنا ضرورة قيام مشروع وطني توحيدي ديموقراطي. ذلك أمر لا بدّ من قيامه للإسهام في بلوغ حلّ إنقاذي. لكن لا بدّ أيضاً من أن يراجع الجميع حساباتهم وتجربتهم وأخطاءهم: المقياس هو المصلحة الوطنية، لا الفئوية ولا الخارجية. من دون ذلك، سيكون لبنان الطائفي بلداً فاشلاً، وستكون فئوية الطبقة الحاكمة بل ورعونتها المسؤولتين عن ذلك في صورة سعد وسامي أو في صورة مماثلة عرفناها سابقاً أو سيعرفها سوانا في المستقبل!
* كاتب وسياسي لبناني