يشهد لبنان منذ أسبوع تظاهرات وتحركات شعبية مطلبية ضمّت جميع أطياف المجتمع، وهي بلغت ذروتها يوم السبت الذي انتهى باشتباكات بين المتظاهرين و«المندسين» من جهة، والقوى الأمنية من جهة أخرى.
للأسف نتج عن هذا الإحتجاج عدد من الجرحى، أكثرهم خطورة محمد قصير الذي ما زال في المستشفى في وضع حرج، إلا أن هذه التحركات أدت، كالعادة، إلى إنقسام الرأي العامّ بحجة أن التظاهرات مشبوهة ومن صناعة السفارات، وخاصة الأميركية.
مواقع التواصل الاجتماعي اشتعلت طيلة الأسبوع المُنصرم. وتيرة النقاشات ارتفعت، فإنقسم الشعب حول الجهة المُنظمة والتوقيت والأهداف، بعدما كان مقسوماً بين حركتي 8 و14 آذار.
لم يعهد لبنان في تاريخه الحديث أي تظاهرات شعبية، سوى تلك التي دعت اليها الأحزاب والقوى السياسية. أهمّ تحرك مطلبي شهدته البلاد هو تظاهرة عُمّال معامل «غندور» في الشياح، والبالغ عددهم 1200 في تشرين الثاني 1972. أطلقت الشرطة حينها النار عليهم عند مدخل المعمل فسقط عضو «اللجان العمالية» المرتبطة بمنظمة العمل الشيوعي يوسف العطار، وعضو الحزب الشيوعي فاطمة الخواجة وجرح 14 آخرين. على الأثر، نظم الاتحاد العمالي العام إضراباً عاماً للتضامن معهم، فيما عمّت موجة من الغضب أنحاء البلاد. أما رسمياً، فرفضت حكومة صائب سلام التحقيق في ظروف إطلاق النار (علينا الانتظار لنعرف اذا كان الأب على خطى والده)، مُصدرةً قانوناً يُجبر القوى اليسارية على الاستحصال على إذن مسبق للتظاهر من وزارة الداخلية. التظاهرة كانت تجمّعاً عارماً في ساحة البرلمان حيث هتف المتظاهرون: «99 لص و17 حرامي !» ( نسبة الى عدد نواب المجلس النيابي وأعضاء الحكومة). الجدير ذكره في هذا الإطار، هو تعليق الملحق العمالي في السفارة الأميركية على الحدث قائلاً إن التظاهرة والإضراب العام كانا بمثابة «نجاح متواضع» لمصلحة اليسار الذي نجح في الانتقال الى الهجوم وربح «الحرب الدعائية»، مضيفاً أنه لا اليسار ولا الحركة النقابية حققا أي إنجاز ملموس للعمال في نهاية المطاف.
أما حالياً، فمن المهم التركيز على بعض الوقائع والحقائق حول هذه التحركات التي ينتقدها البعض، إما بحجة أن هذا التحرك مشبوه، أو أنه لن يؤدي الى التغيير المرجو. اعتبار هذا التحرك مشبوها كلام يُرمى عشوائياً لتغطية تقصير كبير لدى القوى السياسية اليسارية. فلنفترض صحّة «التُهمة»، وهي فرضية قد تكون صحيحة، فلتتفضل هذه القوى اليسارية المناضلة وتشارك المتظاهرون مطالبتهم بأدنى حاجاتهم. فلتحاول أن تسحب البساط من تحت السفارات لتعيده الى المسار الصحيح. فلتستغل هذه الفرصة النادرة، فلتخطف هذا الحدث الجوهري وتحتضنه وتضع عنواناً كبيراً له، وهو قانون إنتخاب على أساس النسبية لمنع عودة رموز النظام الفاسد الحالي. هكذا تكون هذه القوى قد ربحت المعركة بوجه من نظّم التظاهرات.
صحيح أن الظرف الذاتي لم ينضج بقدر الظرف الموضوعي، ولكن مواصلة الرشق على هذا التحرك دون تقديم أي بديل، أو على الأقل تقديم خطة لمواجهته ليس الّا كلاما يُرمى جزافاً.
من الواضح أن الشعب اللبناني لم يعد قادراً على تحمّل هذا الوضع المأساوي. ومن الواضح أنّ الحكومة مربكة وغير قادرة على إيجاد «ابرة المورفين» التي اعتادت أن تستعملها عندما يعلو الصوت. لذلك هناك ضرورة مُلحة لنضج سياسي وإيجاد الظرف الذاتي لقيادة المرحلة المقبلة حتى لا يغرق لبنان. أخيراً، البعض يعد لبنان بلداً موجوداً على الخارطة الجغرافية والسياسية، والبعض يعده وطناً ينتمي اليه... اعطونا فرصة لمحاولة بناء وطن. اعطونا فرصة للحلم.