وائل عبد الفتاحمبارك في الخليج. الجديد في الخبر هو الأجواء التي يغادر فيها الرئيس المصري القاهرة قبل انتخابات مجلس الشعب، فهي الأخطر والأكثر حساسية. بصحبة الرئيس وفد يضم على الأقل ثلاثة من بين الدائرة الضيقة لإدارة معركة «المصير»، وهم مدير الاستخبارات الوزير عمر سليمان، ووزير الإعلام أنس الفقي، ورئيس ديوان رئيس الجمهورية زكريا عزمي، وهو مرشح في الانتخابات ورقم مهم في إدارة اللعبة على مستواها الداخلي.
الجولة جزء من معركة الانتخابات. هذا ما يبدو من بعيد. إنّها «حركة للخارج» من أجل السيطرة على «الداخل»، وليست أي سيطرة، هي السيطرة المطلقة.
كسب مبارك المعركة الداخلية بحسم انحياز القوى الدولية لمصلحته في ملف مصير مصر. حدث ذلك عندما تيقنت هذه القوى أنّ مبارك هو اللاعب الوحيد القادر على لعب أدوار في المنطقة بفاعلية تعتمد على إحياء المواقع القديمة المحجوزة منذ الستينيات، وخصوصاً في ملفات خطيرة، أولها الملف الفلسطيني وأقدمها الملف السوداني وأحدثها الملف اللبناني.
نشاط مصري ملحوظ في الملفات الثلاثة، تبدو معه الحركة في الخارج في اتساق ما مع تحركات داخلية يستعيد بها نظام مبارك الأرض التي خسرها في سنوات «ربيع الديموقراطية».
وتسير جولة الخليج باتجاه «لملمة» الملفات المفتوحة، وترتيب العلاقة من جديد مع قطر بعد توتر أو فتور استمر ٤ سنوات. توتر كانت قمة تصاعده عندما أصرت الدوحة على انعقاد مؤتمر قمة عربية عاجلة لمناقشة العدوان الإسرائيلي على غزة (٢٠٠٨) رغم اعتراض القاهرة والرياض.
بدأت التهدئة بين مصر وقطر منذ فترة، والرسالة البعيدة جاءت في انتقادات وجهها الأمير حمد بن خليفة لصحيفة «الفايننشال تايمز» وقناة «الجزيرة» التي «أفسدت علاقته مع القادة العرب». كان ذلك إشارة إلى تخفيف في حدّة اللهجة التي تعالج بها القناة ملفات الوضع الداخلي في مصر. إشارات سارت في اتجاه يرضي القاهرة بما أتاح ظهور الدكتور مفيد شهاب وزير الدولة لمجلس الشعب، وأحد الطهاة الأساسيين في مطبخ السلطة المصرية على شاشة القناة.
تحشر الدوحة أنفها في الملفات الثلاثة التي يعتمد عليها نظام مبارك في إظهار فاعليته: من السودان الى بيروت مروراً بالملف الفلسطيني، وما تمثله خطوط الاتصال التي أقامتها قطر مع الوجه المتشدد لـ«حماس» في الخارج، وما تمثله الدوحة من ممر عبور للرئيس الايراني أحمدي نجاد خارج تحالفاته التقليدية في المنطقة مع سوريا وحزب الله.
إنهاء التوتر بين القاهرة والدوحة يعزز فاعلية مصر في ظلّ عدم عمل الدور السعودي بالكفاءة نفسها بسبب حروب خلافة الملك عبد الله.
وبهذا المعنى فإنّ مصر تقود للمرة الأولى الماكينة وحدها، بدون شراكة سعودية فعالة. يحدث ذلك على عدة مستويات، من بينها الإسراع في ملف التسوية بين فلسطين وإسرائيل بدون غطاء من مبادرة الملك عبد الله وبحلول يريد فيها أبو مازن الوصول الى أي مكسب قبل دخول أوباما في دوامة الدفاع عن مقعده في البيت الأبيض.
في الملف السوداني، تقف مصر علناً مع الرئيس عمر البشير والوحدة السودانية، لكنّها تحتفظ بعلاقات ومكاتب تنسيق مع كلّ الأطراف السودانية، خصوصاً الجبهة الشعبية وحركة العدل والمساواة.
في لبنان، تبدو حركة القاهرة باتجاه إنقاذ سعد الحريري من ارتباك يلاقيه عندما يسافر إلى الرياض في ظلّ أجواء حرب الخلافة المحمومة. يجد الحريري راحته ويطمئن الى ما يسمعه في القاهرة عن التخلص من شبح ٧ أيار عندما فوجئ زعيم تيار المستقبل بأنّه لا يملك قوة تحمي حصنه في بيروت. لدى القاهرة ما تسميه بعض المصادر خطة «لإنهاء عصر بقاء السنّة بلا قوة في لبنان». هي خطة نصف معلنة، ويدور حولها، من حين لآخر، مناوشات أو تلميحات في السجالات الصحافية بين القوى المتصارعة على الحكم في لبنان.
الوجود المصري بهذا المعنى فعال في لبنان، ويتقدم خطوة عن التصوّر القديم بأنّ لمصر دوراً محجوزاً، لن تؤديه، لكن لن يحل أحد محلها. تُنفّذ الخطوة الأخيرة بفاعلية أقوى، وتشبه في درجة الأداء أدوار الستينيات، لكن بدون غطاء أيديولوجي، ولا شعارات تدغدغ العواطف وتوظفها في اتجاه المصالح السرية.
ثمّة وعي جديد لدى نظام مبارك جعله يحرك زر الفاعلية الى وضع جديد. وضع يحافظ به على موقعه الداخلي، ويحقق به الحضانة الدولية لاستمراره في الحكم. ومن ناحية أخرى، يضمن له البقاء في منطقة لم يعد فيها الصراع مغلقاً على محاوره القديمة: مصر والسعودية، أو مصر والعراق، أو غيرها من أشكال وراثة الدور الناصري. فتح الإقليم بالنسبة الى لاعبين جدد: إيران وتركيا، ولا بد من أجل التوازن، أن تدخل مصر على الخط، وبيقظة لا تجعلها مجرد تنين يحجز مكان نومه.