خالد صاغيةمن المعلوم أنّ المعارضة اللبنانيّة السابقة التي انضوت في حكومة الوفاق الوطني، ليست فريقاً سياسياً متجانساً. وهي لا تملك رؤية موحّدة للسياسات الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وقد لا يملك معظم فصائلها أيّ رؤية أصلاً لهذه السياسات. لكنّ ذلك لم يمنع هذه المعارضة من استخدام الملف الاقتصادي كلّما أرادت الهجوم على الحريريّة السياسيّة، ثمّ تعود وتضع الملفّ نفسه في الثلاجة حين يسود التفاهم على مسائل لا علاقة لها البتّة بالاقتصاد.
هكذا، وخلال اعتصام المعارضة الشهير في وسط بيروت، تحوّل الخطباء إلى يساريّين أشدّاء في نضالهم ضدّ الرأسماليّة المتوحّشة، وأصابت سهامهم السياسات الماليّة والضريبيّة على حدّ سواء، ولم يوفّروا المصارف و«سوليدير» ووزراء المال المتعاقبين. لكنّ البازار الراديكالي سرعان ما أُقفل، وتولّى اتفاق الدوحة ختمه بالشمع الأحمر.
غير أنّ الأمانة تقتضي التمييز بين أطراف المعارضة السابقة. فهذا التجمّع يضمّ بين صفوفه زعماء تقليديّين لا يختلفون في الشقّ الاقتصادي عن نظرائهم في الموالاة. فهم من هواة المحاصصة وأكل الجبنة، وما كانت الحريريّة لتحقّق مشروعها المنحاز طبقيّاً، لو لم يسهّل لها هؤلاء الأمر مقابل بعض المكاسب والغنائم.
وفي المعارضة أيضاً حزب اللّه الذي قضى أعواماً يتفرّج على النهب المنظّم ينهش جسم البلاد من دون أن يحرّك ساكناً، مرتضياً بذلك تقسيم العمل الذي أدارته سوريا في لبنان: أعطِ ما للمقاومة لحزب اللّه، وما للاقتصاد لرفيق الحريري. كما قدّم حزب اللّه خدمته الكبرى للحريريّة عبر لجم فقراء الضواحي وتقنين حركاتهم الاعتراضيّة.
وتضمّ المعارضة، ثالثاً، شخصيات وفصائل يساريّة، إلا أنّها ليست في موقع يسمح لها بالتأثير على موقف المعارضة ككلّ. ناهيك بفقدانها أي حيوية فعلية.
يبقى إذاً التيّار الوطني الحر الذي لم يكن شريكاً للحريريّة في عمليّة النهب، ولا في تقاسم العمل والنفوذ. قضى التيّار تلك الحقبة مهمّشاً ومبعداً عن السلطة، فلم يشارك في غنائمها ولم يبصم على أخطائها. لكنّ التيّار لم يحمل في خطابه أيّ رؤية اقتصاديّة، ولا حتّى نقداً اقتصادياً حقيقياً للحقبة السابقة، وتأرجح في أدبيّاته بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، قبل أن يستقرّ على شعارات شعبويّة من قبيل مكافحة الهدر والفساد. لكن، رغم ذلك، يتمتّع التيّار بميزتين: أوّلاً، عدم مشاركته في السلطة سابقاً تعفيه من الدفاع عن إرثها وتركيباتها. ثانياً، إنّ أيّ تسوية بين «المستقبل» وحزب اللّه للعودة إلى المعادلة السابقة ستكون حتماً على حساب التيّار، وهذا ما يجعل الأخير أكثر تمسّكاً بالمساءلة والمحاسبة وإجراء تغيير في السياسات الاقتصاديّة المتّبعة منذ الطائف. ولا يمكن تجاهل ما قام به النائب ابراهيم كنعان في لجنة المال والموازنة، ولا ما يقوم به الوزير شربل نحّاس داخل وزارته وداخل مجلس الوزراء. إلا أنّ هاتين التجربتين لا تزالان في بداياتهما، ولا شيء يمنع التيّار من التضحية بهما عند أوّل فرصة سياسيّة سانحة. فماذا لو توسّعت مروحة المحاصصة لتضمّ التيّارَ ممثِّلاً عن المسيحيّين؟ وماذا لو كان الانخراط في الصفقات المشبوهة المغطّاة من الدولة أكثر إغواءً من معارضة قد لا تعطي ثمارها؟ يبقى الرهان إذاً على محاسن الصدف. تلك الصدف التي تجعل من تراجع التيّار الوطني الحرّ عن تبنّي خطاب إصلاحيّ حقيقيّ عمليّةً أشبه بالانتحار السياسيّ. المشكلة هي أنّ الجنرال لم يلغِ من قاموسه يوماً الخيارات الانتحاريّة.