أنطوان فليفل *يضيق بي المقام هنا إن وددت التكلّم على كل محاولات استنهاض مسيحيي لبنان والشرق وإنقاذهم. فالمؤتمرات والندوات والكتابات والتجمعات واللقاءات والخلوات والتحركات، لا تني استثارة أوضاع المسيحية المشرقية وأفولها أو تراجع حضورها في كثير من الأقطار العربية. فالتقاسيم تتنوع والنغمة واحدة: خطر الزوال، اضمحلال الشهادة، إعادة تفعيل الدور، النزف الديموغرافي، الإحصاءات العددية، تضاؤل الإسهام الحضاري والثقافي، أخطار الأصوليات المتنامية، قرائن المصالح الإقليمية والدولية. لا شك بأن الكثير من هذه المعطيات تعبّر عن واقع أليم معيش. ولا ريب أن البحث العلمي الحصيف ضروري للتبصّر في أنجع سبل التلاقي الإنساني والعيش في المدينة. ولكن المشكلة هي في طريقة تناول إشكالية الحضور المسيحي العربي، وفي الأكثرية الساحقة من المحاولات التي ينتهي غالباً دورها مع انتهاء آخر محاضرة، فتوضع النصوص على رفّ مكتظّ بالكتب والملفات والغبار.
يندرج السينودس المنعقد الآن في حاضرة الفاتيكان من ضمن المحاولات الرامية إلى تحسين أوضاع المسيحيين والمسيحية في المشرق. لا شكّ أنّ عدداً من ذوي النيّات الحسنة والقدرات العلمية والمزايا الإنسانية والأخلاق الإنجيلية موجودون في صفوف هذا الجمع الإكليريكي الذي يفتقر أشد الافتقار إلى حضور النساء والعلمانيين والأشخاص المتزوجين، ولا ريب أنّ بعض المداخلات والأفكار لا تخلو من الحكمة والقراءة الفذة للواقع. ولكن الكثير من المؤشرات تحثّ المراقب على عدم انتظار أي نتيجة عملية ومحسوسة من هذا السينودس. فنحن بعيدون كامل البعد عن واقع سينودسات تحدث تغيرات كبيرة، كذلك الذي انعقد في أميركا الجنوبية في مدينة مدلين عام 1968 والذي ولد من رحمه لاهوت التحرير الذي واجه الفقر واللاعدالة الاجتماعية ووقف بوجه الرأسمالية والروح الاستعمارية الحديثة للغرب. ولربّما تكون هذه أول إخفاقات هذا السينودس الفاتيكاني في أنّ همّه يصيب بالأساس أحوال فئة مذهبية واحدة من المجتمع العربي، وكأنّ الفقر، والصهيونية (وهي لم تفرّق بين مسلم ومسيحي فلسطيني)، والإرهاب (وقد تأذّى منه المسلمون أكثر من المسيحيين في العراق)، والسياسة الغربية (وقد رأينا كيف حافظت الدولة المسيحية العظمى، الولايات المتحدة، على المسيحيين في العراق)، والظلم الاجتماعي، والحالة الاقتصادية المتردية، والهجرة، والجوع، والكثير من العوامل الأخرى التي تغرّب الإنسان عن ذاته، وكأنّ كل تلك تميّز بين مسيحي ومسلم. فمن يجب إنقاذه في الشرق العربي؟ أهو المسيحي والطائفة أم هو الإنسان؟ وهل أخطار الأصوليات الدينية والهجرة أعظم شأناً من أخطار الجهل والانطواء على الذات والتخلف؟ وعليه، فإنّ أسباباً كثيرة تدفع بنا إلى الشك بقدرة هذا السينودس على الإتيان بنتائج عملية، نذكر منها ثلاثاً:
أوّلاً، من الصعب الإذعان بفعالية مبادرة كنسية تخص مسيحيي المشرق، وتنعقد على نحو أحادي في ديار الكنيسة اللاتينية في الفاتيكان، وخارجاً عن الشرق. ربّما أراد هذا العهد البابوي أنّ يؤكد، من ضمن سياسته التقليدية، محورية «خلافة بطرس» حتى في أرض العرب، ولكن من النافل التصديق أن سينودساً لا يضم كل المسيحيين العرب، وأغلبهم من غير الكاثوليك... سينودساً لا يقوم على أرضنا المتألمّة، يمكنه أن يأتي بحلّ ما. فمكانة «كرسي بطرس» ما زالت موضع إشكاليات كبيرة لدى الكنائس الأرثوذكسية، وهي تمثّل الأغلبية في الشرق الأوسط. فعدد من مسؤولي هذه الكنائس يتساءلون كيف يمكن سلطةً كنسيةً كانت مسؤولة عن إحداث الانشقاقات في كل الكنائس الشرقية وإضعافها، أن تضطلع بحل ما، وهي ما زالت تعتبر نفسها كالتجسيد الكامل الوحيد لكنيسة المسيح.
كيف يمكن سلطةًَ كنسيةً مسؤولةً عن الانشقاقات في الكنائس الشرقية، أن تضطلع بحل لمسيحيّي الشرق؟
ثانياً، كيف يمكن أن تستقيم أوضاع المسيحيين المشرقيين وهم لا يجلسون معاً ولا يبحثون عن سبل الاستقامة. هل بلغ قسط منهم حالة استقالة وجودية متقدمة تقودهم لشلل ذاتي يوجب قيام مبادرات غربية لاستنهاضهم؟ هل كُتب على أبناء هذه الأرض أن يُعتبروا أو أن يَعتبروا أنفسهم قاصرين وموصى عليهم حتى في أمورهم الدينية؟ إن أراد المسيحيّون المشرقيون الشهادة والدور والوجود الحر، فالحلول المناسبة ليست موجودة في روما، ولكن في اجتماع كل الكنائس في الشرق، من دون استعلاء أي واحدة على الأخرى، وبروح وطنية وإنسانية، بعيداً عن الطائفية والتقوقع الديني. ربّ قائل إن أحوال مجلس كنائس الشرق الأوسط سيّئة جداً، وإنّ العلاقات بين بعض الكنائس متوترة، وهذا كلام فيه نظر. ولكن إن أرادت الكنيسة الكاثوليكية أن تضطلع بدور إنقاذي في الشرق، فهنا فرصتها، إذ إنّ الأمين العام المقبل لمجلس كنائس الشرق الأوسط عليه أن يكون، بحسب قانون المداورة، كاثوليكياً. فالتحدي الحقيقي للكنيسة الكاثولكية ليس في روما حيث كل المجتمعين كاثوليك أو تقريباً، ولكن في أرض العرب، حيث اجتماع كل الكنائس وأغلبها رسولية وعريقة، أقلّه بقدر عراقة كنيسة روما.
ثالثاً، إنّ الغائب الأكبر الوحيد ليس فقط الشريك المسيحي غير الكاثوليكي، ولكن أيضا الشريك المسلم. فوجود بعض المسلمين الحسني النية في السينودس لا يعني حضور الفريق الذي يتشارك معه المسيحيون المشرقيون الحياة والمصير. فهل من آفاق للمسيحيين في الشرق من دون المسلمين؟ وهل من حل ممكن لمعضلات المسيحية العربية من دون أن يشارك المسلم في صياغة لهذا الحل؟ لا جرم أنّ غياب المسيحيين غير الكاثوليك وغياب المسلمين عن اجتماع يخصّ المسيحيين المشرقيين هو خير مؤشر على أنّ هذا السينودس لن يكون أكثر من أنشودة جميلة تنشد، وتفسح المجال بعد قرع أوتارها إلى صمت الواقع.
لن تنقذ روما مسيحيي الشرق، وقد رأينا النتائج غير المرضية لزيارة أسقف روما في العام المنصرم على أحوال مسيحيي الأراضي المقدسة الذين ما زالوا يعانون، كما إخوتهم المسلمون، من تصرفات الاحتلال الصهيوني. ولن يُنقذ الغربُ مسيحيي الشرق، وهو مسؤول عن الكثير من ويلاتهم. لن ينقذ المسيحيين في الشرق إلا المسيحيون الشرقيون أنفسهم، عندما سيجلسون معاً، في الشرق، مع شركائهم المسلمين والعلمانيين، بروح مسكونية وحوارية. وحينها، عندما يكفون عن البكاء على الأطلال، وعندما يلتزمون كل قضايا الإنسان العربي الحقة، بعيداً عن التمييز الديني والطائفي، ونصرة للفقير وللمظلوم، أياً كان، وبحثاً عن الإنماء الاجتماعي، والحضور الثقافي، والالتزام الوطني العلماني، حينها سيضحي وجودهم ضرورة حياة للشرق، حينها سيكونون فعلاً كما يريدهم سيّدهم، ملحاً للأرض ونوراً للعالم.
* دكتور في الفلسفة