سعد الله مزرعاني *بمقدار ما تتراكم عوامل التصعيد، ومن أبرز أدواتها الفتنة المذهبية، تغدو مسألة المعالجة ضرورية وملحّة ومصيرية. ومن عوامل التصعيد، تدخل الأمين العام للأمم المتحدة ومكتبه ومساعديه مباشرة في مسائل خلافية لبنانية، من مثل تمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. كذلك مسارعة المستشارة القانونية للأمين العام إلى توجيه كتاب تطالب فيه «أن تمتنع رئاسة المحكمة والمدعون العامون ومحامو الدفاع، لدى النظر في طلب السيّد جميل السيّد الاطلاع على ملفه الجزائي، عن الكشف عن أيّ مستند من مستندات الأمم المتحدة أو السماح بالاطلاع عليه أو تقديمه دليلاً قبل الحصول على إذن مسبق من الأمم المتحدة». ونتوقف هنا لنقول إنّ طابع هذا الطلب سياسي بعدما وافق القاضي فرانسين على الاستجابة الجزئية على الأقل، لطلب السيّد بوصفه صاحب حق في مقاضاة الذين ألحقوا به أضراراً معنوية ومادية كبيرة.
إضافة إلى ذلك، كرّر الأميركيون والفرنسيون تمسّكهم بالمحكمة الدولية. كذلك سارع وزير خارجية مصر إلى زيارة المملكة العربية السعودية ليعلن دعم الطرفين للمحكمة الدولية...
وصفنا هذا الأمر بالتصعيد بسبب ما أثاره مسار الحكومة من إشكالات والتباسات، وما تركه تسييس عملها من ندوب وثُغر انعكست على صدقيتها وعلى قدرتها على كشف «الحقيقة» التي من أجلها قامت من الناحية المبدئية.
يتصل بهذا التصعيد تصعيد معاكس، طابعه وقائي كما يؤكد أصحابه، لتفريغ القرار الظني من شحنته الناسفة للهدوء الهشّ في لبنان. فلقد بات أكيداً أنّ اتهاماً سيُوجّه إلى «حزب الله» أو عناصر فيه، بالمسؤولية أو بالمشاركة في تنفيذ جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويعوّل مستفيدون كما بعد ارتكاب الجريمة نفسها، على أن يستثير القرار الظني ردود فعل غاضبة وساخطة تؤدّي إلى إشعال فتنة مذهبية تغرق «حزب الله» خصوصاً ولبنان واللبنانيين عموماً (وحتى المنطقة) في أتون صراع لن يكون من السهل السيطرة عليه.
بكلام آخر، فكما أدّت ردود الفعل العفوية والمنظمة، البريئة والمغرضة، الداخلية والخارجية، على جريمة الاغتيال، إلى اتهام سوريا ومن ثمّ إخراجها من لبنان... يأمل هؤلاء، وبينهم الإسرائيليون خصوصاً، أن تؤدّي ردود الفعل على اتهام «حزب الله» بإغراقه في أتون حرب داخلية ـــــ أهلية لبنانية، تصرفه كلياً عن وظيفته ودوره في مقاومة العدوّ الإسرائيلي وفي التصدّي لاعتداءاته المستقبلية على لبنان.
في مجرى هذه الاحتمالات والسيناريوات المُعَدَّة والمتوقعة، يتكرّر أمران: أوّلهما استخدام لبنان في الصراعات الإقليمية والدولية على أوسع نطاق، بما يهدّد مرّة جديدة استقراره وسيادته وعافيته ووحدته... وحتى وجوده. والأمر الثاني، انكشاف محطة وحلقة جديدتين من عجز اللبنانيين عن الحفاظ على بلدهم بعيداً عن المصالح والنفوذ الإقليميين والدوليين، وعن المصالح الفئوية الداخلية المتفاعلة مع المصالح والنفوذ الخارجيين.
لقد أدمنت القوى التقليدية التي امتلكت ناصية القرار وتوزّعته بالمحاصصة الطائفية والمذهبية هذه المعادلة. كذلك فإنّ القوى «الجديدة» التي دخلت جنة السلطة خصوصاً بعد الحرب الأهلية الكبرى التي توقفت أواخر عام 1989، قد مارست الأمر نفسه وحتى بحماسة أكبر!
أعرق الديموقراطيات العلمانية في الغرب، لم تفعل في بلدنا سوى تكريس تصنيفه على أساس طائفي
من جهة ثانية، إنّ أعرق الديموقراطيات العلمانية في الغرب لم تفعل في بلدنا سوى تكريس تصنيفه على أساس طائفي أو مذهبي... وصولاً إلى الأشقاء العرب، بمن فيهم الجار الأقرب سوريا. ففي فترة إدارة الأخيرة لبنان بين عامي 1990 و2005، استسهلت الإدارة السورية الاستناد إلى المعادلة الطائفية بعد تبديل توازناتها من خلال تفعيل البنود المؤقتة في اتفاق الطائف (المساواة بدل الامتيازات) وتعطيل البنود الإصلاحية التي نصّت صراحة على ضرورة إلغاء الطائفية وسواها من المؤسسات السياسية والإدارية والأمنية اللبنانية مقابل استحداث مجلس شيوخ يتولّى عبر المناصفة فيه (لا في سواه كما يردّد السيّد سعد الحريري) طرح الهواجس الخاصة بهذه الجماعة الطائفية أو المذهبية أو تلك.
معروف تماماً أنّ الإدارة السورية لم تواجه في موقفها هذا أيّ معارضة من أطراف السلطة في لبنان. ينطبق ذلك على القدماء والجدد، وعلى الذين شاركوا والذين قاطعوا. فالنظام الطائفي لم يُعدم أبداً مستفيدين محليين كانوا على الدوام القوى التي يستند إليها وتستند إليها، وكلاهما يغذي الآخر ويمدّه بعناصر القوة والاستمرار والبقاء...
لم يمنع التشبّث بالنظام الطائفي في الداخل ورعايته من الخارج المستفيد، هو الآخر، من الانقسام اللبناني الذي يولّده النظام الطائفي، من أن يُقال، من الداخل والخارج، كلام «نحوي» ضدّ النظام الطائفي أو ضدّ التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية اللبنانية. وتطالعنا اليوم، في عزّ الأزمة الراهنة المفتوحة على أشكال شتى من التصعيد وصولاً إلى الفتنة، تصريحات ومواقف عربية وإقليمية، تؤكد بقاء أصحابها على «مسافة واحدة من الجميع»، وعدم تدخلها في الشأن اللبناني الداخلي. يحصل ذلك في مرحلة لم يبقَ ميدان في لبنان إلا دُوِّل أو عُرِّب: من السياسة (تداول الوصايات)، إلى الأمن وآخره وجود 12 ألف جندي دولي في الجنوب، إلى القضاء وأبرزه المحكمة الدولية والقضاء السوري والفرنسي... وصولاً إلى الانتخابات وتمويلها والتعليم و«مدارسه» والرياضة وتكتلاتها... هذا فضلاً عن المجال الروحي وهو مستمرّ في الارتباط بمرجعيات خارجية يتعدّى دورها تشجيع نشر الدعوة والترويج لفضيلة الإيمان وطقوسه ومبادئه...
ذكّرنا السفير السعودي علي العسيري منذ يومين، بالمثل القائل: «ما حك جلدك مثل ظفرك». هذا كلام حق. لكنّه ليس كلام صدق. ولا ينطبق هذا الأمر على العسيري وحده. لكنّه كلام يُقال أيضاً، حين تلوح معالم أزمة كبيرة في الأفق. يجب أن يتذكّر اللبنانيون هنا عبارة «بيلاطوس النبطي» حين أجاز، عملياً، صلب السيد المسيح: «اللهم إنّي بريء من دم هذا الصدِّيق»! لكن الجانب الآخر والأكثر خطورة في هذا المشهد التاريخي، أنّ الذين يتكفّلون تحمّل دم اللبنانيين من خلال دفعهم إلى التقاتل، هم لبنانيون أيضاً، علماً بأنّ معظم هؤلاء مسؤولون وفي مواقع القرار المؤثرة غالباً.
نعم المسؤولية الأولى في ما تعرّض له لبنان من أزمات وحروب وفتن داخلية، إنّما تقع على اللبنانيين بالدرجة الأولى. والمقصود باللبنانيين هنا، أطراف الحكم والسلطة في مراحل قديمة وجديدة. فهؤلاء لم يوفّروا لبلدنا الاستقرار ولشعبنا الوحدة والمنعة. لذلك، بقي لبنان كياناً ضعيفاً ومشرذماً ومنتقص السيادة والاستقرار والأمن. هل هذا الكلام باب من أبواب الوعظ، أو هو لإراحة البال والضمير؟ كلا، إنّ هدفه هو فضح فئويات وأنانيات وارتباطات قوى وأطراف وأفراد لم يوفّروا لبلدهم الوسائل الضرورية عندما مارسوا السلطة منفردين أو متحدين، متفقين أو متعارضين. وهؤلاء لم يمثّلوا قَطّ مصالح شعبهم، ولم يعبّروا يوماً رغم كثير الادعاءات، عن حقيقة ما ينطوي عليه هذا الشعب من طاقات وإمكانات وتضحيات وبطولات جعلته مثلاً بين الشعوب في المقاومة والبطولة والانتصار. هذا فضلاً عما تميز به شعبنا من الانفتاح والتعلّق بالحرية وبالديموقراطية وبالتقدّم.
من هنا يجب أن نبدأ: أي من رؤية الخلل في حياتنا العامة وفي علاقاتنا الداخلية والخارجية. وما هو ماثل من الأخطار الآن يجب أن يدفع نحو الحركة والمبادرة والإبداع. ذلك يجب أن يبدأ من المواقع الرسمية. وخصوصاً من الرئاسة الأولى. والأحرى بالذين يواصلون لعبة الدم والانقسام والارتهان، أن يدركوا أنّهم سيكونون أوّل من يدفع الثمن، وعلى يد العدو الإسرائيلي نفسه! أليس هذا ما حصل في تجارب قريبة سابقة! غير أنّ المسؤولية، وإن لم تكن واحدة، إلا أنّ المطلوب من الجميع أن يدفعوا عن بلدهم وعن شعبهم وحتى عن أنفسهم، هذه اللعبة الكارثية والمجنونة: لعبة القتل والموت والدماء على مذبح المصالح الفئوية أو خدمة لأهداف الهيمنة الاستعمارية في صيغها القديمة والجديدة.
* كاتب وسياسي لبناني