حسام كنفانيمرّة جديدة، اعتلى رئيس السلطة محمود عبّاس منصّة ذكرى رحيل الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات ليلقي خطاباً رناناً يؤكد التزام «ثوابت» و«نهج» أبو عمار. خطاب يمضي في حاله بعد دقائق من إلقائه، لتتردد فقط أصداء المواقف السياسية التي يطلقها أبو مازن في وجه الأميركيين والإسرائيليين.
لكن ماذا عن الجوهر؟ ماذا عن الثوابت والنهج؟ هل حقيقة أن محمود عبّاس يسير على هدي أبو عمّار؟ من المؤكد أن الأمر ليس كذلك أبداً، ولا سيما أن الطلاق البائن حدث بين الاثنين قبل أعوام من اغتيال الزعيم الفلسطيني. خلاف على النهج وعلى الثوابت وعلى الخط الذي اختاره عرفات في أيامه الأخيرة، وتحديداً مع اندلاع انتفاضة الأقصى عام 2000، التي لم يتقبلها أبو مازن، وخرج بعدها من الأضواء قبل أن يعود بضغط أميركي.
لا بأس من الإضاءة على تلك الفترة من الزمن للتأكيد أن الحديث ليس عن نهج واحد، بل عن نهجين بكل ما للكلمة من معنى. وبغض النظر عن المفاوضات السريّة التي كان أبو مازن مسؤولاً عنها قبل اتفاق أوسلو وبعده، بعلم أبو عمار أو من دونه، على اعتبار أن تلك الاتصالات جرت بهذين الشكلين، يمكن بدء سرد قصّة الافتراق الحقيقي من لحظة اندلاع انتفاضة الأقصى.
في ذلك الحين، بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد وأخذ أبو عمار الانتفاضة إلى طابعها المسلّح، خرج أبو مازن ليعلن على الملأ مناهضة هذا الخط، الذي رأى فيه «مغامرة». وزاد على ذلك في محاضرة في قطاع غزة بداية شهر كانون الأول من عام 2001، ليرى أن «الانتفاضة دمرت كل ما بنيناه في أوسلو وكل ما بُني قبل ذلك، وسببت هرب رأس المال والاستثمارات من مناطق السلطة»، من دون أن ينسى انتقاد فلسطينيي 48 على هبّتهم في بداية الانتفاضة، إذ حمّلهم مسؤولية «الإضرار بحق العودة»، على اعتبار أن «الإسرائيليين سيقولون: لا نريد المزيد من هؤلاء العرب عندنا»، وكأن الأمر كان مختلفاً قبل ذلك.
الافتراق عن أبو عمّار لم يقف عند حد الاختلاف بالرأي، بل كان أبو مازن أحد الأطراف الأساسيّة، مع محمد دحلان، في وضع هذا التباعد حيّز التنفيذ من خلال خطّة أميركية ـــــ إسرائيلية لم تكن معالمها خافية على أحد، ولا سيما عقب ظهور مقولة أن أبو عمار «لم يعد شريكاً» في أعقاب الكشف عن دوره في الانتفاضة المسلحة. مقولة كانت تتردد على ألسنة الإسرائيليين والأميركيين، الذين سعوا إلى إطاحة عرفات، أو على الأقل تقليص صلاحياته وكفّ يده عن الهيئات التنفيذيّة على الساحة الفلسطينية.
وإذا أسقطنا اتهامات فاروق القدومي لأبو مازن بالضلوع في تصفية عرفات جسديّاً، على اعتبار أنها غير ذات صدقية، إلا أنه لا يمكن إسقاط أن أبو مازن كان متورطاً، بنحو واضح، بعملية تصفية أبو عمّار سياسيّاً، بدءاً من عام 2003.
عمليّة انطلقت مع الضغط الأميركي على أبو عمّار لاستحداث منصب رئيس وزراء ووزير مالية، وتسليم الأول إلى محمود عبّاس والثاني إلى سلام فياض، الذي كان ولا يزال مندوب الإدارة الأميركية في السلطة الفلسطينية.
وهذا فعلياً ما حصل في بداية عام 2003، في وقت كان فيه عرفات محاصراً في مقرّ المقاطعة. أبو عمّار، الذي قبل مرغماً برئيس حكومة، عمد إلى مقاومة كل محاولات أبو مازن سحب الصلاحيات منه، ولا سيما في ما خصّ الملف الأمني الذي كان عبّاس يسعى إلى كفّ يد عرفات عنه، وبالتالي بدء مشروع مكافحة «ظاهرة التسلح»، التي تعني بمعنى آخر وقف عمليات المقاومة. عبّاس حينها كان يعمد إلى تسليم هذه المهمّة إلى محمد دحلان، الذي لم يجد أكفأ منه لها، ولا سيما أنه أبلى بلاءً حسناً في ملاحقة عناصر المقاومة في قطاع غزّة، والدور حان على الضفة الغربية.
واستمر عرفات في محاربة أبو مازن، إلى أن دفع به إلى الاستقالة من رئاسة الحكومة، ولم يتوان عن وصفه بأنه «قرضاي فلسطين»، نسبة إلى الرئيس الأفغاني حميد قرضاي الذي كان معيّناً حديثاً من الولايات المتحدة حاكماً لأفغانستان.
مع الاستقالة، كانت القطيعة بين عرفات وأبو مازن، بعدما بات واضحاً أن النهجين لا يمكن أن يتعايشا تحت سقف واحد. قطيعة بقيت حتى لحظة وفاة عرفات، حين استحضر أبو مازن من منزله لتولّي مهام الرئاسة باعتباره أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير.
سقوط بالمظلة جاء من واقع كلمة سر أميركية ـــــ إسرائيلية ـــــ عربية، وحتى فلسطينية، حاولت الإيحاء بأن أبو مازن سيكون «خير خلف لخير سلف»، وأنه جاء لاستكمال عهد أبو عمار، رغم أن الحقيقة مختلفة تماماً. فالدور الذي كان أبو مازن يؤديه ولا يزال، عن اقتناع، هو القطع التام مع هذا النهج.