سعد الله مزرعاني*في مجرى التطوّرات الدراماتيكية والصاخبة والدامية في النصف الأوّل من عام 2005، اندلع نقاش، سري غالبًا، بشأن مسألة لمن يعود الفضل، داخليًا، في إخراج القوات السورية من لبنان في أواخر نيسان من العام نفسه؟ طبعًا، دار هذا النقاش بين أطراف فريق 14 آذار الأساسيين. فيهم من قال إنّ العامل الحاسم في الخروج السوري كان دم الشهيد رفيق الحريري. ومنهم من ردّ السبب الأساسي إلى تظاهرة 14 آذار الكبرى، التي أسقطت في الشارع ما بقي من سلطة «النظام الأمني السوري ـــــ اللبناني» المشترك، وحيث إنّ «الغنم بالغرم» فقد كان شدّ الحبال هذا يستبطن التنافس على الدور والنفوذ في السلطة العتيدة التي ستتولى أمور البلاد بعد استقالة حكومة الرئيس عمر كرامي، وبعد انتهاء المهمة الاستثنائية السورية في لبنان، التي كانت قد بدأت في عام 1989 إثر إقرار اتفاقية «الطائف»، وامتدّت طيلة أكثر من خمس عشرة سنة متواصلة.
لم يكن أحد من فريق 14 آذار يجادل في كون الانسحاب السوري كان عملية أطلقها حدث اغتيال الرئيس رفيق الحريري، ولم يكن أحد يجادل أيضًا في أنّ الانسحاب هو مسألة بالغة الأهمية، بل إنّه تطوّر تاريخي وانعطافي ومفاجئ، بكل ما في الكلمة من معنى. كان الجدال بشأن مساهمة الأطراف في التحرّك والمبادرة والفعل والضغط والاختراق. وكان كلّ طرف ينسب إلى نفسه المساهمة الأكبر، لينال مقابل ذلك، الحصّة الأكبر في السلطة العتيدة.
لكنّ الذين كانوا يتنافسون على إظهار «الفضل» المذكور، كانوا يدركون في أعماقهم أنّ نقاشهم جزئي أو مبتور في أحسن الأحوال. ذلك أنّ «فضلاً» كبيرًا أيضًا، في تحديد مسار التطوّرات، إنّما يعود إلى العامل الخارجي، والأميركي منه على وجه الخصوص. وما كان سوء التقدير وهوس المنافسة قد يوصلان إليه في النهار، كان يصوّبه سريعًا في الليل، مركز القرار والتخطيط والتوجيه الأميركي: البعيد في واشنطن، والقريب في مقرّ السفارة الأميركية في «عوكر».
إنّ إنجاز الانسحاب السوري من لبنان، وإسقاط هياكل سلطته التي أنشأها خلال عقد ونصف عقد، باستثناء رئاسة الجمهورية، عُدّ دون أدنى تردّد، وبإجماع كامل، من جانب فريق 14 آذار، الثمرة الأساسية لمرحلة ما بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري. أي يمكن القول، تكرارًا، إنّ عملية الاغتيال كانت المحرّك والسبب الأساسي، في التطوّرات والتحوّلات التي حصلت إثرها، والتي أسهمت فيها قوى عديدة من الخارج والداخل على حدّ سواء.
هذه الاستعادة، لاستذكار أيضًا، هتافات وشعارات كان من بينها: «سوريا اطْلعي برّا». وكان من بينها: «العدالة لا الانتقام»، و«الحقيقة»... لكنّ ما حصل، هو أنّ «حكمًا» سياسيًا وأمنيًا وشعبيًا محليًا وعربيًا وإقليميًا ودوليًا، قد صدر بإدانة سوريا ونظامها في سوريا وفي لبنان. وقد أُنشئت «المحكمة الدولية الخاصة»، لإنزال العقاب بالمسؤولين عن الاغتيالات على مرأى من العالم أجمع ومسمعه. ولم تفعل تقارير التحقيق الدولي سوى تأكيد وتكريس هذه «الحقيقة» التي بقيت في حينه، بعض تفاصيلها فقط مجهولة ويجب كشفها أمام العالم، ولو تطلّب الأمر بعض الوقت أو الاستعانة بهدف التسريع والحسم، ببعض الشهود الذين يفضَّل أن يكونوا سوريين أيضًاً!
إنّ النتائج التحريرية لدم الحريري هي ما جرى التركيز عليه طيلة سنوات، ويوميًا: في الشارع والمواقف والمنابر الدولية والإعلامية والسياسية. وبشكل من المثابرة والإلحاح، قلّ نظيرهما.
هذا هو المشهد اللبناني الذي تابعه العالم أجمع طيلة سنوات طويلة ولاهثة. وتلك كانت أبرز إنجازات «ثورة الأرز» التي استطاعت «تحرير» لبنان وإخراج القوات المحتلة منه بجرأة استحقّ عليها الرئيس السنيورة، قبلات الوزيرة «كوندي»، إشادة لا تكلّ ولا تملّ من سيّد البيت الأبيض الأميركي، جورج بوش الثاني، الذي كانت قواته قد غزت العراق قبل سنتين.
والواقع أنّ إنجاز إخراج القوات السورية من لبنان، كان يمكن أن يتحوّل ثمنًا تاريخيًا بذاته وبمعزل عن المسؤولية عن دم الحريري، لو لم يتبيّن سريعًا أنّ ثوار الأرز كانوا على علاقة وثيقة مع الإدارة الأميركية. وكانت هذه العلاقة تنطوي على نوع من الالتحاق والتبعية، في آن واحد: الالتحاق بالخطة الأميركية الناشطة بدءًا من احتلال العراق وسيلة لتأمين مزيد من الهيمنة على كلّ «الشرق الأوسط الواسع»، والتبعية من حيث انعدام قدرة هؤلاء الثوّار على صياغة مواقف خاصة بهم، بما يستجيب لحاجات الوضع اللبناني ويراعي صراعاته وموقعه ومصالحه أيضًا، في خضمّ الصراع المرير الدائر في المنطقة وفي خضمّ التناقضات اللبنانية المحتدمة: قديمها وجديدها.
وكانت تلك، أي الالتحاق والتبعية، نقطة الخلل القاتلة ليس فقط في مواقف إحدى الكتل اللبنانية المتصارعة، بل أيضًا إزاء المسألة التي يجري البحث عن «الحقيقة» بشأنها، وهي قضية اغتيال الحريري.
هذا الخلل الموصوف هو الذي قاد، أيضًا، إلى أن يقول السيّد سعد الحريري، رئيس الوزراء الوريث للموقع وللقضية، في 6 أيلول الماضي لجريدة «الشرق الأوسط» السعودية، إنّ اتهام سوريا كان سياسيًا! وهو بطبيعة الحال، الذي يفرض عليه أن يقف مربكًا ومتردّدًا اليوم، ومطالبًا أيضًا بأن يتبنّى توجيه الاتهام نحو طرف آخر هو أفراد من «حزب الله».

نسف الحريري «الإنجاز» السياسي الأساسي لـ«ثورة الأرز» ووجّه طعنة إلى المحكمة

الخضوع لإملاءات الخارج هو الوجه الآخر للاستقواء بهذا الخارج، ولا سبيل إلى الإفلات من هذه المعادلة
قال الحريري ذلك بطلب من السعودية وفي امتداد مناورات تمارسها قيادة المملكة خدمة لمصالحها. لكنّه قال ذلك! وهو في قوله هذا، قد نسف «الإنجاز» السياسي الأساسي لـ«ثورة الأرز»، كما وجّه طعنة نجلاء إلى «الحقيقة» وإلى المحكمة على حدّ سواء.
إنّ الخضوع لإملاءات الخارج هو الوجه الآخر للاستقواء بهذا الخارج. ولا سبيل إلى الإفلات من هذه المعادلة. فكيف هنا، إذا اجتمعت التبعية مع الرعونة أو في أحسن الأحوال الافتقار إلى حسن الإخراج أو حتى الافتقار إلى مجرّد إمكان ذلك!
كان يستطيع موقف مستشرف ووطني وغير فئوي، موقف يستلهم مصالح البلاد، أن يتخذ صيغًا متعدّدة، منها، مثلاً، وأساسًا، إضفاء صفة تحقيق «التحرير» في مقابل دم الحريري، ثم الانخراط بعد الانسحاب السوري، في «لملمة» الوضع اللبناني ووقف التدهور والانقسام اللذين ما زالا يتعمّقان فيه حتى اليوم.
عوضًا عن ذلك رُفعت شعارات أميركية من نوع إسقاط النظام السوري في سوريا بعد إسقاطه في لبنان... ومنها تصوير كلّ المعترضين إلى أيّ معارضة انتموا، قتلة ومأجورين وخارجين عن «الإجماع» اللبناني...
واليوم تتكرّر هذه الأخطاء: انتظروا المحكمة لتعرفوا المتهم بينما الحريري يقول بكامل الثقة وحتى الاعتذار، إنّ الاتهام لسوريا كان سياسيًا! ألم يكن الأجدر بسعد الحريري أن يؤجّل التبرئة إلى ما بعد القرار الظني، كما يطالب الآخرين بأن يفعلوا!...
إنّها «الميزة» التي تطبع السياسة في لبنان: الفئوية والارتهان وعدم الاستشراف والعجز عن تقديم أولوية المصالح الوطنية على كلّ ما عداها: إنّه النظام الفريد و«الصيغة» المعجزة. إنّها «نعمة» لم يُنعم الله على سوانا بها، ليبقى بلدنا متأرجحًا، بل مترنّحًا، ما بين الوجود والزوال، على مذبح المصالح الفئوية والمشاريع الاستعمارية!
* كاتب وسياسي لبناني