strong>عوض عبد الفتاح*ليس عرب الـ48 وحدهم الذين طاولتهم تداعيات اتفاقية أوسلو الموقعة بين القيادة المتنفذة في منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل في 13 أيلول عام 1993. فالاتفاقية كرَّست التشتت الجغرافي، وحفرت شقّاً سياسياً عميقاً غير مسبوق داخل الجسم الفلسطيني، ومن التجمعات الأكثر تضرراً اللاجئون الفلسطينيون. وإذا تناولنا موضوع عرب الـ48، فإننا نتناوله لكون «أوسلو» أخرجته من المعادلة كلياً، معادلة الحل ومعادلة الصراع، ولأنَّ الاتفاقية كرَّست هامشيَّة هذا الجزء من المشروع الفلسطيني الرسمي، إضافة الى تهميشه في الواقع الاسرائيلي. لقد بدا هذا الجزء من الشعب الفلسطيني لتلك القيادة موضوعاً ليس ذا شأن ما دام موجوداً على أرضه وما دامت مطالب قيادته التقليدية مقتصرة على المساواة. كما أنه عكس عجز القيادة المتنفذة عن إدراك الثقل الاستراتيجي لمليون وربع المليون فلسطيني على مستوى الصراع طويل الأمد مع الصهيونية. واختزلت هذه القيادة رؤيتها لدور هؤلاء في أداء دور احتياط أصوات لحزب العمل، أو ما سمي باليسار الصهيوني المعني بتحقيق تسوية مع الشعب الفلسطيني – طبعاً تسوية على شكل حكم ذاتي أو أوسع قليلاً.
لم يكن هذا ما ترغب به القيادة الفلسطينية التي حتى أوائل السبعينات رفعت شعار تحرير فلسطين – كل فلسطين – وإقامة الدولة العلمانية الديموقراطية التي يعيش فيها الجميع عرباً ويهوداً. خطأها كان أنها ترجمت قراءتها لميزان القوى القائم، المائل بشدة لصالح اسرائيل، إلى عمل، إلى اتفاقية استسلام بدل الصمود وإعادة ترتيب صفوف الحركة الوطنية والتمسك بالثوابت الوطنية.
لقد قايضت القيادة الثوابت الفلسطينية بالاعتراف بها – بمنظمة التحرير. وحين تأكدت نيّات إسرائيل الحقيقية من وراء اتفاق أوسلو الذي ظنت القيادة الفلسطينية أنه قد يكون مُنطلقاً لمرحلة فلسطينية أفضل، انفجرت الانتفاضة الثانية التي أطاحت الأوهام وحاصرت قائدها الشهيد ياسر عرفات وصولاً الى اغتياله لمساندته لهذه الانتفاضة، ورفضت التنازل عن الحدّ الأدنى. أما مهندس أوسلو، محمود عباس، فلا يزال يرفض مراجعة نهج التسوية العقيم ويتمسك بهذه الأوهام فيما يواصل شعبنا دفع الثمن جراء ذلك.

الاتفاق ونقيضه

لم تقبل أطراف رئيسية وفاعلة على الساحة الفلسطينية أن يكون ميزان القوى مرجعية للمفاوضات وعقد صلح مع الدولة العبرية. وإذا كانت فصائل منظمة التحرير الفلسطينية «المعارضة» قد اكتفت بمعارضة ناعمة لهذا الاتفاق، فإن قوى أخرى وفي مقدمتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ترجمت معارضتها لنهج أوسلو على الأرض، وتصدّت لفساد السلطة الفلسطينية بلا هوادة. وجنت ثمار ذلك في تصاعد الالتفاف الشعبي حولها وصولاً إلى فوزها في الانتخابات التشريعية عام 2006. لكنها ارتكبت خطأ فادحاً بدخولها الحكومة، مما أوقعها في مأزق لا تزال تعانيه حماس نفسها، ومجمل الساحة الفلسطينية، ومجمل تيار المقاومة. فالجمع بين المقاومة والسلطة تحت الاحتلال أمرٌ متعذرٌ وغير واقعي.
إذاً، اتفاقية أوسلو أعطت دفعة قوية بل زخماً لمتغيرات كانت تجري على الساحة الفلسطينية قبل أوسلو بسنوات، تمثلت بدخول قوى سياسية مقاومة جديدة على الساحة ذات أيديولوجية دينية، وتغيير المشهد الفلسطيني جذرياً. وبغضّ النظر عن أخطاء حماس، فإن اعتراضها العملي على نهج أوسلو وعلى نهج استثمار هزيمة الانتفاضة، ساهم ويساهم في منع وقوع الساحة الفلسطينية برمتها في قبضة أصحاب نهج أوسلو. طبعاً استمرار بقاء شعلة الرفض قائمة، مرهون بقدرة هذه القوى وتلك التي تلتقي معها بشكل أو بآخر، على الخروج من مأزقها الذي يعود في الأساس الى العداء الغربي والاسرائيلي المتمثل في الحصار والعدوان، والذي تتواطأ معه السلطة الفلسطينية. وقد أدَّت هذه السياسات والتواطؤ إلى الانشقاق والتشظي الجغرافي والسياسي القائم بين الضفة وقطاع غزة، والعجز الداخلي عن كيفية إنهائه.


متغيّرات عميقة بين عرب 48

لم تتوقّع الدولة العبرية، ولا حتى بعض الأوساط «العربية الاسرائيلية» الحزبية وغير الحزبية طبيعة المتغيرات التي أطلقتها اتفاقية أوسلو داخل المجتمع العربي الفلسطيني، وخصوصاً داخل حركته الوطنية.
عشية اتفاقية أوسلو، وبالتحديد بعد وصول الانتفاضة الفلسطينية الأولى، انتفاضة الحجارة، الى طريق مسدود واستخدامها من جانب القيادة الفلسطينية ورقةً في المفاوضات مع الاسرائيلييين، وبعد الانهيارات الكبرى مثل تفكك الاتحاد السوفياتي والغزو الأميركي للعراق وإجبار العرب والفلسطينيين على الدخول في مفاوضات مع إسرائيل – مؤتمر مدريد عام 1991... عشية هذه التطورات وأثناءها وبعدها كان يتكوّن اتجاهان بين عرب الداخل، أحدهما عفوي وموضوعي والآخر منظم.
الأول: اتخذ شكل الارتداد الى مظاهر المجتمع القديم – التقليدي – مثل العائلية وإفرازاتها والتي تجلت أكثر ما تجلّت أثناء الانتخابات البلدية. عاد الأفراد يحتمون بعائلاتهم في ظل احتجاز التطور جراء سياسة التمييز والحصار والخنق التي تمارسها الدولة العبرية. وأيضاً بسبب وصول الأحزاب السياسية برمّتها الى مأزق، وضعف مكانتها في نظر الجمهور العربي. جميع هذه الأحزاب دخل في أزمة، وتجلى ذلك في العجز عن تقديم طروحات سياسية جذابة، وعن تجنيد الجماهير الشعبية الواسعة في النضالات الشعبية. لقد خرج فلسطينيو الـ48 بأعداد هائلة الى التظاهرات المؤيدة للانتفاضة الفلسطينية الأولى، لكن لم تستطع الأحزاب استقطاب هذه الأعداد في النضالات المطلبية... حتى تلك الأحزاب التي تباهت بقربها من الناس وهمومهم مثل الحزب الشيوعي وإطاره الأوسع الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة.
أما بعد اتفاقية أوسلو، فقد تعمق الشعور بغياب الفرج من الخارج، وحاول استثمار هذه الردة بالأساس من كان يوجه عرب الداخل الى الانغماس في واقعهم وفي مواطنتهم كإسرائيليين دون أفق وطني، أو وعي بالحقوق الجماعية. ومن داخل هذا الاتجاه هناك من بنى على أن المصالحة بين منظمة التحرير وإسرائيل ستفتح الباب واسعاً أمام مشروع المساواة (ذات البعد الاسرائيلي). إن هذا الاتجاه لم ينتقد اتفاقية أوسلو، بل بعضه تظاهر احتفاءً بها وكأنها استجابة لمطلبه القديم بضرورة تحقيق هذه المصالحة، وأن الاعتراف بقيادة المنظمة أو بالمنظمة هو مفتاح الفرج والانفراج. هذا الاتجاه التقليدي لم يلحظ، بل لم يُسئْه، تسارع مظاهر الأسرلة واندفاع أعداد كبيرة من المواطنين العرب الى الانتساب الى الأحزاب الصهيونية، وخاصة حزب العمل الذي وقّع مع الدولة العبرية اتفاق المصالحة، ورؤية الأعلام الإسرائيلية تعلق على السيارات.
كان يعتقد هذا الاتجاه أن المصالحة ستكون لصالحه وأنه سيجني ثمارها. فهو الذي اعترف بإسرائيل ووقّع على وثيقة استقلالها منذ اللحظة الأولى، وهو الذي نظّر لإسرائيل على أنها تجسيد لحق تقرير المصير لليهود، والذي طالب بالمساواة من دون أن يحدّد كنهها. غير أن هذه الأوساط لم تذهب اليه، أي لم تصوّت له، بل ذهبت الى مصدر النبع مباشرة، الى حزب العمل، ذلك الحزب الذي أقدم على عقد مصالحة مع قيادة شعبهم، وذلك الحزب الذي اعتذر قائده اسحق رابين عن استمرار عدم المساواة والتمييز ضد العرب علناً. بطبيعة الحال، لم تكن تسوية اسحق رابين تعني منح استقلال وطني لأهالي الضفة والقطاع، ولا المساواة الكاملة لعرب الداخل أو الاعتراف بهم أقليةً قومية، لأن ذلك ينطوي على نسف الثوابت الصهيونية. كان ذلك يعني تحقيق تسوية تؤدي الى إنهاء المقاومة الفلسطينية وضمان الهيمنة الصهيونية على الشعب الفلسطيني برمته.
الاتجاه الثاني: هو الاتجاه الوطني المنظم وشبه المنظم، مضافاً اليه أوساط شعبية واصلت احتفاظها بمشاعرها الوطنية الصادقة، وهي في غالبيتها أصيبت بالإحباط والاستياء من هذا الاتفاق. فالاتجاه الوطني – المُسيّس المنظم، انطلق برفضه واعتراضه على الاتفاقية من ثوابته الوطنية ورؤيته السياسية بعيدة المدى. أمَّا الجماهير الشعبية، فقد كانت تعتقد أن القيادة الفلسطينية أو العرب في الخارج لن ينسوا عرب الداخل... أو يتجاهلوهم في أي حلّ.
لم يكن التيار الوطني – القومي موحداً، بل لا يمكن القول إنّه كان تياراً قومياً عريضاً منظماً وواضحَ المعالم. كان هناك أكثر من مجموعة أو حركة تُحسب بشكل أو بآخر على هذا التيار، ولم تكن في علاقة تنسيق فيما بينها، بل كانت في تنافس شديد.
من هذه المجموعات أو الحركات: حركة أبناء البلد التي كانت بمثابة امتداد لحركة الأرض لكن بهوية وطنية فلسطينية أكثر منها بهويّة قومية ناصرية، كما كان عليه الحال في الخمسينات والستينات. أيضاً الحركة التقدمية؛ وحركات وطنية محلية؛ الأنصار وحركة أبناء الطيرة، وحركة النهضة. فضلاً عن شخصيات قومية ووطنية.
كذلك شملت القوى المعارضة للاتفاقية، التيار الإسلامي في الداخل وخصوصاً الحركة الشمالية. غير أنَّ هذا التيار انصبّ جهده في تلك الفترة على العمل الدعوي والخيري وإحياء المناسبات الدينية، وتوسيع قواعده، ولم يقدم إبداعاً سياسياً أو فكرياً حديثاً. لكن قوته وتأثيره السياسيين تطورا لاحقاً، بفعل التطورات على الساحة السياسية العربية المحلية وصداماتها مع الدولة العبرية وسياساتها ابتداءً من أواخر التسعينات من القرن الماضي، وتحوّل إلى قوّة مركزيّة مؤثرة في حياة عرب الداخل.
بكلمات أخرى، سرّعت اتفاقية أوسلو نضج مرحلة سياسية وفكرية جديدة كانت إرهاصاتها قد بدأت تلوح منذ أواخر الثمانينات. كان الممهد لهذه الإرهاصات حركات سياسية مثل حركة أبناء البلد، وأوساط من المثقفين الوطنيين منهم من خرج من الحزب الشيوعي، وأبرزهم الدكتور عزمي بشارة. تجلّت هذه الإرهاصات

بدل أن تطوي اتفاقية أوسلو صفحة عرب 48، تحولوا إلى ورقة صعبة في الصراع
بطرح رؤى سياسية جديدة ومقاربة فكرية وثقافية لموضوع المساواة لعرب الداخل ولموضوع الهوية القومية من خلال فتح النار على الجوهر الصهيوني لدولة اسرائيل وإخراج التناقض البنيوي مع ديموقراطيتها ومع مطلب المساواة الذي رفعه التيار العربي التقليدي لمدة طويلة من دون أن يفطن أو يجرؤ بتحديه، الى دائرة الضوء، ليتحول فيما بعد الى مادة فجّرت سجالاً لا يزال مشتعلاً مع الدولة اليهودية، وإلى عامل استقطاب لجماهير شعبية واسعة. لقد كان المفجّر الحقيقي لهذا السجال، والحاضنة للفكر الجديد، التجمع الوطني الديموقراطي، هذا الحزب الذي جاء حصيلة جهد فكري وسياسي منظم ومبرمج طويل.
لقد رفض التجمع الوطني الديموقراطي اعتبار عرب الداخل شأناً اسرائيلياً داخلياً كما تضمنت اتفاقية أوسلو، ورفض أن تكون قضية مدنية وكأن قضيته الوطنية تقع خارج الخط الأخضر فقط.
لقد خاض التجمع كفاحاً سياسياً وفكرياً وشعبياً قاسياً، ضد التوجهات المتضمنة في اتفاقية أوسلو أو المتضمنة في البنية القانونية والثقافية للدولة العبرية، ودفع ثمنًا ولا يزال. وتجلى ذلك في الملاحقات السياسية ومحاولات شطب التجمّع من الكنيست عن طريق شطبه قانونياً. وساعده في ذلك، الانتفاضة الثانية وامتداداتها إلى داخل الخط الأخضر.
لقد اتسعت قواعد الحزب لأسباب عدة، منها صدق تحليلاته لاتفاقية أوسلو وإفرازاتها وصدق تحليلاته وتحذيراته من نهج أوسلو وتبعاته. وقد ساهم هذا الحزب في الحفاظ على الهوية الوطنية الفلسطينية من خلال التأكيد على الثوابت والتمسك بها، ومن خلال تنمية الانتماء القومي العربي عبر التواصل مع الأمة العربية والوقوف الى جانب طلائعها المقاومة ضد العدوان الاسرائيلي والساعية لاستعادة زمام المبادرة والإرادة العربية.
لو أوجزنا الحديث، لقلنا التالي: بدل أن تطوي اتفاقية أوسلو صفحة عرب 48 كما كان متضمناً في الاتفاقية على الأقل بالنسبة لاسرائيل، ويُدمجوا على هامش الدولة العبرية – اقتصادياً وسياسياً وقومياً، تحولوا بفضل مبادرتهم، إلى ورقة صعبة واستعادوا بل جدّدوا مكانتهم وموقعهم في الصراع والكفاح الوطني والديموقراطي ضد مشروع الأبارتهايد الاسرائيلي. عرب الـ48 ليسوا عبئاً على المشروع الوطني الفلسطيني، بل هم جزء من الشعب والأمة وعنصر فاعل في استراتيجية النضال الطويل من أجل الحرية والعدالة.
* كاتب فلسطيني