المسلسلات السوريّة ظاهرة. أقصت المسلسلات المصريّة وصارت العنوان الأبرز في التسلية المرئيّة. من السهل فهم نجاح المسلسلات السوريّة. الشعب السوري دوماً كان ضليعاً بالفن وبالثقافة رغم ما نُكب به من أنظمة وما صاحبها من ظروف قمع قاسية. كيف لا تنجح المسلسلات السوريّة وفيها معادلة غير قابلة للردّ أو الرفض؟ مهارة في التمثيل، طبيعيّة في الأداء، ظرف وفكاهة في الحوار، بالإضافة إلى معالجات أقرب إلى الواقع من القصور المنيفة والمواقف السمجة في المسلسلات اللبنانيّة والمصريّة
أسعد أبو خليل*
لا شكّ أنّ الإنتاج التلفزيوني والسينمائي المصري يتراجع باطراد. عصر الانفتاح المشؤوم والقطط السمان أدخل الرأسماليّة المتوحّشة إلى عالم الفن فنتج عادل إمام (السينمائي لا المسرحي الذي كان لديه ما يعطيه، وكان هذا قبل أن يصبح أداة طيّعة بيد النظام الفاسد)، ومحمد الهنيدي وكثيرون وكثيرات ممن لا يذكر المرء أسماءهم. المسلسلات المصريّة باتت تقليداً مملّاً لمسلسلات الثمانينات في أميركا (من نوع «دالاس» و«داينستي» وغيرهما): مشاهد لقصور فخمة وحمّامات سباحة كبيرة وحسين فهمي يجهد لتعود مصر إلى «رونق» العهد الملكي. لا موجب للقلق. ها هو «السي حسني» يؤسّس لسلالة مالكة، وتستطيع إدارة التصوير في «الأهرام» أن تركّب صولجاناً وعرشاً وتاجاً لإطلاق عهد ملكي جديد لجمال مبارك، الذي يحظى بدعم إسرائيلي قويّ. وتستعدّ مصر لتدمير ما يجب من الأنفاق في غزة من أجل ديمومة النظام من خلال جمال مبارك. الإنتاج التلفزيوني المصري يعكس حقبة عبادة رأس المال وسيادتها المُطلقة.
أما التلفزيونات اللبنانيّة، فهي تعاني بصورة عامّة ليس فقط من تقليد بشع للشاشات الغربيّة، بل من هوس بمداعبة غرائز أمراء النفط وأتباعهم (وهؤلاء يملكون بالكامل المحطات اللبنانيّة والعربيّة، مباشرة أو عبر وسطاء). والتمثيل في المسلسلات اللبنانيّة بصورة عامّة يعاني من صياح أو من تنهّدات: أي إجهاد لدى الممثّل. والملابس والمناظر الطبيعيّة تطغى: وهذا يذكّر بذلك الحوار الشهير بين الممثّل القدير لورنس أوليفييه والممثّل الأميركي داستن هوفمان أثناء تصوير فيلم «رجل الماراثون». جاء داستن إلى الأستديو حارماً نفسه من النوم، تَعِباً ومرهقاً من أجل لبس الدور المرسوم. سأله أوليفييه ببساطة: «ولِم كل ذلك؟ لماذا لا تجرّب التمثيل؟». ولماذا لا يجرّبون التمثيل في المسلسلات اللبنانيّة (وخصوصاً أن سعد الحريري يمثّل ببعض الإتقان دور رئيس حكومة)؟

تستطيع أن تقول ما تشاء في عبد الناصر لكنه حرَّم شرعنة الهويّة الطائفيّة أو القطرية
أما المسلسلات السوريّة فهي أكثر أمانة في نقل صورة المجتمع. الناس تجلس في منازلها بأثواب النوم، على عكس الأفلام المصريّة (لم يخلع عماد حمدي ربطة العنق والمعطف المنزلي، حتى في السرير) والأفلام اللبنانيّة حيث يتبختر الرجال والنساء في منازلهم بأزهى الثياب الفاخرة، كأنهم في عرض أزياء منزلي. في التلفزيون السوري، هناك إتقان في التمثيل ولكن دون إفراط أو تكلّف. والممثلون والممثّلات يأتون من خلفيّة فنيّة وتدريبيّة محترفة. لا تستطيع أن ترى فايز قزق أو مصطفى خاني أو منى واصف أو هدى شعراوي على الشاشة من دون أن تتسمّر أمام الشاشة منذهلاً. لهؤلاء قدرات تمثيليّة هائلة (كما أنهم لا يعانون المرض المصري واللبناني المعروف بـ«عقدة العالميّة») غير خافية، وإن كان المُخرج يفرط في استخدامها (ففايز قزق ومصطفى خاني يلعبان دوريْن مُختلفيْن في المسلسل نفسه) في البرنامج الواحد. والبساطة في الأداء وانعدام التكلّف في الإلقاء مُحبّب لجمهور ضاق ذرعاً بوطأة مدرسة يوسف وهبي في التمثيل (وكلّما كان يزداد صراخ وهبي كان التصفيق له يزداد). والحوار في المسلسلات السوريّة يلتصق بالواقع أكثر من الأفلام المصريّة، كما أن الممثّلين والممثّلات لا يتخاطبون وهم مصطفّون وراء بعضهم البعض كي يراهم الجمهور بعين كاميرا واحدة.
وهناك ما يلفت في «باب الحارة» سياسيّاً هو الفارق بين الثقافة السياسيّة في سوريا وفي لبنان. باختصار، تعبّر الثقافة السياسيّة والشعبيّة السوريّة عن نقمة مُبرّرة وضروريّة ضد الاستعمار الفرنسي (لكن دراسة الثقافة السياسيّة في سوريا محفوفة بالأخطار بسبب القمع، وهي محفوفة بالمزالق في لبنان بسبب المال). ويبرز ذلك في كل تجليّات الأدب والفن والسياسة في سوريا. تُقارن ذلك بالثقافة السياسيّة والشعبيّة في لبنان. لبنان في وادٍ آخر. ماذا تقول عن مسخ وطن يعبّر أيما إعجاب عن دور المُستعمر في بلده؟ كمال الصليبي لا يتورّع عن إسباغ المديح على الاستعمار في عدد آب من مجلّة «المستقبل العربي». والحنين إلى الاستعمار بات سمة واضحة في إعلام آل سعود وفنهم، يوافيهم في ذلك ـــــ كالعادة ـــــ الليبراليّون من أيتام بوش وتشيني الذين واللواتي لا يصدّقون أعينهم أن بوش لم يعد مستوياً على عرشه. سنواته مرّت كغمضة عين أمامهم. وشوارع بيروت وساحات قراه (مثل «غزير» في كسروان) ما هي إلا نصب تخليد لمستعمرين بيض مرّوا على لبنان، وتقيّأوا عنصريّة ضد العرب والمسلمين في ربوعه. ومن اللافت أن المُستعمر التركي لا يحظى بالتبجيل الذي حظي به مُستعمرو فرنسا مع أن استعمار فرنسا كان قصيراً (كل يوم استعمار يجب أن يكون طويلاً وطويلاً جدّاً بمقياس كرامة الشعوب وحق التحرّر) مقارنة بالحقبة العثمانيّة. هل يعود ذلك لسبب الطائفة الواضح؟ يعود ذلك لسببيْن: الأول له علاقة بطائفة التركي مُقابل طائفة المُستعمر الفرنسي (ورجال تأسيس الكيان اللبناني كان من أنصار سيادة طائفة على أخرى، مثلهم في ذلك مثل الصهاينة)، والسبب الثاني له علاقة بالولع بالرجل الأبيض في بلد مثل لبنان (سنعود إلى هذا الموضوع في مقالة لاحقة). ففرنسا في التاريخ اللبناني يُتعامل معها كأنها زائر مرموق، مثلها مثل «لامرتين» في بلاد الأرز. بعض اللبنانيّين كان يريد من الضيف الفرنسي أن يبقى إلى أجل غير مسمّى (مثل بكركي ـــــ يكفي أن تعود لتصريحات البطاركة والمطارنة في هذا الصدد، مثل تلك الرسالة التي حملها المطران نقولا مراد إلى الحكومة الفرنسيّة في عام 1844 والتي استهلّها بالقول لملك فرنسا: «نحن عبيد جلالتكم» (فيليب وفريد الخازن، «المحرّرات السياسيّة والمفاوضات الدوليّة عن سوريا ولبنان»، ج 1، ص. 128). وكان البطريرك عريضة يعترض حتى على وصف الفرنسي بـ«الأجنبي». قال: «بيد أن الفرنسيّين كانوا ولا يزالون أصحابنا وقد خدموا لبنان خدمات جليلة ونفعونا نفعاً جزيلاً...» («المعرض»، كانون الثاني 1932).
الشعب السوري يبدو غير ذلك. تعتمد ثقافته على رفض الاستعمار بصرف النظر عن الأنظمة المُتعاقبة هناك والتي تساهلت مع المُحتل والمُستعمِر (نلاحظ أن الإعلام الفنّي السوري يفضّل الحقبة الفرنسيّة على الحقبة العثمانيّة وقد يكون ذلك نتيجة التحالف بين النظام السوري والحكومة التركيّة). الثقافة السوريّة الشعبيّة والسياسيّة لم تسامح الاستعمار (وإن كان استمرار احتلال الجولان يُثبت أن بقاء النظام أولى من التحرّر عند أهل السلطة)، فيما يطالب الكثير في الثقافة الشعبيّة والسياسيّة في لبنان بمزيد من الاستعمار. لم يشبعوا منه بعد. الاستعمار الأوروبي يُشرّف لبنان، وخصوصاً أن ثقافة لبنان السياسيّة كانت منذ نشوء الكيان تعلّم الانحناء أمام المُحتل، وتغفر للإسرائيلي اجتياحاته. كل دعوات السلم في ظلّ الاحتلال (من «صحافيّين ضد العنف» إلى سبّاكين ضد العنف بالإضافة إلى دعاة النضال الحضاري) ما هي إلا دعوات للوئام مع المحتل. يروي خليل تقي الدين كيف أنه حرص على إقامة علاقة صداقة مع سفير فرنسا في موسكو عندما تسلّم سفارة لبنان هناك (ولم يكن ذلك السفير إلا الجنرال كاترو. انظر خليل تقي الدين، «الأعمال الكاملة»، الجزء الأوّل، ص. 121-122، حيث يقول «كم كان فرحي عظيماً» عندما علم بوجود كاترو). الشعب السوري ينظر نظرة مختلفة. لا يقول أحد في سوريا إن على الحكومة أن تثبت سوريّة الجولان قبل المطالبة بتحريره، مثلما يطالب البعض في لبنان بالتلكؤ في مسألة تحرير أراضٍ محتلّة. في لبنان، تُعدّ المطالبة بتحرير مزارع شبعا وتلال كفر شوبا وقرية الغجر، حتى لا نتحدّث عن تحرير فلسطين، ضرباً من استفزاز غير مُبرّر لإسرائيل).
لكن البرنامج يعود بنا إلى عصبيّة قديمة ورجعيّة. الأمة تضيق في العالم العربي بعد 40 سنة من وفاة جمال عبد الناصر. تستطيع أن تقول في الرجل ما تشاء لكنه حرّم شرعنة الهويّة الطائفيّة أو القطريّة. كان يزدري النظرة الشوفينيّة وربّى أجيالاً من العالم العربي (بمَن فيهم بعض من انضوى في صف عصبيّة قريطم) على النظرة القوميّة العلمانيّة الشاملة للهويّة (مع أنه أخفق في تطبيقها عمليّاً في تجربة الوحدة) بدلاً من مُخلّفات الاستعمار الذي زرع ورعى ونمّى ودعم ثقافة الهويّة القبائليّة والعشائريّة (مثلما يفعل اليوم في العراق). «باب الحارة» يدخل في باب الحنين إلى الماضي. وثقافة «العصر الذهبي»، كما قالت حنة أرندت من قبل، مهمّة مستحيلة. وماذا إذا كان الحنين مبنيّاً على مغالطات؟ هناك من يحنّ في أوساط الأصوليّين إلى عهد الخلفاء الراشدين متناسياً «الفتنة الكبرى» واغتيال الخلفاء أنفسهم (قد يكون أبو بكر هو الوحيد الذي نجا). وما يُسمّى في المُصطلح اللبناني (بدأته جريدة «النهار») «الزمن الجميل» ما هو إلا إشارة إلى تلك العناصر والعوامل التي فجّرت الحرب الأهليّة: أي أن الزمن اللبناني الجميل كان بشعاً للغاية وإن بدا جميلاً لقاطني القصور في لبنان. وحنين «باب الحارة» هو حنين إلى عهد القبائل والعشائر وثقافة الانعزال في المحلّة أو الحارة أو «الحتّة» كما يقولون في مصر. وإذا كان الحنين ينزع نحو ثقافة البطولة الفارغة ومقوّمات الرجولة التقليديّة، فهناك حاجة لتفسير المعضلة الكبرى. لماذا لم تحمِنا ثقافة البطولة والرجولة القبليّة من الاستعمار ومن احتلال فلسطين؟ أي أن البطولة العربيّة الذكوريّة كانت على المحكّ على امتداد العهد العثماني والاحتلالات المتعدّدة التي وسمت القرن العشرين، والبطولة العربيّة التقليديّة قصّرت وفشلت وأوقعتنا في شباك امتدادات الإمبراطوريّات الأجنبيّة.
وبطولات «باب الحارة» مثل البطولات العربيّة (الرسميّة والشعبيّة) التي سيطرت على الأربعينات قبل إنشاء دولة الكيان الغاصب: أي «مراجل» وتهديد فارغ واقتباس من أشعار على نمط معلّقة عمرو بن كلثوم إلى أن جاء يوم الكريهة وظهر الاستعداد العربي على حقيقته في المواجهة مع إسرائيل. يسود في بطولات «باب الحارة» الكثير من التهديد والوعيد مع قليل من التنفيذ. يهدّد أبو حاتم ويتوعّد كثيراً، وهو قدوة البطولة، ثم نراه يُساق ذليلاً وحيداً إلى المخفر على يد دركي طاعن في السنّ. والبطولة العربيّة هي مثل مفهوم السياسة عند الإغريق الأوائل: يفتقر كليّاً إلى العنصر النسائي. فهنّ يعكّرن صفو التسكّع في المقهى والطلبات المتكرّرة لـ«أحلى كاسة شاي» في الحارة.
وكالعادة في ثقافة تقديس التقاليد والعادات المُتوارثة، تكون النساء والأطفال الضحيّة. وهناك تقديس لعامل السن: والحديث عن حكمة الشيوخ واحترامهم وتبجيلهم يصبح جزءاً من «قيم العائلة» (ماذا حدث لشعار حزب الكتائب التأسيسي عن «الله، الوطن، العائلة»؟). لكن الشيوخ هم المسؤولون عن القيم التي ساهمت في تأخر المجتمع وفي فرض الهويّات القبليّة التي شرذمت الشعب وسهّلت مهمة انقسامه خصوصاً على يد الأجنبي (يتساءل حازم صاغيّة المُعجب بالاستعمار دوماً عن سبب تخلّف العرب فيقول مُفتياً مُنادياً بتقسيم متمدّن: « إذ إنّ شعوبنا، للأسف، لن تمارس الطلاقات المتمدّنة على النحو الذي رأيناه في تشيكوسلوفاكيا السابقة» (من موقع «ناو حريري»). لم يسمع بعد بتشرذم يوغوسلافيا غير المُتمدّن). حكمة الشيوخ والأجداد كرّست ثقافة الجهل والتخلّف وسيادة الرجل. أجدادنا؟ لن نغفر لهم. وقعت كارثة فلسطين أمام أعينهم وأطعمونا أشعاراً رديئة عنها. «الحارة» أرسلت متطوّعين إلى فلسطين، ولا حاجة لكي نسأل عن أدائهم القتالي هناك. على العكس، الأجداد هم الذين كتب عنهم نزار قبّاني محقّاً «خبز وحشيش وقمر». أما الأطفال، فضربهم (في المسلسل) عرضي ومن باب التفكهة. ضرب الأطفال هو من تراث الأجداد.
وتقديس الثقافة الذكوريّة ـــــ بمعنى ثقافة سيادة الرجل المطلقة ـــــ هو في صلب تلك البرامج. والأحداث الدراميّة تنحصر حول الرجال وهموم الرجال وأحاديث الرجال، وتتخلّلها أحاديث ومشاهد للنساء بمثابة فقرات إعلانيّة قصيرة لا علاقة لها بدراما القصّة المعروضة.
لكن الأبرز هو في مجال المرأة (وهذا الجانب في النقد الفنّي والأدبي لا ينال قسطاً من الأهميّة لأن جندرة النقد معركة لم تُخض بعد عندنا، وخصوصاً أن ذكوريّة عنصريّة فاقعة تعتري الجسم الثقافي العربي ـــــ بين الرجال والنساء خصوصاً اللواتي يتشدّقن بشعارات فارغة عن المرأة العربيّة أمام الرجل الأبيض فقط لجذب الاهتمام ولركوب موجة تحرير المرأة من قبل الرجل الأبيض). المرأة في «باب الحارة» هي ديكور، لا أكثر. هي موجودة لتسلية الرجل وللترويح عنه. لكن هناك من سيعترض ويقول إن نموذج «أم جوزف» هو نموذج مختلف في تصوير المرأة التقليدي في البرنامج. على العكس، نموذج «أم جوزف» هو نموذج ذكوري تماماً: فهي تنجح في كسب احترام الرجال وتقدير الحارة بالدرجة التي تنجح بها في تقليد الرجال (كما أن سنّها المتقدّمة تعطيها حريّة لا تتمتّع بها المرأة الصبيّة «المرغوبة»). فهي تدخّن، وعندما يتحدّث «قبضايات» عنها، مثل أبو حاتم، بإعجاب، يُقال إنها «أخت الرجال». أما باقي النساء في البرنامج، فهنّ إكسسوار للرجال، أو زينةٌ لهم.
وهذا مناقض للدليل التاريخي: تعود ليوميّات الحلاّق البديري (المكتوبة في القرن الثامن عشر) فتجد نماذج جريئة لا تجدها في «باب الحارة». يروي الحلّاق فيقول: «وفي تلك الأيّام (سنة 1744) كثرت بنات الخطا، ويتبهرجن بالليل والنهار، فخرج ليلة قاضي الشام بعد العصر إلى الصالحيّة، فصادف امرأة من بنات الخطا، تُسمى سلمون، وهي تعربد في الطريق، وهى سكرى ومكشوفة الوجه، وبيدها سكين. فصاح جماعة القاضي عليها، أن ميلي عن الطريق، هذا القاضي مُقبل، فضحكت وصاحت وهجمت على القاضي بالسكيّن، فأبعدها عنه أعوانه. ثم جمع القاضي الوالي والمُتسلّم، وذكر لهم ما وقع له مع هذه العاهرة، فقالوا له هذه من بنات الخطا واسمها سلمون، وافتُتن بها غالب الناس. حتى صار يُنسب إليها كل حاجة أو متاع. فيقولون هذا المتاع سلموني، وهذا الثوب سلموني. فأخرج المفتي فتوى بقتلها، وإهدار دمها تسكيناً للفتنة، ففتشوا عليها وقتلوها.» أو مقطع آخر: «ومما اتفق في حكم أسعد باشا في هذه الأيام أن واحدة من بنات الهوى عشقت غلاماً من الأتراك، فمرض، فنذرت على نفسها إن عوفي من مرضه لتقرأن له مولداً عند الشيخ ارسلان. وبعد أيّام، عوفي من مرضه، فجمعت شلكّات البلد، وهن المومسات، ومشين في أسواق دمشق، حاملات الشموع والقناديل والمباخر، وهن يغنين ويصفقن بالكفوف ويدققن بالدفوف، والناس وقوف صفوف تتفرج عليهن، وهن مكشوفات الوجوه سادلات الشعور... والصالحون يرفعون أصواتهم ويقولون الله أكبر». («حوادث دمشق اليوميّة»، ص 57 وص 112، طبعة القاهرة). أين هذه النماذج من النساء في «باب الحارة»؟ وأين المُتظاهرات المتمرّدات في العهد الفرنسي؟ لمذا يظهرن خانعات في المسلسل؟
والبرنامج يكرّس عرفاً لم يبدأ مع «الحاج متولّي» في تكريم تعدّد الزوجات. هذا عصر زهو الرجل بسيادته. يستطيع الورعون أن يقولوا ما يشاؤون في هذا الصدد، وأن يعودوا للعصر الإسلامي

تتحضّر في كلّ حلقة لحدث ضخم في الحلقة القادمة لكنّه لا يلبث أن يتأجّل لسبب ما
الأوّل وأن يتحدّثوا بإسهاب عن التقارب بين القبائل وبين أفخاذ القبائل، وأن يعدّدوا المكاسب التي نالها المسلمون الأوائل من عقد الزيجات، لكن الحقيقة تبقى حقيقة: إن في تعدّد الزوجات مهانة للمرأة ومُناخاً غير صحّي للأولاد. والثقافة الشعبيّة في البلاد العربيّة (الأدبيّة وحتى المحكيّة من خلال النكات والأمثال السائرة والمُتوارث العائلي) تعكس وضع المرأة المُهين في زواج متعدّد النساء. فـ«الضرّة» هي نموذج للعداء والكراهية والسوء. لكن الضُرر في «باب الحارة» يتكافلن أحياناً ويتضامنّ وتؤازر الواحدة الأخرى، إما للتآمر أو لإرضاء الرجل. أما خلافاتهنّ، فهي تظهر نتيجة لصغر عقل المرأة («عقول ربّات الحجال») ولمشاحناتهن (ليبراليّو آل سعود وأنصار الممانعة على حدّ سواء يعيّرون ما لا يروقهم من كلام عبر تشبيهه بكلام «النسوان» أو «ردح النساء» ـــــ والتعبير الأخير يُستسهل استعماله عند الفريقيْن المُتنازعيْن، مع أن أصل الكلمة شنيع إذ إن ابن منظور يقول في «لسان العرب» إن المرأة الرَّداح أو الرّدوح هي «عجزاء ثقيلة الأوراك» و«ضخمة العجيزة والمآكم»). والرجل يبدو كالضحيّة في تلك الزيجات، وتصبح شكواه من عدم تجهيز الطعام في موعده، اعتراضاً وجيهاً يستحقّ «اقتناء» زوجة إضافيّة. أما ضرب النساء فهو عرضي، وعندما ضرب «خاطر» زوجته لأنها أعدّت بيضاً لوجبة غذاء «أبو خاطر»، بدا المشهد كموقف عزّ من ابن إزاء أبيه. طبعاً، المرأة الأم هي محلّ تبجيل، فهي في عرف ثقافة العرض والناموس الوحيدة في حياة الرجل التي لا غبار ولا لبس على شرفها. والممثّلات في «باب الحارة» يظهرن بتبرّج من القرن العشرين، وهذا يتناقض مع البساطة في المظهر التي ألفناها في المسلسلات السوريّة.
لكن البرنامج يشدّ الأنظار والانتباه مع أن الحبكة الدراميّة لهذا الموسم ضعيفة: تتحضّر في كلّ حلقة لحدث ضخم في الحلقة القادمة، لكنه لا يلبث أن يتأجّل لسبب ما. فتنتظر بشيء من التبرّم حدثاً ما في كل حلقة. وأهميّة «حارة الضبع» للمحتلّ الفرنسي لم تتوضّح. ويمكن أن تعيب على البرنامج عدم اهتمامه بالفقراء الذين لم تفرغ الشام منهم في تاريخها. الحلّاق البديري يروي كيف انتحب الفقراء في الشوارع عندما هبط سعر الخبز (ص. 120). بناء المنازل المتماثل في المسلسل يفترض عدم وجود عائلات غير ميسورة في الحارة، أو الحارات كلّها.
لكن رغم الانتقادات والملاحظات والاعتراضات، لا يمكن أن أخفي عن القارئ والقارئة أنّني أنتظر الموسم المقبل لـ«باب الحارة» على أحرّ من الجمر (هل سيرجع «أبو كامل» من القبر؟ أرجو ذلك. ستجدني وتجدينني مُتسمّراً أمام الشاشة). وكل «باب حارة» وأنتم بخير.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا
(موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)


تم تعديل هذه المقالة عن نسختها الورقية يوم الأحد ٣ تشرين الأول ٢٠١٠