منذ صفحات الكتاب الأولى، يؤكد صاحب «الاقتصاد السياسي لحقوق الإنسان» (1979) إيمانه المطلق بأنّ الفجوة الكبرى بين الشمال والجنوب سببها الفتوح الكبرى التي خلقت مجتمعات غنية تتمتع بنمو عال وباقي دول العالم.
ويرى أنّ مفهومي الديموقراطية والتنمية مرتبطان بعضهما ببعض بطريقة لصيقة. فلديهما عدو مشترك: فقدان السيادة. إذ يرى أنّه في عالمنا الحالي، حيث تنتشر الدولة ـــــ الأمة التي تتبع رأسمالية الدولة، فإنّ فقدان السيادة يؤدي إلى انخفاض نسبة الديموقراطية والقدرة على إدارة السياسات الاجتماعية والاقتصادية. هذا بدوره يعيق التنمية. لكن فقدان السيادة يسهم أيضاً في التحول إلى نظام ليبرالي مفروض. هذا النظام المفروض أصبح يسمى في السنوات الأخيرة «نيوليبرالية». لكنّ تشومسكي لا تعجبه هذه التسمية، فالنظام الاجتما ـــــ اقتصادي ليس جديداً (نيو)، وليس ليبرالياً. ويستنتج هنا أنّ العدو المشترك للديموقراطية والتنمية هو النيوليبرالية. لكنّ تشومسكي يقطع الطريق مسبقاً على أي شخص يريد محاورته في فكرته هذه، مشيراً إلى أنّه لا مجال للنقاش في هذه العلاقة في ما يتعلق بالديموقراطية، لكنّه يقبل النقاش في علاقة النيوليبرالية بالتنمية. ويقول تشومسكي إنّ آدم سميث بنفسه حذر من مخاطر النيوليبرالية، في كتابه «ثروة الأمم»، متخوفاً من إعطاء الحرية للتجار الإنكليز للاستثمار في الخارج، لأنّهم سيستفيدون على حساب الشعب البريطاني. ولم يذهب ديفيد ريكاردو بعيداً عن تحذيرات سميث في مثاله الأشهر عن النسيج الإنكليزي والنبيذ البرتغالي.
يحاول تشومسكي عبر الفصول المتعددة في كتابه أن يُظهر كيف استطاعت واشنطن عبر منظّريها تبرير ما تفعله، وخصوصاً في «حديقتها الخلفية»، أميركا الوسطى، ولاحقاً الجنوبية. فهانز مورغنتاو، الأب الروحي للمدرسة الواقعية في العلاقات الخارجية، اخترع لها نظرية «الاستثناء الأميركي». فأميركا لا تشبه أيّ قوى عظمى أخرى، سابقة أو حالية، بسبب «هدفها السامي. هذا الهدف هو نشر المساواة في الحرية في أميركا وحول العالم، حيث «يجب أن تدافع الولايات المتحدة عن هدفها وأن تروّج له». ولدحض هذه النظرية، يعدّد تشومسكي البلدان التي موّلت فيها واشنطن انقلابات أطاحت حكماً ديموقراطياً لتدعم ديكتاتوريات: إيران، غواتيمالا، البرازيل، التشيلي، هايتي واللائحة تطول.
يتحدث صاحب «أسرار وأكاذيب وديموقراطية» (1984) عن نظرية المافيا. فالعراب، كما أميركا، لا يمكن أن يسمح بالعصيان، لذلك يعاقب شخصاً ليؤدب الآخرين. هكذا يجري تأديب كوبا منذ عقود كي تتعلم باقي الدول، ولا تحاول التطاول على سيدها الأميركي. هذا ينبع أيضاً من خوف متجذر في الثقافة الأميركية من الآخرين، يقول تشومسكي. هذا الخوف كان أساسياً في تبرير حرب فيتنام، وإعلان الحرب على نيكاراغوا في 1985، حين «لبس ريغان حذاء الكاوبوي وحذر من أنّ جيش نيكاراغوا على بعد يومين من تكساس»، وحين ضربت غرانادا بعد ذلك «لمنع السوفيات من الوصول إليها».
ولاحقاً استمرت الولايات المتحدة في نهجها هذا حين رفضت، في 2008، توقيع اتفاقية دولية لتنظيم تجارة الأسلحة الدولية.
العراب، كما أميركا، لا يمكن أن يسمح بالعصيان، لذلك يعاقب شخصاً ليؤدب الآخرين
لا ينسى تشومسكي المرور في كتابه على قضية إيران وبرنامجها النووي الذي يعرف أقصى المتشددين من صقور الإدارة أنّها لن تبادر في حياتها إلى ضرب اسرائيل كما يقول. ويضيف، مستشهداً ببعض ما كتبه هؤلاء، أنّه إذا سربت طهران بعض الأسرار النووية إلى «الدول المارقة والإرهابيين» فذلك حصل بمباركة أميركية.
كذلك يتناول الوضع في فلسطين المحتلة و«الانقلاب» الغربي على الديموقراطية بعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية. ويشدد على الدور الأميركي القديم ـــــ الجديد في عرقلة أي احتمال للتوصل إلى اتفاق سلام دائم بين الفلسطينيّين والإسرائيليّين. فهي تريد أن يبقى التوتر موجوداً على كل الجبهات والأصعدة ليبقى لها شيء تفعله.
أما انتخاب باراك أوباما كأول رئيس أسود في أميركا، فلا يعدّه تشومسكي حدثاً تاريخياً، ويعدد دولاً أخرى كانت سباقة إلى دخول التاريخ مثل الهند، التي انتخبت أول امرأة من طبقة «الداليت» المحتقرة من الجميع على رأس إحدى الولايات، أو بوليفيا حيث وصل إيفو موراليس، من السكان الأصليين، إلى سدة الرئاسة.
كتاب «آمال وآفاق» قراءة سريعة في التاريخ الحديث والمعاصر للولايات المتحدة، يعرّفنا، كما دأب تشومسكي منذ سنوات، على تفاصيل التدخلات الأميركية حول العالم ومساهماتها الفعالة في إحلال التوتر والفوضى أينما أرادت ومتى شاءت. لكنّه، على عادة تشومسكي أيضاً، يترك مجالاً صغيراً للأمل.
* من أسرة «الأخبار»