سلامة كيلة *إذا كان التصوّر الذي حكم قطاعات من الشيوعيين بأنّ انهيار الرأسمالية ضرورة من أجل تحقيق الاشتراكية، فإنّ المسألة ستبدو أعقد من ذلك. لقد كان هذا الوعي الذي يتأسس على الانهيار في صلب مشكلات السياسة التي اتبعتها الحركة الشيوعية في الوطن العربي خصوصاً (وربما بالتحديد). كانت تسود المستوى المنهجي نزعتان: النزعة الميكانيكية والنزعة العفوية. لهذا، بدا أفق الاشتراكية ممكناً فقط بعد «تعفّن» الرأسمالية وانهيارها. وهو الأمر الذي جعل الشيوعيين مشدودين إلى الرأسمالية وحريصين على تحققها وتطورها بدل العمل على تجاوزها، «إلى أن يقضي الله أمراً كان مفعولاً». هذه هي السياسة التي حكمت رؤية الحركة الشيوعية في الوطن العربي منذ نهاية ثلاثينيات القرن العشرين، والتي جعلتها هامشاً بعدما كانت قوة هائلة حين كانت تبرز كقوة تغيير. وحوّلت هذه السياسة الحركة إلى ملحق بالبورجوازية الصغيرة بعدما كان بإمكانها أن تقود هي هذه الطبقة. لقد اعتقدت بأنّ عليها أن تدعم البورجوازية إلى حين تحقيق المهمات التي على هذه الطبقة أن تقوم بها: الصناعة، والحداثة، والدمقرطة. في المقابل، ارتبط تحقيق الاشتراكية في وعيها بانهيار الرأسمالية، أيّ أنّ هذه الطبقة سوف تحقق التطوّر ثم تنهار، وانهيارها هو من علائم تحقيق الاشتراكية، حين يحصد الشيوعيون النتائج. الآن، وعلى ضوء الأزمة التي تشهدها الرأسمالية، هناك من ينتظر «قطف ثمار» انهيارها. كما أنّ هناك من هو مرتعب من انهيارها، وكلا الطرفين هما من متخرّجي «الشيوعية السوفينية». لكن المشكلة هي في الانتظار، لأنّ الرأسمالية قادرة على التكيّف، وحتى فيما إذا فشلت لن يعني انهيارها انتصار بديل ما، إذا لم يكن مؤسساً وفاعلاً. وهنا ننتقل من الأزمة الاقتصادية إلى الصراع الطبقي. توسّع الأزمة الفئات المتضررة، وهو الأمر الذي يدفع إلى البحث عن سبل تطوير صراعها من أجل بديل ممكن، هو تجاوز الرأسمالية. بمعنى أنّ «قيمة» الأزمة تكمن في أنّها ربما تخلق حالة ثورية عبر توسيع الفئات المفقرة وزيادة نسبة البطالة، الأمر الذي يدفع فئات متزايدة إلى خوض الصراع الطبقي.
التاريخ يسير عكس نشاط الشيوعيين، فهو يفضي إلى انهيار الرأسمالية بينما هم يدعمون وجودها
هنا لن يكون انهيار الرأسمالية عفوياً أو قدرياً، بل إنّ تجاوزها هو نتيجة فعل اليسار، نتيجة دور حقيقي في تطوير الصراع الطبقي من قبل اليسار. لهذا يجب أن نحدث قبل ذلك نقلة في التصور. ذاك التصور الذي يسكن وعي الشيوعية، الذي يؤسس وفق عقل ميكانيكي ورؤية عفوية للحظتين متنافرتين، لكنّهما تعتمدان في تحققهما على أمر آخر هو البورجوازية. هي لحظة التطوّر الرأسمالي، وبالتالي تأسيس الرؤية الشيوعية على ضرورة المراهنة على التطور الذي يجب أن تحققه البورجوازية، وأداء دور الداعم والمستشار والناقد (بخجل). وهنا سنلحظ بأنّ التحقق الفعلي هو من نشاط طبقة أخرى، وأنّ الدور الفعلي للشيوعيين هو الإسناد، أي أنّ الدور هنا هو ثانوي (كومبارس). واللحظة الأخرى هي لحظة انهيار الرأسمالية «بفعل تناقضاتها» وقفز هؤلاء «الرفاق» إلى السلطة لتحقيق الاشتراكية. وهم هنا لا يؤدّون دوراً في تصعيد تناقضات الرأسمالية، الدور الضروري لتجاوزها، على العكس يؤدّون دور الضابط لهذه التناقضات كي لا تتفاقم، لأنّ مهمتهم هي الدعم والإسناد كما كان يجري في الواقع. لكنّهم يستفيدون من انهيار الرأسمالية العفوي «الطبيعي» من أجل تحقيق الاشتراكية التي يكون الانهيار قد فرض تحققها عفوياً (أو عفو الخاطر).
إذاً، التاريخ يسير عكس نشاط الشيوعيين، فهو يفضي إلى انهيار الرأسمالية بينما هم يدعمون وجودها ويدافعون عن استمرار هذا الوجود. لكنّهم يكسبون في كلّ الأحوال، لأنّهم يحققون الاشتراكية. كيف، وهم دون برنامج اشتراكي، ولا رؤية لتحقيق الاشتراكية، وكلّ دعايتهم ونشاطهم يصبان في خدمة البورجوازية؟
يستطيع العقل الميكانيكي/ العفوي وحده أن يولف هذا التوليف. لهذا فشلوا، ولهذا أحفادهم (الذين هم الليبراليون الجدد) يقفون مرتعدين من انهيار الرأسمالية. هؤلاء كذلك لا يؤمنون بالصراع الطبقي، بل بالحتمية الاقتصادية. الحتمية التي تفرض تطوّر الرأسمالية ونضجها وصولاً إلى تعفنها، والتي كذلك تفضي إلى الاشتراكية. إنّ الأساس هنا هو ليس أزمات الرأسمالية، التي هي دورية، لكن في ما تعكسه على الطبقات، وبالتالي مفاقمتها للصراع الطبقي. هذه هي حدود الاقتصاد والأزمات الاقتصادية، بعدها يجب البحث في الصراع الطبقي. وأيضاً هنا يجب تجاوز العفوية والميكانيكية، إذ تفرض الحالة الثورية وجود القوى التي تطوّرها وفق استراتيجية واضحة من أجل التغيير، أيّ من أجل أن يتصاعد نضال الطبقات الشعبية بما يفضي إلى أن يفرض هذه الطبقات كقوة مهيمنة. في هذه الحالة يمكن تجاوز الرأسمالية. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن عبرها الوصول إلى الاشتراكية. يعني ذلك أنّ تجاوز الرأسمالية يفترض الرؤية والإرادة والاستراتيجية ونضال الطبقات. والإرادة هنا ليست إقحاماً لما هو فوق الصراع في هذا الصراع، بل إنّها قرارات البشر في أن يغيّروا ظروفهم، لكن في شكل منظّم. قرارهم في أن يصبحوا قوة فاعلة من أجل أن يفرضوا مصالحهم. يعني ذلك أنّ الأزمة تعطي اليسار وضعاً يمكن أن يطوّر الصراع الطبقي إلى حدود تطيح الرأسمالية، وبالتالي يجب أن تطرح المهمات التي تطوّر من دور اليسار ومن فاعليته، في سياق تطوير الصراع ضد الرأسمالية من أجل تجاوزها. هذا الوضع يطرح للبحث وضع اليسار ذاته، وكيف يؤسس رؤيته بما يحوّله إلى قوة تغيير حقيقية، وفي أي أفق سيبني استراتيجيته؟ وهو الأمر الذي يفرض عليه تجاوز العقل الميكانيكي/ العفوي، وتجاوز المراهنات على تطوّر الرأسمالية، ووضعه لذاته كقيادة لنضال يهدف إلى تطوير الصراع الطبقي في أفق تجاوز الرأسمالية.
إذا كانت ثورة أكتوبر قد أعطت الأمل بأن بمقدور الفقراء أن يغيّروا ظروفهم، وفتحت الأفق لتحقيق هذا التغيير، وإذا كان هذا الأمل قد انتكس بانهيار النظم الاشتراكية وسعي الرأسمال لتسييد النمط الرأسمالي نهائياً كونه «نهاية التاريخ»، فإنّ الأزمة الراهنة للرأسمالية توضح بأنّه ليس للتاريخ نهاية، وأنّ الأمل ممكن، كان ولا يزال. وهذا هو الوضع الذي أعاد شبح الشيوعية، وأطلق الأحلام من جديد بعالم آخر يحقق العدالة والمساواة، متجاوزاً الرأسمالية بالضرورة. لقد عادت «الروح» إذاً، وعاد الأمل بأنّه يمكن تجاوز الرأسماليّة.
*كاتب عربي