التاريخ يسير عكس نشاط الشيوعيين، فهو يفضي إلى انهيار الرأسمالية بينما هم يدعمون وجودها
هنا لن يكون انهيار الرأسمالية عفوياً أو قدرياً، بل إنّ تجاوزها هو نتيجة فعل اليسار، نتيجة دور حقيقي في تطوير الصراع الطبقي من قبل اليسار. لهذا يجب أن نحدث قبل ذلك نقلة في التصور. ذاك التصور الذي يسكن وعي الشيوعية، الذي يؤسس وفق عقل ميكانيكي ورؤية عفوية للحظتين متنافرتين، لكنّهما تعتمدان في تحققهما على أمر آخر هو البورجوازية. هي لحظة التطوّر الرأسمالي، وبالتالي تأسيس الرؤية الشيوعية على ضرورة المراهنة على التطور الذي يجب أن تحققه البورجوازية، وأداء دور الداعم والمستشار والناقد (بخجل). وهنا سنلحظ بأنّ التحقق الفعلي هو من نشاط طبقة أخرى، وأنّ الدور الفعلي للشيوعيين هو الإسناد، أي أنّ الدور هنا هو ثانوي (كومبارس). واللحظة الأخرى هي لحظة انهيار الرأسمالية «بفعل تناقضاتها» وقفز هؤلاء «الرفاق» إلى السلطة لتحقيق الاشتراكية. وهم هنا لا يؤدّون دوراً في تصعيد تناقضات الرأسمالية، الدور الضروري لتجاوزها، على العكس يؤدّون دور الضابط لهذه التناقضات كي لا تتفاقم، لأنّ مهمتهم هي الدعم والإسناد كما كان يجري في الواقع. لكنّهم يستفيدون من انهيار الرأسمالية العفوي «الطبيعي» من أجل تحقيق الاشتراكية التي يكون الانهيار قد فرض تحققها عفوياً (أو عفو الخاطر).إذاً، التاريخ يسير عكس نشاط الشيوعيين، فهو يفضي إلى انهيار الرأسمالية بينما هم يدعمون وجودها ويدافعون عن استمرار هذا الوجود. لكنّهم يكسبون في كلّ الأحوال، لأنّهم يحققون الاشتراكية. كيف، وهم دون برنامج اشتراكي، ولا رؤية لتحقيق الاشتراكية، وكلّ دعايتهم ونشاطهم يصبان في خدمة البورجوازية؟
يستطيع العقل الميكانيكي/ العفوي وحده أن يولف هذا التوليف. لهذا فشلوا، ولهذا أحفادهم (الذين هم الليبراليون الجدد) يقفون مرتعدين من انهيار الرأسمالية. هؤلاء كذلك لا يؤمنون بالصراع الطبقي، بل بالحتمية الاقتصادية. الحتمية التي تفرض تطوّر الرأسمالية ونضجها وصولاً إلى تعفنها، والتي كذلك تفضي إلى الاشتراكية. إنّ الأساس هنا هو ليس أزمات الرأسمالية، التي هي دورية، لكن في ما تعكسه على الطبقات، وبالتالي مفاقمتها للصراع الطبقي. هذه هي حدود الاقتصاد والأزمات الاقتصادية، بعدها يجب البحث في الصراع الطبقي. وأيضاً هنا يجب تجاوز العفوية والميكانيكية، إذ تفرض الحالة الثورية وجود القوى التي تطوّرها وفق استراتيجية واضحة من أجل التغيير، أيّ من أجل أن يتصاعد نضال الطبقات الشعبية بما يفضي إلى أن يفرض هذه الطبقات كقوة مهيمنة. في هذه الحالة يمكن تجاوز الرأسمالية. وهذه هي الحالة الوحيدة التي يمكن عبرها الوصول إلى الاشتراكية. يعني ذلك أنّ تجاوز الرأسمالية يفترض الرؤية والإرادة والاستراتيجية ونضال الطبقات. والإرادة هنا ليست إقحاماً لما هو فوق الصراع في هذا الصراع، بل إنّها قرارات البشر في أن يغيّروا ظروفهم، لكن في شكل منظّم. قرارهم في أن يصبحوا قوة فاعلة من أجل أن يفرضوا مصالحهم. يعني ذلك أنّ الأزمة تعطي اليسار وضعاً يمكن أن يطوّر الصراع الطبقي إلى حدود تطيح الرأسمالية، وبالتالي يجب أن تطرح المهمات التي تطوّر من دور اليسار ومن فاعليته، في سياق تطوير الصراع ضد الرأسمالية من أجل تجاوزها. هذا الوضع يطرح للبحث وضع اليسار ذاته، وكيف يؤسس رؤيته بما يحوّله إلى قوة تغيير حقيقية، وفي أي أفق سيبني استراتيجيته؟ وهو الأمر الذي يفرض عليه تجاوز العقل الميكانيكي/ العفوي، وتجاوز المراهنات على تطوّر الرأسمالية، ووضعه لذاته كقيادة لنضال يهدف إلى تطوير الصراع الطبقي في أفق تجاوز الرأسمالية.
إذا كانت ثورة أكتوبر قد أعطت الأمل بأن بمقدور الفقراء أن يغيّروا ظروفهم، وفتحت الأفق لتحقيق هذا التغيير، وإذا كان هذا الأمل قد انتكس بانهيار النظم الاشتراكية وسعي الرأسمال لتسييد النمط الرأسمالي نهائياً كونه «نهاية التاريخ»، فإنّ الأزمة الراهنة للرأسمالية توضح بأنّه ليس للتاريخ نهاية، وأنّ الأمل ممكن، كان ولا يزال. وهذا هو الوضع الذي أعاد شبح الشيوعية، وأطلق الأحلام من جديد بعالم آخر يحقق العدالة والمساواة، متجاوزاً الرأسمالية بالضرورة. لقد عادت «الروح» إذاً، وعاد الأمل بأنّه يمكن تجاوز الرأسماليّة.
*كاتب عربي