strong>قاسم عز الدين *القرار الاتهامي الذي سيصدره «المجتمع الدولي» آجلاً أم عاجلاً على المقاومة، هو تعويض عن حرب عسكرية وتمهيد لحرب عسكرية في الوقت نفسه. فهو تعويض عن حرب لم يستطع «المجتمع الدولي» استكمالها عام 2006، وتمهيد لحرب لا يستطيع أن يخوضها «المجتمع الدولي» اليوم، لكنه يعمل على توفير ظروفها منذ «وقف إطلاق النار» استعداداً لاستكمال الحرب. والقرار هو بحد ذاته إعلان حرب، بل إن إعلان الحرب سبق صدور القرار، ليس فقط في التسريبات الإعلامية وفي «تطبيع» من يمكن تطبيعه في محتوى القرار، بل في وجهة «المحكمة الدولية» التي لا تحتمل وُلوج التحقيق نحو أجهزة دول «مجلس الأمن» وطفلها المدلل إسرائيل. فبناء «المحكمة» في انتدابها على القضاء اللبناني، تحت سيادة الفصل السابع في «مجلس الأمن»، هو بحد ذاته قرار إعلان حرب استهدف الوصول إلى المقاومة من الباب الخلفي حين كان الاتهام موجّهاً ضد الضباط الأربعة وسوريا، ويستهدفها مواجَهَة بعد إقفال الأبواب الخلفية. ولم يكن تخلّي القضاء اللبناني عن أبسط مسؤولياته في التحقيق وفي المراقبة وفي تصحيح المسار.... إلى سلطة الانتداب، إلّا تسهيلاً لحرب دول «المجتمع الدولي» على المقاومة في نهاية المطاف. لكن رد المقاومة على إعلان الحرب جاء مفرطاً في براغماتية إدارية عملانية، ولم يتصدّر دفاعها المشروع عن النفس طموح سياسي أقلّه تحرير القضاء اللبناني من سلطة انتداب «المجتمع الدولي».
فالقرار الاتهامي بات معروفاً في ختام عمل هيئة تحقيق حكمت «مهنيتها» القانونية قواعد «مجلس الأمن» في ثلاث: 1– لا يمكنها التحقيق أو حتى الاشتباه في أيٍّ من أجهزة دول «مجلس الأمن» والأجهزة الملائكية الأخرى التي ترعاها دول يحق لها الاستناد إلى سلاحها النووي في «الحكم الدولي الرشيد» 2– التنسيق والتعاون مع أجهزة دول «مجلس الأمن» والأجهزة الأخرى «ذات الصدقية الأمنية الدولية» مثل إسرائيل: في التقنيات وفي جمع المعلومات وتحليلها، وفي المهمات الاستخبارية... (فهيئة التحقيق مرغمة على ذلك بحكم الأمر الواقع حتى إذا كان قضاة التحقيق من الملائكة). 3– عدم المسّ بمصالح دول «المجتمع الدولي»، التي تعلو بحكم قواعد الدول ذات سيادة، على القوانين الدولية وعلى قوانين القضاء في كل من دول «مجلس الأمن» حين تتهدد مصالح الدولة. وبقطع النظر عن كفاءة قضاة التحقيق وضميرهم المهني، فإن بناء المحكمة (لا سيما في هيئة التحقيق) تحت سلطة «مجلس الأمن» وحده، من دون توازنه مع قضاء لبناني فاعل يفرض التوازن في مسارات التحقيق، يؤدّي لا محالة إلى انحراف التحقيق حسب أهواء مصالح دول «مجلس الأمن». ولا غرابة ومصالح دول «مجلس الأمن» على ما هي عليه من توافق ضد إيران، أن يصدر قرار هيئة التحقيق على «العناصر الإيرانية» في حزب الله فيصيب عصفورين بحجر واحد. والقرار العتيد، على ما باتت تفاصيله معروفة في أجهزة دول صاحبة السيادة على «التحقيق الدولي»، يستند إلى «قرائن وأدلّة جرمية» لا إلى اعترافات المتهمين أو إلى شهود في الجرم. فهذا الأمر كان يتطلب منحىً آخر من التحقيق يفتح كل المسارات عساه أن يبلغ مبتغاه بمعجزة، على ما دلّت تجارب التحقيقات في الجرائم السياسية الكبرى التي وقفت في وجهها دوماً «مصالح الدولة» (من اغتيال جان مولان والمهدي بن بركة في فرنسا إلى اغتيال كندي وأولف بالمه..) لكن القرار الاتهامي هو غاية «مجلس الأمن» ومبتغاه في إعلان الحرب على المقاومة، تعويضاً عن حرب عسكرية وتمهيداً لحرب في الوقت نفسه. ولا تستطيع المقاومة غير العمل على تعطيل صدور قرار إعلان الحرب في «مجلس الأمن» إذا تسنّى لها ذلك، والعمل كذلك على تعطيل القنابل الموقوتة التي يؤدي إليها صدور القرار في لبنان والعالم العربي.
ومن المستبعد جداً نجاح المقاومة في تعطيل قرار إعلان الحرب في «مجلس الأمن». فهو شأن استراتيجي جيو – سياسي مرتبط بما يسمى «نبذ العنف»، وحماية أمن إسرائيل، ومرتبط كذلك بالتحولات الإقليمية وأثرها على ستاتيكو النظام الدولي – الإقليمي المأزوم.. لكن العمل على تعطيل القنابل الموقوتة التي يسعى القرار إلى تفجيرها في لبنان والمحيط الإقليمي ممكن، بل هو في متناول اليد لقلب ضغط البخار في اتجاه مصدرها في «مجلس الأمن»، بشرطين: أ – مقاربة قرار إعلان الحرب على مستوى تعقيد خطة «مجلس الأمن» وأدواته في مشروع سياسي متكامل مقابل مشروع سياسي متكامل. ب – مجابهة إعلان الحرب تحت العنوان نفسه الذي اختاره «مجلس الأمن» مسرحاً للحرب في «كشف الحقيقة ومعاقبة المجرمين». فالمقاومة مستهدفة معنوياً وجسدياً في قرارإعلان الحرب، لكن هذا الاستهداف المعنوي والجسدي ليس غاية بذاتها، بل هو محاولة إزالة سد منيع أمام زحف دول «المجتمع الدولي» على حقوق ومصالح لبنان والمحيط الإقليمي، لصالح «أمن إسرائيل» والستاتيكو الدولي – الإقليمي في: 1– فرض انتداب «المجتمع الدولي» على السياسة الخارجية، والسياسة الدفاعية، والسياسة الاقتصادية – الاجتماعية. 2 – احتلال فراغ مؤسسات «الدولة» في لبنان والمحيط الإقليمي، والعمل على تقديس الاحتلال بصفته «العبور إلى الدولة» وسيادتها. وفي هذا السياق من المهم نجاح المقاومة في إدارة معركة تعطيل قرار إعلان الحرب وتعطيل القنابل الموقوتة التي يعمل على تفجيرها، دفاعاً عن النفس. لكن الأهم نجاحها في مسار تعطيل احتلال «المجتمع الدولي» فراغ مؤسسات «الدولة»، دفاعاً عن الحقوق والمصلحة العامة، ودفاعاً عن النفس في إثر الدفاع عن الحقوق.
لقد نأت المقاومة بنفسها طويلاً عن «التدخل في الشؤون الداخلية». ونجحت حتى انقلاب السلطة من تحت دلف الوصاية السورية إلى تحت مزاريب انتداب «المجتمع الدولي» عام 2005، في الحفاظ على استراتيجية «كل الجهود نحو العدو الصهيوني». لكن هذه الاستراتيجية باتت بعد انتداب «المجتمع الدولي» على السلطة، عبئاً على استراتيجية المقاومة. وباتت خطوط المواجهة السياسية في «مجلس الأمن» عبر انتدابه على السلطة التي تتبنى خيارات «المجتمع الدولي». وقد جرّت هذه الخيارات السياسية وراءها نصف الناس لأسباب متداخلة شأنهم شأن باقي خلق الله في هذه المعمورة الذين ضاقت فيهم حيلة التحرر من جور منظومة «المجتمع الدولي». وقد نأت المقاومة بنفسها «عن التدخل في هذه الشؤون» إلّا ما ندر في دفاعها عن النفس. ولم تعمل على صوغ خيارات سياسية بديلة لخيارات «المجتمع الدولي» تحفظ لكل الناس حقوقهم السياسية والثقافية والاجتماعية.. في مصلحة عامة (دولة الحقوق) بعد تضحيات جمّة حفظت لهم الحقوق الوطنية. بل إن المقاومة لم تعمل خلال خمس سنوات على وقف التطاول عليها في هرطقة «العبور إلى الدولة» التي تتزين فيها أمام الناس قوى سلطة «إنكشارية» جعلت مؤسسات «الدولة» مزرعة خاصة، وما زالت تتباهى بإعادة انتداب «المجتمع الدولي» إلى ما تركته السلطة أثراً بعد عين في هيكل كان يشبه الدولة.

القرار الاتهامي هو غاية «مجلس الأمن» ومبتغاه في إعلان الحرب على المقاومة
نجحت قوى السلطة في صوغ منظومة متكاملة من الفراغ السياسي في «الدولة» الذي يملأه انتداب «المجتمع الدولي». وسبقت المقاومة دوماً خطوة في الهجوم على «الدويلة» التي تعرقل احتلال «المجتمع الدولي» لفراغ الدولة. بينما تأخرت المقاومة دوماً خطوة في موقع الدفاع عن النفس. ولم تعمل على صوغ منظومة تتكامل فيها دولة الحقوق إلى جانب الحق في المقاومة، في خيار تبادل المنفعة والمصالح في المحيط الإقليمي، مقابل خيار انتداب «المجتمع الدولي». ولعل استباق المقاومة اليوم قرار إعلان الحرب في «مجلس الأمن»، يتجاوز الدفاع الوقائي عن النفس إلى الفعل في ملء الفراغ السياسي في «الدولة» محل انتداب «المجتمع الدولي». لكن هذا الأمر يقتضي أن تدافع المقاومة عن تحرير القضاء من الانتداب عنوان دفاعها المشروع عن النفس في: أن الدولة، (أيّ دولة غير دولة الموز) لا تسلّم أيّاً من سلطاتها إلى أي مؤسسة دولية. وأن الاتفاقية الدولية لا تعلو على الدستور واستقلال الدولة عن «المجتمع الدولي». وفي أن الدولة لا تساهم في تمويل «المحكمة الدولية» وتتحمل الواجبات دون حقوق في قرار التحقيق مقابل الواجبات. وفي أن الدولة، (غير دولة الموز) لا تثق بأي مؤسسة دولية بل تثق في قدرتها على إقامة علاقات ندّية شديدة الصعوبة. وهو أمر يفترض التشكيك الأقصى شرطاً للوصول إلى أفضل ما يمكن من علاقات شبه متكافئة. وتحت عنوان تحرير القضاء من الانتداب يمكن تأليف هيئة تحقيق برلمانية تبدأ عملها بالتصريح بأن القرار الظني العتيد إذا توافق مع «التسريبات» الصحافية والسياسية، دليل عل سيطرة دول «مجلس الأمن» على القرار، ودليل على خطة مبيّتة في إعلان الحرب. ثم تأليف هيئة تحقيق قضائية للعمل على «كشف الحقيقة» وتحويل ضغط البخار في اتجاه دول «مجلس الأمن» عبر محاكمة شهود الزور وعبر تصويب مسار التحقيق في اتجاه اسرائيل والأجهزة المتعاونة معها..
البراغماتية المفرطة في إدارة عملانية للدفاع المشروع عن النفس هي جزء من المعركة السياسية في موازين السلطة. لكن هذا النوع من المعارك السياسية هو احتراب دائم في السلطة يتجدد على الدوام في «صيغة لا غالب ولا مغلوب». ما يمكن أن يكسر الحلقة المفرغة في احتراب السلطة، معارك سياسية لتحرير مؤسسات «الدولة» من انتداب «المجتمع الدولي» وملحقاته.
* كاتب لبناني