طارق الشدياق *أسعد أبو خليل، يا أيّها الأستاذ اللبناني ـــــ الأميركي في جامعات بلاد العمّ سام، حيث تلتقي يوميّاً بالرجل الأبيض، وتعيش معه منذ سنوات هانئاً مطمئنّاً بدليل رشقك إيّانا هنا في هذا الوطن، بكلمات أقلّ ما يقال فيها إنّها تحمل من قرف العالم الأوّل للعالم الثالث الشيء الكثير. بل بدليل أنّ الرجل الأبيض هناك أنساك أنّك شيوعيّ قديم، وإن كنت اليوم تهرب من هذا الواقع لتدخل في رحاب العبثيّة التي لا هدف لها سوى العبثيّة نفسها.
ولكنّ أمثالك ما استساغوا بعد أنّ لبنان هو وطن قائم بحدّ ذاته، ولا آمنوا بأنّه يجهد ليكون وطن الرسالة كما يريده أهله والعالم، فكيف لهم أن يستسيغوا أن من ناسه من تفوّق فارتقى بنفسه وبلبنان الى مراتب مشرّفة. أمثالك لا هدف لهم سوى تدمير هذا التفوّق ـــــ في ما أسمّيه الشوفينيّة المضادّة ـــــ ليثبتوا أنّهم على حقّ في عدم الإيمان بهذا الوطن، تماماً كما يفجّر الحاسد سيّارة جاره الحديثة لأنّه لا يستطيع أن يأتي بمثلها...
اعترفت في مقالك بهوى جبراني مبكّر. ويبدو أن كتابه «الأرواح المتمرّدة» حاز إعجابك، ففعل في نفسك كما يفعل السحر، وخاصّة قصّة خليل الكافر وخطبه القويّة التي سحرتك في سنّ مبكّرة، وحيث «وجدت فيه جرأة لم تجدها في النصوص المُدرجة في الكتاب المدرسي الذي كان يضجّ ويعجّ بالفكرة اللبنانيّة». كلّ ذلك في سنّ الثامنة أو التاسعة يا رجل! الطفل الذي كنته أدرك جرأة جبران غير الموجودة في نصوص الكتاب المدرسي، وأدرك أنّ أسلوبه «بعيد كلّ البعد عن التكلّف الذي طبع النصوص الإنشائيّة التي فرضها انعزاليّو لبنان الأوائل، من أمثال فؤاد أفرام البستاني وغيره»، كما تقول. يا لعبقريّة الطفل الذي كنته يا أسعد ... وتتحدّث عن أساطير التفوّق اللبناني؟...
ثمّ رحت تلتهم مرّات ومرّات المجموعة الكاملة لمؤلّفات جبران بالعربيّة. لكنّك عندما تخطّيت المؤلّفات العربيّة ووصلت الى كتاب النبي، وجدت «أن «النبي» هو أسلوب، قبل كل شيء، أو أسلوب فقط، لا غير». لماذا وصلت الى هذه النتيجة؟ قد لا تجرؤ وتجيب عن هذا السؤال. سأفعل أنا كي أقول لك إنّ أمثالك مكشوفون عندي. اسمع...
في مؤلّفات جبران العربيّة ثورة على السلطة آنذاك، كلّ سلطة. فهو ثار على السلطة السياسيّة المستبدّة، وعلى السلطة الكنسيّة المستبدّة هي الأخرى، وحتى على السلطة الأبويّة عموماً. هذه الثورة يستسيغها عقلك ويحبّها. كيف لا وهي تطال ما يستلذّه عقلك وقلبك وجوارحك كلّها! ولكن... عندما يرتقي جبران في كتابه «النبي» الى السلام والمحبّة والصداقة والعطاء والحرّية والهدوء الفكري، وعندما يرسم آراءه واضحة في الطريقة المثلى لعلاقة الإنسان بالإنسان، فيحدّثنا عن الزواج والأولاد والشرائع والفرح والترح والألم والصداقة والعمل والتعليم، وعندما يغوص مبدعاً في معرفة النفس والخير والشرّ والصلاة واللذة والجمال والدين والموت، فهذه أمور لا تعني لك شيئاً ليصبح النبي عندك مجرّد أسلوب. خليل الكافر عندك بطل، أمّا «النبي» فمجرّد أسلوب. كلّ ما يدمِّر أنت معه، أما البناء بعد الدمار فلا يعنيك... مجرّد أسلوب. جبران عندك مبدع في كتبه الأولى حيث الثورة، أمّا في كتبه اللاحقة، كتب ما بعد الثورة، فلا يعنيك. هل أدركت الآن ماذا أقصد بالشوفينيّة المضادّة؟
جبران عندك مبدع في كتبه الأولى حيث الثورة، أمّا في كتبه اللاحقة، فهو لا يعنيك!
صحيح أنه لا فكرَ سياسياً محدّداً عند جبران، وصحيح أن كتاباته عن الحريّة كانت خالية من أي مضمون سياسي. ولكن لا أحد يمكن أن ينزع عنه انتماءه اللبناني، لسبب واحد على الأقلّ أنّه ولد في لبنان. شأنه في ذلك شأن الزعيم أنطون سعادة الذي تعرفه وإن كنت لا تحبّه (كونك شيوعياً قديماً)، كما يعرفه صديقك جان الداية مع فارق بسيط أنّه يحبّه، فكلاهما، سعادة وجبران، لبنانيّ، وولد في لبنان. فلا سعادة فلسطيني أو سوري أو كويتي أو عراقي، ولا جبران أيضاً. هذه حقيقة وإن أماتتك في غيظِك. لنكتفِ بهذا السبب، إذ لا داعي لكي أذكّرك بقول جبران: «لو لم يكن لبنان وطني لاتخذت لبنان وطني». وما لا تعرفه أن جبران قال ذات مرّة: «بشرّي موطن قلبي». لقد عبّر جبران جيّداً عن لبنانه في مقالته الشهيرة «لكم لبنانكم ولي لبناني»، فلبنانه ليس عقدة سياسيّة ولا حكومة ذات عدّة رؤوس، وهو ليس ذاك المتّصل بسوريا يوماً والمنفصل عنها يوماً آخر... هو مساحة سلام وحبّ وحرّية، مساحة ناس ذوي قلوب طيّبة، هو مساحة فرح من يعمل بجدّ وينتج بحبّ. هو من حلم به أكثر الذين تناولتهم بسخرية بمقالتك.
أمّا أن أكون، أنا بالذات، مبعوث القوّات اللبنانيّة، كما تقول، بسبب أنّي شكرت نائبَي المنطقة التي أنتمي إليها ـــــ بشرّي ـــــ على دعمهما لي في القيام بمهماتي رئيساً للجنة جبران الوطنيّة، فهذا موضوع يتعلّق بالتربية التي نشأت عليها. فأنا تربّيت على واجب شكر من يقدّم المساعدة والدعم، وأنّ هذا من الأخلاق جوهرها. وما لا تعرفه أنّ نائبي بشرّي تبنّيا مشروعنا المتعلّق بتوسيع متحف جبران وتوأمته مع متاحف عالميّة (منها متحف سميّا (ابنة كارلوس سليم) في المكسيك)، وإيجاد مجلس أمناء مختصّ لإدارته مؤلّف من مثقّفين وجامعيّين من لبنان والعالم. وبات هذا المشروع شغلهم الشاغل. فإذا لم تكن كلمة شكر موجودة في قاموسك فهي في المكان الأوّل في قاموسنا. من ناحية أخرى، فأنا ما دعيت لأشارك في حلقة الأستاذ عبّود المخصّصة عن جبران إلا بصفتي رئيساً للجنة جبران الوطنيّة. ولو تابعتها جيّداً، لأدركت أنّي لم أشكر نائبي بشرّي لأنّهما أتيا بكارلوس سليم، بل لأنّهما أتاحا لي وللّجنة الفرصة للتواصل معه بما يخدم أهداف اللجنة التي أنا مؤتمنٌ على تحقيقها، في وقت كان يمكن فيه أن لا يفعلا ذلك. غريب كيف أنّك لم تسمع ما قلته.
من جانب آخر، تقول إنّي كدت أن أجعل من جبران قوّاتيّاً، لأنّني قلت إنّ جبران كان مسيحيّاً مؤمناً. فهل تريد أن تقول إنّ المسيحي المؤمن هو حتماً قوّاتي؟ وهل كان عليّ أن أقول إنّ جبران كان كافراً كما خليله حتى لا أجعل منه قوّاتيّاً؟ (أعتقد أنّ القوّاتيّين سيفرحون لكلامك هذا). لكن اسمع... هل تريدني أن أقول إنّه كان ملحداً غير مؤمن لأجعل منه شيوعيّاً، ماركسيّاً لينينيّاً كما تشتهي؟ كن صريحاً... هل تريدني أن ألحقه بحزب آخر أو بالعبثيّة فترتاح أنت ويبتسم لي الهيبّيون الذين ذكرتهم؟ لا، يا آدميّ... لن أفعل... لأنّني أعرف البيئة التي عاش فيها جبران وأعرف أمّه كاملة رحمة، ابنة كاهن الرعيّة، وأعرف مسبحة الصلاة التي كانت بيدها تصلّي بها لأجل أولادها... وأعرف أنّ جبران كان محبّاً كثيراً لأمّه ومعجباً بها. ولو تابعت الحلقة لأدركت أنّي أعمل لأجعل الكلّ جبرانيّاً. فمن أهداف لجنتنا نشر الفكر الجبراني أينما كان في العالم.
وقلت إنّ معرفتي بجبران ضحلة... وهي قد تكون كذلك. فأنا ما ادّعيت يوماً أنّي من دارسي وباحثي الفكر الجبراني. لكنّي أعرف سيرة حياته، وأعرف بيئته التي تربّى فيها، وأنا، وإن بتواضع، مطّلع على أفكاره وثورته وقيمه التي تحدّث عنها، وخاصّة في كتاب النبي الذي هو، ليس فقط أسلوباً.
في الحلقة، تحدّثت عن علاقة جبران بالمرأة، وبوطنه، وعن إسهامه النهضويّ في تحديث اللغة. لكنّك لم تسمع... وتحدّثت عن علاقته بالدين وبالمسيحيّة وبالأسلوب الكتابي (الكتاب المقدّس)، الذي كان يعتمده. لكنّك... لم تسمع. لقد أعمتك الشوفينيّة المضادّة عن السمع وعن النظر وعن التفكّر.
وأخيراً، اعلم يا أستاذ... أنّ للجنة جبران حقوقاً تأتيها من بيع كتبه في الولايات المتّحدة. لها نسبة من ريع هذه الكتب تأتيها من دار النشر الوحيدة لكتب جبران هناك ـــــ راندوم هاوس لصاحبها ألفرد كنوف ـــــ وإنّ هذه الدار ترسل سنويّاً ثبتاً بمبيعاتها لنا لكي نحسب معها حصّتنا، ولمصلحة الضرائب الأميركيّة. تماماً كما تفعل كلّ دار نشر هناك. وهكذا يمكن أن يعرف الكلّ نسبة مبيع كتب جبران في أميركا. وستعرف، لو تابعت، أنّ كتاب النبي (الأسلوب كما تقول) هو الكتاب الثاني بعد الكتاب المقدّس الأكثر مبيعاً في الولايات المتّحدة.
شيء آخر لا تعرفه... نحن نتلقّى من مختلف دول العالم طلبات لإقامة معرض لرسوم جبران في متاحفها. وأن برنامجنا للأعوام الثلاثة المقبلة يتضمّن معارض في: أوستراليا، ألمانيا، قطر، سويسرا، فرنسا، لندن والولايات المتّحدة. بالإضافة الى طرابلس في لبنان بعد بيروت، وبعدها في بكفيّا. لا يا أستاذ... جبران معروف في كلّ العالم، أمّا لماذا لا يعرفه تلاميذك، فأمر لا يدهشنا إذا ما كنت أنت أستاذهم.
أخيراً... يا ليتك بقيت ذلك الطفل العبقري. ولكن كن ما شئت، شوفينيّاً مضادّاً، أستاذ علوم سياسيّة، شيوعياً، عبثيّاً... ما لي
ولك؟
* رئيس لجنة جبران الوطنيّة