خليل عيسى*«لن أوقّع أمر إعدام عزيز لأنّني اشتراكي. أنا متعاطف مع طارق عزيز لأنّه مسيحي عراقي. وعلاوةً على ذلك، فهو رجل تجاوز عمره السبعين». صاحب هذه الدُّرر الكلامية هو «الرئيس» العراقي جلال طالباني. «اشتراكية» طالباني كانت موضوع المؤتمر الصحافي الذي عقده يوم 21 تموز 2009 هالو إبراهيم أحمد، زعيم حزب «بشكاوتين» (حزب التقدّم)، وهو شقيق زوجة طالباني، والعُضو السابق في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني، الذي يتزعمه «مام جلال» (اسم جلال طالباني بالكردية). أبرزَ هالو إبراهيم أحمد حينها وثائقَ تشير الى أنّ عقود النفط المبرمة بين حكومة إقليم كردستان والشركة التركية «Pet Prime International Oil Company Ltd» تضمّ بنداً سريّاً يجري بموجبه دفع نسبة مئوية من الأرباح التي تعود إلى الحكومة الإقليمية الى شركة باسم «Nizar Company». وقد اتهم الشركة المذكورة بأنّها واجهة وهمية لـ«Nokan Corporation» التي يملكها حزب الاتحاد الوطني الكردستاني. والمعروف أنّ عائلتي طالباني وبرزاني تسيطران على مقدّرات حكومة الإقليم، وأنّ العمل من خلال حزب الاتحاد الوطني الكردستاني هو بمثابة عمل عائلي لعائلة طالباني. ولنا أن نذكر مثلاً أنّ هيرو طالباني، زوجة «مام جلال»، تملك «قناة كردسات» التلفزيونية و«مجموعة خاق للنشر». أمّا ابنها قاباد، فهو ممثّل حكومة الإقليم في الولايات المتحدّة، فيما الابن الآخر بافل هو قائد فرق الاتحاد الكرستاني الوطنية الخاصة.
وقد نجح طالباني في تقليد أصوات بعض الغربيين الذين دعوا الى عدم إعدام عزيز «المسيحي الكلداني»، كما وصفه مارك سيدّون على صفحات جريدة الغارديان البريطانية. كما ينصت طالباني جيداً إلى التعاطف الغربي العميق مع «المسيحي عزيز»، إذ إنّ الفاتيكان أرسل الكاردينال فراتّيني على عجل من أجل نجدة «المسيحي البعثي». إنّ أوّل سؤال يخطر لنا في هذه الحالة هو: لماذا لم يُتناوَل قرار عدم إعدام طارق عزيز بالمعنى الإنساني والأخلاقي الأشمل بل الإصرار على توصيفه بالمسيحي؟
ليس أمراً بريئاً أن يُنظَر الى طارق عزيز «كمسيحي» لا كعراقي. أن يُدافع عن حياة عزيز على أساس هويته الطائفية يعني أنّ يقول طالباني للغربيين ما مفاده «إنّني أفهم تعاطفكم لأنّه مسيحي وأؤيدكم في ذلك». قرر بعض الليبراليين الغربيين أنّ عزيز مسيحي لا بعثيّ ولا علماني ولا مواطن عراقيّ، وذلك من أجل شرعنة شفقة مستجدّة. هذا لا يمكن فهمه سوى بأنّه الوجه الآخر للإمبراطورية، الذي يبقى ينظر إلينا من المنطلق الليبرالي الاستشراقي على أحسن الأحوال، وأنّ الاعتراف بإنسانية المُستعمر لا يمكن أن يأتي إلّا عندما يفرضها هذا الأخير بالقوة. ربما كان يجب توقّع هذا النوع من التصريحات من «الرئيس» العراقي، وخصوصاً أنّ حكام العراق اليوم لا يملكون أدنى نيّة للدفاع عن العدالة والقيم الإنسانية للمواطن العراقي. لا يحكم دورهم وتصرّفهم وخطابهم غير حبل السرّة الذي يربطهم برأسمالهم وولاءاتهم المحلية والإقليمية وامتثالهم لأوامر الإمبراطورية المباشرة.
يصوّر الإعلام اليوم النخب العراقية الخادمة للاحتلال كما لو أنّها وليدة نظام أتى بثورة شعبية عارمة على النظام البعثي. لا تختلف صورة هذه النخب سواءٌ أتت من أحزاب مذهبية مُنعت أيام صدام حسين، كحزب الدعوة المدعوم من إيران (نوري المالكي)، أو من عملاء مباشرين أتوا مع الاحتلال (أياد علّاوي، أحمد الجلبي) أو من بعثيين سابقين متعاونين اليوم مع الاحتلال (أسامة النجيفي) أو حتى من أحزاب إثنية تبحث دائماً عن كيفية الانفصال عن الدولة العراقية كالأكراد (الطالباني، البارازاني). وتقدّم الأمور على أنّ تلك الثورة «المفترضة» أدت الى ولادة نظام ديموقراطي مهدد دائماً بثورة مضادة، مرة بعثية ومرة أخرى قاعدية. هكذا تصبح كلّ وسائل حماية الديموقراطية «الهشة» مشروعة، حتى لو عنى ذلك وصول عدد القتلى إلى أقل من مليوني شخص بقليل في 7 سنوات من الاستعمار الأميركي المباشر. يصبح المالكي حينها شبيهاً ببول فون هندنبورغ مستشار جمهورية «فيمار» الألمانية خلال الثلاثينات، لكنّه للمفارقة حريص جداً في الوقت نفسه على عدم السماح لأدولف هتلر جديد باختطاف ديموقراطيته الثمينة. لا يذكّرنا بذلك إلّا بوزير الدفاع الأميركي روبرت غيتس واقتراحه تمديد الوجود الأميركي في العراق بعد عام 2011 «إذا ما طلبت الحكومة العراقية ذلك».
تلخص هذه السردية الكاريكاتورية كيفية تعامل معظم الإعلام العربي مع مسألة خطيرة مثل حكم إعدام ثأري وظالم هو أشبه بجريمة قتل بقناع قضائي. حُكم على طارق عزيز بالإعدام من جانب ما يعرف بـ«المحكمة الجنائية العراقية العليا». كان عزيز يتقلّد منصباً سياسياً رفيعاً هو نائب رئيس الوزراء مما يحمّله دون شكّ مسؤولية جرمية وسياسية عن الجرائم التي ارتكبها النظام البعثي. بيد أنّ من يحدد ماهية ذلك هو محكمة عادلة تعبّر عن الإرادة الحرّة للشعب العراقي، ومن دون وجود احتلال أو حكومة محلية تنوب عن الاحتلال، إلّا أنّ الثأرية المفاجئة في التعامل مع طارق عزيز، الذي تصعب أبلسته مثلما حدث مع صدّام حسين، ليست نابعة في الحقيقة من «مسيحيته» بل من علمانيته. من الصعب إقناعنا بأنّ طارق عزيز كان على علاقة بأيّ قرارات سياسية غير التي تتعلّق بالشؤون العراقية الدولية والدبلوماسية. إلا أنّ مبرّر قرار الإعدام هو دور مفترض لعزيز في «تصفية الأحزاب الدينية» (اقرأ منع «حزب الدعوة»). وإذا ما تطلّعنا الى بعض محطات طارق عزيز مثل مقابلته الطويلة مع جايمس بايكر عام 1991، فإنّنا نرى رجلاً يستخدم كلّ الحجج الأخلاقية والسياسية الممكنة أمام صلَف وزير الخارجية الأميركي آنذاك من أجل الدفاع عن وطنه في خطاب معاكس تماماً لخطاب حكّام العراق السائد اليوم. الخطاب والممارسة السائدان اليوم يعطيان الشعب العراقي الحق في محاكمة حكم الاحتلال ونخبه جميعاً. وهذا يطرح سؤالاً إضافياً: من يدّعي من بين نخب الاحتلال امتلاكه الطهارة الأخلاقية والسياسية في العراق المحتلّ من أجل محاكمة النظام البعثي السابق؟ الجواب هو بالطبع لا أحد.
السؤال الأهم هنا هو كيف نفهم التجربة العراقية كأحد متفرعات التجربة العربية الحديثة بألوانها المختلفة ومثال متطرّف لما حدث في الدولة الوطنية بعد التخلص من الاستعمار الأجنبي ولاحقاً طمس التجربة الديموقراطية تحت الضغط الاستبدادي الداخلي والضغط الخارجي الاستعماري. هناك من ناحية الدعوة الى الديموقراطية والتخلص من الاستبداد القائم في الأنظمة العربية، ومن ناحية أخرى، الأطماع الاستعمارية في الموارد الطبيعية

يصوِّر الإعلام النخب العراقية الخادمة للاحتلال كما لو أنّها وليدة نظام أتى بثورة شعبية عارمة على البعث

القائمة أيضاً وهو النفط العراقي في هذه الحالة. يتعلّق الأمر في العراق بالضغط الاستعماري حول نقطتين مهمتين هما النفط وإسرائيل، الذي كثيراً ما يجري تناسيه عند الكلام عن الحداثة. ومن الضروري أنّ نقيس مقدار تداخل كلّّ من عاملي الحاجة الى الديموقراطية ومواجهة الاستعمار. يجب قياس ذلك بواسطة المواطَنة العراقية المنقوصة أيام صدام حسين والمتجهة إلى انتماء قومي عربي «فوق وطني» مُسخ من خلال ممارسة وايديولوجية الدولة الرسمية من جهة، واتجاه معاكس «ما دون وطني»، إثني وطائفي موجود لأسباب مادية وتاريخية تكبر أو تخبو مضاعفاته حسب شراسة الهجمة الاستعمارية على المنطقة.
إنّها أسئلة كان يمكن محاكمة عادلة لطارق عزيز أنّ توفّر إجابات عنها، أما اليوم، فنحن أمام محاولة استعمارية عنيفة لمحو الماضي من الذاكرة الجماعية العراقية، مع كلّ ما يعنيه ذلك من فرص ضائعة من أجل دراسة الذات العربية وتكوين حالة عربية مقاومة وأقوى تتعلّم من الماضي. إنّ محاكمة عراقية عادلة لعزيز ورفاقه في عراق حرّ، كان يمكن أن تكون فرصةً لنصل الى إجابة مُرضية عن «حداثة عربية» مفترضة ولِدت محمّلة بالتركة الاستعمارية. أما وقد أعيدت اليوم هندسة «العراق الجديد» في دورة استعمارية ثانية، أي مرحلة جديدة من الاستعمار العسكري المباشر على أسس مذهبية وعرقية، فما علينا إلّا توقّع الأسوأ اذا لم تنشأ مقاومة قوية تنتهي بمحاكمة حكّام العراق الحاليين. يشير كلّ ما سبق الى أولوية الخطر الاستعماري في العراق على كلّ شيء آخر، فهنا استخدام الرموز البعثية لا يجري إلّا من أجل إضفاء شرعية «ما دون وطنية» عبر إنتاج رموز جديدة مذهبية تحكم لعقود قادمة من أجل الإمبراطورية. والسؤال الأهم من «محاكمة» طارق عزيز اليوم هو: من سيحاكم البرابرة الجدد؟
* باحث لبناني