strong>كميل داغر*لا ريب في أنه كان من دواعي سروري أن يبادر الحزب الشيوعي اللبناني إلى الدعوة لانعقاد ما جرت تسميته «اللقاء اليساري العربي»، الذي يتم تحت لافتة «بحث انعكاسات الأزمة الرأسمالية العالمية على بلداننا العربية، وكيفية مواجهتها، بالإضافة الى ضرورة توحيد رؤية اليسار العربي وبلورة أشكال مقاومة سياسات العدوان والاحتلال التي تنتهجها الرأسمالية، الأميركية بالتحديد، ضد شعوبنا، بدءاً بالشعب الفلسطيني».
وأنا أقول سروري، لمجرّد أن ذلك يحرك، ولو قليلاً، المياه الراكدة لحالة الاعتراض في المنطقة العربية، وإن كانت هذه الدعوة، التي تعترف بالأزمة العميقة جداً لهذا اليسار، ربما تكون تتجاهل كون هذه الأزمة من الحدة والخطورة بحيث تجعل التعويل على القوى الموجودة بالفعل تحت هذه التسمية، في واقعها الراهن، أمراً جزافياً، إذ هي عاجزة، بالتأكيد، عن تقديم إسهام جدي في المواجهة المدعو إليها.
بمعنى آخر، ربما كان من المفضّل أن يبحث أي لقاء يتطلع الى خوض مواجهة ظافرة مع الهجمة الإمبريالية والصهيونية الحالية، في المواصفات الملموسة المطلوبة ليسار يُفتَرضُ إعادة بنائه، وبالتالي في ما تتطلبه إعادة تأسيس حقيقية لهذا اليسار، في لبنان، كما في سائر أنحاء الوطن العربي الكبير. على أن يجري التركيز، بعدئذ، على المهام البرنامجية الأساسية التي سيكون على هذا اليسار أن يضطلع بالسعي إلى وضعها موضع التنفيذ. وهو ما يمكن، في سياقه، أن يستوفي يسار كهذا الشروط الضرورية لكسب الهيمنة على المستوى الجماهيري، وسحب البساط، تالياً، من تحت القوى اليمينية الرجعية التي تحظى الى الآن بهذه الهيمنة، أو تقترب من ذلك. وأنا أعني، بوجه أخص، القوى السلفية الدينية مهما تكن طبيعتها، ومهما يكن مَنْشأها. في كل حال، فإنه قبل صياغة الخطوط الأولى للبرنامج السياسي، وتحديد المهام المشتركة ليسار عربي قابل للحياة، وقادر على التغيير الجذري، ومن ضمن ذلك على مواجهة ناجحة «للعدوان والاحتلال والسيطرة الإمبريالية والصهيونية»، وضمان «النهوض الاقتصادي والتنمية والتطور الاجتماعي»، وحماية «الحريات العامة والديموقراطية والمساواة»، ثمة ضرورة قصوى لتحديد هذا اليسار، بعدما فقد اليسار القديم كامل صدقيّته، وبات عاجزاً عن حشد «الكتلة التاريخية» العربية ـــــ إذا صح التعبير ـــــ التي من شأنها إنجاز تلك المهام. وربما يكون من المفضّل أن نبدأ بتعريفه بالصفات التي ينبغي ألا تكون صفاته، فنقول:
إنه ليس اليسار الذي يدخل في تحالفات وجبهات مع أنظمة طبقية معادية، ولا سيما تلك القائمة على الاستبداد والقمع، مهما تكن الحجج والذرائع، وليس أيضاً ذلك الذي لا يكون شديد الحرص على الاستقلال الكامل عن أي من تلك الأنظمة، والشجب الشديد وبلا هوادة لذَيْنك الاستبداد والقمع.
إنه ليس اليسار الذي تغيب عن حياته الداخلية المقومات الأساسية لديموقراطية حزبية حقيقية، مع ما تفترضه من حق تشكيل الاتجاهات والدفاع عن نصوصها وآرائها، ومن شفافية قصوى، على شتى الصعد، بما في ذلك الصعيد المالي، وابتعاد عن كل المناورات والألاعيب الستالينية القائمة على تزوير الأحجام والنّسَب في الانتخابات التنظيمية.
إنه ليس اليسار الذي تنقصه شجاعة السعي إلى تأمين شروط امتلاك الهيمنة في الحركة الجماهيرية، والمبادرة، تالياً، الى قيادة تلك الحركة نحو انتزاع السلطة السياسية في الدولة والمجتمع.
إنه ليس اليسار الذي يحجم عن السعي الدائم، في علاقته بالمكونات الأخرى للحالة الوطنية والديموقراطية والتقدمية في المجتمع، ليس فقط إلى طرح قيادة الطبقة العاملة وفكرها لسيرورة التغيير، ولأي تحالف على طريق ذلك، بل إلى المبادرة أيضاً في اتجاه كل ما يمكن أن يضمن بلوغ هذا الهدف.
إنه ليس ذلك الذي يمتنع، في إطار علاقات التحالف التي ينسجها مع القوى الأخرى، عن نقد تلك القوى، حين يكون ذلك ضرورياً، لا بل حتى التشهير بها عند الاقتضاء. ومن ذلك، حتماً، خوض الصراع الأيديولوجي الى نهاياته مع الفكر السلفي الرجعي، حتى وإن كانت ظروف المعركة الوطنية، ضد الإمبريالية العالمية وإسرائيل، تستدعي اللقاء مع قوى حاملة لهذا الفكر تقوم بدور أساسي في تلك المعركة.
إنه ليس ذلك الذي ينطلق من منطلقات قطرية بحتة، ويغلِّبها على متطلبات التغيير الثوري، على المستوى القومي الواسع، بوجه أخص، وحتى على المستوى العالمي، عموماً، إذ إنه ينبغي أن يكون بين أولويات يسار حقيقي ربط أوثق العلاقات بقوى التغيير الثوري في الأقطار العربية الأخرى، ليس فقط في اتجاه مجرد التنسيق (كما هو وارد في أوراق الدعوة إلى اللقاء اليساري العربي)، بل أكثر أيضاً، في اتجاه إرساء وحدة حقيقية معها، من ضمن منظور أساسي لتسهيل سيرورة التحرر من الهيمنة الإمبريالية وما لازمها من عواقب وخيمة، في مقدمها وجود دولة إسرائيل، فضلاً عن تسهيل عملية إرساء القواعد المادية للتحرر الاقتصادي والاجتماعي، وبناء الاشتراكية، أقصد منظور الوحدة العربية.
كما أنه ليس ذلك الذي لا تكون قضية التحرر الكامل للشعب الفلسطيني، وعودته الكريمة وغير المشروطة إلى وطنه الأصلي، في مقدمة اهتماماته، وشغله الشاغل اليومي. على أن يكون ذلك من ضمن سيرورة تخرج تماماً من أوهام حل الدولتين، ويتم النضال في إطارها من أجل تفكيك الدولة الصهيونية وإحلال دولة ديموقراطية ثورية محلها، متجهة نحو الاشتراكية، على كامل أرض فلسطين التاريخية.

فقدَ اليسار القديم كامل صدقيّته وبات عاجزاً عن حشد «الكتلة التاريخيّة» العربيّة
وأخيراً، وليس آخراً، إنه ليس ذلك الذي يفتقر إلى الشجاعة الأدبية الكافية من أجل الدفاع المستميت عن العلمنة الشاملة في مجتمعات تتفتت أكثر فأكثر، في مطلع القرن الواحد والعشرين بالذات، على أساس الطوائف والمذاهب، وعن حقوق المرأة في المساواة الكاملة مع الرجل، على شتى الصّعُد، كما عن كامل حقوق الإنسان الأخرى، بما فيها حقه في بيئة نظيفة يجري في إطار العمل لأجلها تأمين أفضل الشروط لحماية الحياة (حياة كل الكائنات البشرية، والحيوانية والنباتية)، ليس فقط، في عصرنا، بل أيضاً في العصور المقبلة.
أخيراً، بمقابل الأزمة الخانقة لليسار العربي، يعيش العالم الرأسمالي بأسره أزمة قد تُظهر تطورات السنوات القليلة المقبلة أنها أزمة غير مسبوقة، تتراجع أمامها بوضوح أزمة العشرينيات من القرن الماضي وما تلاها من حرب عالمية طاحنة. وهي أزمة تتورط فيها بعمق الثروات العربية الهائلة التي تبتلعها «وول ستريت» وبورصات الغرب الرأسمالية، بدلاً من أن تؤدي دوراً حاسماً في تنمية العالم العربي بأسره ووضع المداميك الأساسية لوحدة عربية متقدمة لا تخدم فقط مئات الملايين من المقهورين والمضطهدين العرب، ومن ضمنهم الشعب الفلسطيني، بل أيضاً قضية الاشتراكية العالمية، وكرامة الإنسان وسعادته، في كل مكان من كوكب الأرض. إن تحوّلاً كهذا لا يمكن أن يحصل من دون صعود يسار ثوري جديد، على امتداد الوطن العربي، حاولت أعلاه أن أعطي صورة عنه، وهو لا بد من أن يكون بالضرورة يساراً يضع في أعلى جدول أعماله إطلاق المبادرات الجماهيرية الكبرى وأوسع مشاركة شعبية في الحياة السياسية، وفي بناء مستقبل جميل وواعد لشعوبنا.
* محام لبناني (النص مساهمة قدّمت
في الجلسة الافتتاحية للقاء اليساري العربي،
صباح الجمعة الفائت)