خالد صاغيةافتتحت النائبة بهيّة الحريري الحرب المضادّة. ما إن اعترف أركان فريقها السياسيّ بوجود تشوّهات ماليّة وإداريّة منذ 1993، حتّى وضعت أيّ محاولة للمساءلة ولتوزيع المسؤوليّات عن النهب المنظّم الذي كان مستشرياً في الحقبة السابقة في إطار «محاكمة مسيرة رفيق الحريري». وهي محاكمة غير جائزة، على ما يبدو، لكون الرئيس الحريري قضى اغتيالاً.
وإذا ما طبّقنا وصفة النائبة الكريمة، أصبح على اللبنانيّين أن يتبنّوا من دون أيّ مساءلة مسيرة معروف سعد وكمال جنبلاط وبشير الجميّل ورشيد كرامي ورفيق الحريري وآخرين كثر. وهي مسيرات متناقضة، حملت الكثير من الإيجابيّات والسلبيّات. وما التغاضي عن محاكمتها ومساءلتها إلّا إمعان في الفصام الذي يعاني منه اللبنانيّون.
لكنّ الأدهى أنّ السيّدة الحريري ربطت بين من اغتال رئيس الحكومة الأسبق ومن يريد محاكمته اليوم، إذ قالت: «يعتبرون أنّ اغتيال رفيق الحريري بأطنان المتفجرات هو أقلّ ممّا يستحقّ من عقاب وأحكامٍ أصدروا بعضها في عام 98 وبعضها الآخر عام 2004». كأنّ النائبة الحريري تعود خمسة أعوام إلى الوراء، يومَ رأى ابن شقيقها أنّ كل صوت انتخابيّ لـ14 آذار هو رصاصة إلى صدر القتلة، وأنّ الصوت المعاكس هو صوت للقتلة أنفسهم. فعن أيّ قتلة تتحدّث السيّدة الحريري اليوم؟ عن قتلة نام سعد في سريرهم؟ أم عن قتلة تحالف معهم في الانتخابات؟
لكنّ الغريب فعلاً أنّ العائلة الحاكمة لا تخجل من الادّعاء أنّها تريد نقل حكم السلالات إلى لبنان، فتقول نائبة صيدا مثلاً: «إنّ بهيّة الحريري على أتمّ الاستعداد لتحاكَم نيابة عن شقيقها»! كأنّ كرامة العائلة هي المقصودة، وليس السؤال عن أيّ لبنان نريد؟ وأيّ سياسات اجتماعيّة واقتصاديّة ننشد؟
ولكي ترتاح السيّدة الحريري، لا بدّ من تذكيرها بأنّ أوّل الخارجين عن سياسات شقيقها المغدور هو تيّار المستقبل نفسه الذي أصدر وثيقة اقتصاديّة تؤدّي تحيّة لفظيّة للسياسات السابقة، لكنّها تحوي الكثير ممّا يناقض ما فرضه رفيق الحريري نفسه. فالواقع أنّ الحريري لم يخترع البارود. جلّ ما فعله هو تطبيق للوصفات النيوليبراليّة، بعد تكييفها مع الواقع الزبائني والطائفي. وهي وصفات تخطّاها الزمن، وباتت نتائجها الكارثيّة فاقعة، ولا سيّما بعد الأزمة الماليّة العالميّة. فقد ساد منذ نهاية السبعينيّات تيّار هيمن على السياسات الاقتصاديّة في معظم أنحاء العالم. تيّار أعاد هيكلة اقتصادات الدول لمصلحة الطبقات الثريّة (السادات ثمّ مبارك وشركاؤه في مصر مثلاً، والحريري وشركاؤه في لبنان)، ورمى الفتات للأشقياء (تنك زيت، ومنح تعليميّة...). وحين كانت القدرة الشرائيّة لعموم المواطنين تتقلّص، كان المضاربون العقاريّون وأصحاب المصارف يجنون الأرباح الطائلة.
فهل المطلوب السير في السياسات نفسها؟ وهل المطلوب الاستمرار بتهميش الفئات الأوسع من الشعب اللبناني، وفاءً لذكرى الشهيد؟ آن لهذه الدورة الشيطانيّة أن تتوقّف. آن للّبنانيّين بعد كلّ التضحيات التي قدّموها منذ خمسة أعوام أن يستحقّوا وطناً أفضل، وسياسات اجتماعيّة واقتصاديّة أكثر عدالةً، ودولة توفّر لهم الخدمات الأساسيّة بأسعار أقلّ وجودة أعلى.
أمّا الشهداء، فمن المعيب استغلال ذكراهم لنهب مزيد من الثروات.
(غداً: ماذا عن المعارضة؟)