يروي الكاتب تاريخ تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية، وأثر العوامل العربية في تأسيسها، التي جعلتها، برأيه، جزءاً من النظام الرسمي العربي. ويعود إلى بدايات فكرة الحوار مع الإسرائيليين الواردة في برنامج النقاط العشر سنة 1974، التي تطورت لاحقاً إلى التفاوض معهم في سنة 1993. ويعتقد الكاتب أنّ المفاوضات التي بدأت، عملياً، في سنة 1993، ومنحت المنظمة صفة الاعتدال السياسي في الأوساط الدولية لم تثمر، ولم تؤدِّ إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة هي الغاية الأبرز للمنظمة منذ 1974 فصاعداً
بلال الحسن *
نشأت منظمة التحرير الفلسطينية كجزء من النظام العربي. وكانت نشأتها الأولى بقرار من القمة العربية، في أجواء الاستعداد العربي لمواجهة المشروع الإسرائيلي بتحويل مياه نهر الأردن، ومن خلال مشروع عربي مضاد لخطة تحويل الروافد. وأعلنت المنظمة في ميثاق نشأتها (الميثاق القومي الفلسطيني) سنة 1964، أنّ هدفها تحرير فلسطين التي احتلتها الحركة الصهيونية سنة 1948. وحين وقعت حرب حزيران (يونيو) 1967، مُني العرب فيها بهزيمة قاسية، واحتلت إسرائيل كامل الأرض الفلسطينية (الضفة الغربية وغزة)، كذك احتُلت أراض عربية (سيناء والجولان). ونشأ بذلك وضع جديد كلياً، كان عنوانه الأساسي إعادة بناء الجيوش العربية، والاستعداد عربياً لتحرير الأراضي التي احتلت في 1967، وقد حمل التعبير عنه شعار «إزالة آثار العدوان». وكان أن برزت في سياق ذلك، بين إنشاء المنظمة وهزيمة حزيران (يونيو)، حركة العمل الفدائي الفلسطيني في 1965، من خلال الحركة التي حملت اسم «حركة فتح»، التي أعلنت أيضاً أنّ هدفها هو تحرير فلسطين، لكن من خلال استراتيجيا الكفاح الشعبي المسلح.
كانت نشأة العمل الفدائي الفلسطيني متواضعة عسكرياً وشعبياً، لكن أجواء الهزيمة أوجدت مناخاً شعبياً فلسطينياً وعربياً شديد التحدي والحيوية، توجه نحو فكرة العمل الفدائي وتبناها. وكان أن أتيح لحركة «فتح» أن تتسع شعبياً، وكذلك لتنظيمات فدائية أُخرى أن توجد وأن تتسع. وهكذا وُجدت الجبهة الشعبية ـــــ القيادة العامة بقيادة أحمد جبريل (قبل سنة 1967)، والجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش، ومنظمة الصاعقة التي انبثقت من الفرع الفلسطيني لحزب البعث الحاكم في سوريا.
كان المناخ السياسي المسيطر آنذاك ينطلق من شعار التحرير فلسطينياً، ومن شعار إزالة آثار العدوان عربياً، ومن قرار مجلس الأمن 242 الذي يدعو العرب والإسرائيليين إلى التفاوض. وهو القرار الذي اعترفت به الدول العربية المعنية (مصر والأردن ثم سوريا)، بينما رفضت الحركة الفدائية الفلسطينية الاعتراف به...
في ضوء هذا الواقع، بدأ العمل لإعادة بناء الجيش في كلّ من مصر وسورية والأردن، والاستعداد لمعركة «إزالة آثار العدوان». وبدأ العمل دولياً لرعاية تفاوض إسرائيلي ـــــ عربي بحسب منطق القرار 242، وعبر ما اشتهر آنذاك باسم «مؤتمر جنيف»...
في هذا الوقت، طرأ تغيّر على الموقف المصري بشأن الوضع الفلسطيني. ارتأت مصر أنّ بقاء منظمة التحرير بقيادة أحمد الشقيري لا يلائم توجهاتها، وأنّها (مصر) تحتاج إلى قوة مقاتلة فلسطينية، ذات صفة شرعية، تُسهم في مشاغلة القوة العسكرية الإسرائيلية، لإيجاد مناخ يساعد في عملية إعادة بناء الجيش المصري. فكان أن عملت على استقالة الشقيري، واقترحت على «فتح» أن تتولى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية (ذات الصفة الشرعية). وهذا ما حدث أواخر عام 1968 الذي شهد تعديل الميثاق الذي أصبح «الميثاق الوطني الفلسطيني». وشملت التعديلات ما يأتي: إقرار السيادة على كامل الأرض الفلسطينية، شاملاً بذلك الضفة الغربية وقطاع غزة ومنطقة الحمة، وهي المناطق الثلاث الجديدة المحتلة من الأرض الفلسطينية، وكانت مستثناة في الميثاق القومي السابق؛ إقرار استراتيجيا الكفاح المسلح أساساً للتحرير الشامل، مع تسجيل الرفض الفلسطيني للقرار 242. لكن ما يهم هنا أنّ منظمة التحرير استمرت جزءاً من النظام العربي، وأنّ الحركة الفدائية جاءت إلى قيادة منظمة التحرير برغبة ورعاية عربية. وأصبحت بدورها جزءاً من النظام العربي، تتفاعل معه، وتتأثر به، من دون أن يعني ذلك التبعية السياسية.

نشوء فكرتَيْ الكيان والحوار

منذ وقت مبكر جرت اتصالات بين فصائل فدائية وجهات إسرائيلية، بادرت إليها حركة «فتح»، ثم الجبهة الديموقراطية (نايف حواتمة). وكانت تلك الاتصالات تقوم على قاعدة الاتصال بالقوى الإسرائيلية الرافضة للصهيونية. لذا، كان الاتصال بأشخاص من منظمة ماتسبين الإسرائيلية ذات التوجه التروتسكي.
منذ وقت مبكر جرت اتصالات بين فصائل فدائية وجهات إسرائيلية بادرت إليها حركة «فتح»
وطُرحت منذ وقت مبكر فكرة إنشاء كيان فلسطيني، لكن من طريق تحرير فلسطين. واتخذ هذا الطرح صيغة «إنشاء كيان فلسطيني فوق كل أرض تُحَرَّر»، وكان يبتعد بذلك عن فكرة الحوار مع المحتل الإسرائيلي...
وحين وقعت حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بادرت حركة «فتح» ومعها الجبهة الديموقراطية، إلى طرح برنامج النقاط العشر على المجلس الوطني الفلسطيني الثاني عشر الذي عقد في القاهرة بين 1 و6 حزيران (يونيو) 1974. وقد تعرّض المشروع لنقد واسع داخل المجلس، لكنه أُقرّ. كان البرنامج يدعو إلى «إقامة سلطة الشعب الوطنية المستقلة المقاتلة على كل جزء من الأرض الفلسطينية التي تُحَرَّر».
لكنّه كان يفسح في المجال أيضاً لإجراء القيادة الفلسطينية الاتصالات اللازمة لتحقيق هذا الهدف، وهو ما عبّر عنه البند العاشر. فورد فيه: «تضع قيادة الثورة التكتيك الذي يخدم ويمكّن من تحقيق هذه الأهداف». وكان هذا البند الذي يسمح بـ«التكتيك»، أي بالاتصالات والإجراءات اللازمة، هو جوهر الموضوع الذي تريده القيادة الفلسطينية. وكانت تلك أول إشارة رسمية تصدر عن منظمة التحرير الفلسطينية، في اتجاه اتباع «تكتيك» مع قوى وشخصيات لا بد من أن يكون بينها بالضرورة شخصيات إسرائيلية.
نشأ في مواجهة هذا البرنامج تياران فلسطينيان، داخل الإطار الشعبي، وداخل إطار منظمة التحرير: تيار يؤيد هذا النهج المرحلي، والثاني يرفضه ويصر على هدف التحرير الشامل. وعبّر هذا التيار عن نفسه بنشوء «جبهة الرفض»، وكان هذا أول انقسام يتخذ صفة الفعل...

الممثّل الشرعي الوحيد

في سنة 1974، على أثر مؤتمر القمة العربي في الدار البيضاء، عُدّت منظمة التحرير الفلسطينية «الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني». ثم توافق العرب، مستندين إلى نتائج حرب 1973 وتأثيراتها في الساحة الدولية، على العمل كي يُدعى ياسر عرفات إلى إلقاء كلمة أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة. وكان لهم ما أرادوا. وألقى عرفات كلمته الشهيرة أمام الجمعية العامة، متحدثاً لأول مرة باسم شعب فلسطين. ثم ختم كلمته بشعار ذي دلالة سياسية في اتجاه احتمال التفاوض، حين قال: «لقد جئتكم، يا سيادة الرئيس، بغصن الزيتون مع بندقية الثائر، فلا تسقطوا الغصن الأخضر».
لكن المسار العربي ما لبث أن دخل في مأزق من نوع آخر، وانعكس ذلك على منظمة التحرير الفلسطينية بنحو سلبي للغاية. فقد وجدت نفسها في مواجهة خيار التفاوض، إلّا أنّه التفاوض الذي فرضته عليها قوى صديقة أحياناً وعدوة أحياناً أُخرى، وكان ذلك عبر التطورات الآتية:
أولاً: الحرب الأهلية اللبنانية...
ثانياً: جاء التطور الأخطر والأبرز من مصر، حين بادر الرئيس أنور السادات إلى زيارة إسرائيل، وعندما أجرى مفاوضات كامب ديفيد، وعقد معها معاهدة السلام (1979)...
ثالثاً: في أجواء اتفاق كامب ديفيد، وفي أجواء خروج مصر من دائرة الصراع مع إسرائيل، شنّت هذه الأخيرة حربها على لبنان (1982)، بهدف القضاء على حركة المقاومة الفلسطينية فيه. وقد أدت هذه الحرب عملياً إلى خروج حركة المقاومة ومعها منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان إلى تونس، حيث واجهتا عزلة سياسية عربية ملحوظة. ورافق خروج الفلسطينيين من لبنان إعلان «مبادرة ريغان» الأميركية، التي وضعت إطاراً محدداً لمسار التفاوض يقوم على ما يأتي: أن تتخلى منظمة التحرير نهائياً عن منهج «العنف» وعن حمل السلاح؛ أن تنحاز نهائياً إلى منهج «التفاوض»؛ أن تعلن قبولها القرار الدولي 242؛ أن يجري التفاوض مع إسرائيل عبر شراكة أردنية ـــــ فلسطينية...
في أثناء ذلك، طرأ حدث قصير، إذ عاد ياسر عرفات من تونس إلى مدينة طرابلس اللبنانية، وخاض مواجهة ضد قوات فلسطينية متمردة مدعومة من سوريا، بعد انشقاق فلسطيني داخل حركة «فتح» في أيار (مايو) 1983. وانتهت تلك المواجهة بخروج جديد للقوات الفلسطينية من طرابلس. وكانت المفاجأة أنّ تلك القوات ذهبت هذه المرة إلى مصر، وكسر عرفات قرار العزل العربي الذي مورس عليها بعد اتفاق كامب ديفيد. وكان عرفات يقول في جلساته الخاصة: «مصر وقّعت اتفاق كامب ديفيد، لذلك فإنّ كلمتها مسموعة في الولايات المتحدة الأميركية».

الانتفاضة... وبيان الاستقلال

في مرحلة وجود منظمة التحرير في تونس، مجموعة من التطورات سنوردها من دون تسلسل زمني، لأنّ الرابط بينها يمثّل منهجاً سياسياً، وعلامة فارقة في المسيرة الفلسطينية، تنقلها من حال إلى حال.
أولاً: ضَعُف الاهتمام العربي بمنظمة التحرير الفلسطينية في أثناء وجودها في تونس، وضعفت حتى عمليات الدعم المالي لها... لكنّ انفجار الانتفاضة الفلسطينية الأولى أواخر 1987، أعاد الزخم السياسي إلى القضية الفلسطينية...
ثانياً: قام الرئيس الراحل ياسر عرفات بزيارة كانت الأولى من نوعها لفرنسا، والتقى الرئيس الفرنسي فرنسوا ميتران، وتركز البحث في هذه الزيارة على إنشاء دولة فلسطينية، وعلى حق العودة، وعلى الميثاق الوطني الفلسطيني. وكان الرئيس ميتران قد زار إسرائيل قبل ذلك، وألقى خطاباً في الكنيست، تحدث فيه بوضوح عن ضرورة أن توافق إسرائيل على إنشاء دولة فلسطينية. أمّا في موضوع حق العودة، فقال ميتران لعرفات إنّه موضوع شائك، فكيف تنظرون إلى التعامل معه؟ وردّ عرفات قائلاً: «أعطني دولة فلسطينية، وأنا سأتعامل بعد ذلك مع الفلسطينيين». وتساءل عرفات: «هل سيعود الفلسطيني الغني المقيم في الخليج إلى الضفة الغربية؟». أمّا في موضوع الميثاق، وبعد أن سأله ميتران عنه، فقد أجاب عرفات قائلاً إنّه «كادوك»، أي، ساقط بالتقادم، مفجراً بذلك قنبلة مدوية كانت لها تداعياتها بعد ذلك.
ثالثاً: بات واضحاً لدى عرفات في هذه المرحلة، أنّه لن يستطيع دخول حلبة الحوار الدولي (مع أميركا بالذات وبعد ذلك مع إسرائيل)، إلاّ إذا وافق على القرار 242، واعترف بإسرائيل، وتخلى عن العمل المسلح. وتعني هذه النقاط الثلاث إنهاء الثورة الفلسطينية. لذلك لم يكن سهلاً عليه إعلان القبول بها مباشرة، إذ لا بد لها من تغطية من نوع خاص، وهو ما أُنجز في بيان الاستقلال الصادر عن المجلس الوطني العشرين الذي عقد في الجزائر سنة 1988. ما يريده عرفات كان صيغة مقبولة للاعتراف بالقرار 242، وكان الغطاء فكرة إعلان الدولة المستقلة، فما دمت صاحب دولة تستطيع أن تعترف بالقرار المذكور لتطالب بعد ذلك بالانسحاب الإسرائيلي من الأرض التي احتُلت.
وكان عرفات يعلم أنّ من شروط الدولة الاعتراف بدولة إسرائيل. وكانت التغطية لذلك، استحضار قرار التقسيم الصادر سنة 1947، والقول إنّ هذا القرار لا يزال صالحاً لإنشاء دولة فلسطينية، والمضمر في ذلك الاعتراف بالقرار الذي يدعو إلى إنشاء دولتين. وهكذا قبِل عرفات، وقبِلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، ما كان يُرفض دائماً، وجرت تغطية ذلك بالشعار البراق: «إعلان قيام دولة فلسطين المستقلة».

مؤتمر جنيف والحوار الأميركي الفلسطيني

اعتقد عرفات أنّ ما أُنجز في «إعلان الاستقلال» من الاعتراف بإسرائيل، وشعار الدولتين، والاعتراف بالقرار 242 سيفتح له باب الحوار مع الإدارة الأميركية، وتحمس للذهاب إلى دورة الأمم المتحدة في نيويورك في ذلك العام. لكن المفاجأة كانت في أنّ الولايات المتحدة رفضت منحه تأشيرة دخول إلى مدينة نيويورك. وهنا تدخل الاتحاد السوفياتي ودفع في اتجاه نقل اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة إلى جنيف كي يتمكن عرفات من الحضور، وإعلان موقفه الجديد. جرى ذلك فعلاً، وحضر الجنرال فيرنون ولترز ممثلاً الولايات المتحدة الأميركية في أعمال الدورة.
بعد خطاب ومؤتمر صحافي لعرفات اعترف بعدهما بإسرائيل (من خلال شعار الدولتين)، ووافق على القرار 242، ونبذ «الإرهاب»، رضي الجنرال الأميركي. وكان ذلك إيذاناً بالاستعداد الأميركي لبدء حوار ثنائي مع منظمة التحرير الفلسطينية، وهو أمر يحدث لأول مرة.
بدأت المفاوضات الأميركية ـــــ الفلسطينية في تونس، وانتدب لها من الجانب الأميركي السفير بلليترو، ومن الجانب الفلسطيني ياسر عبد ربه عضو اللجنة التنفيذية. وكان جو المحادثات محاطاً بتفاؤل فلسطيني يصل إلى حد الفرح، إلّا أنّ هذا التفاؤل وذاك الفرح لم يستطيعا الصمود طويلاً؛ إذ في اللقاءات الخمسة كان الفلسطينيون يسألون، والأميركي يكرر إلقاء «محاضرة» عمّا هو مطلوب من الفلسطينيين عمله. وفهم الفلسطينيون أنّ الإدارة الأميركية لا تفاوض منظمة التحرير الفلسطينية، لكن تحدد لها ما هو مطلوب منها كي تلتزمه.

من مؤتمر مدريد إلى اتفاق أوسلو

على وقع الحرب الأميركية ضد العراق بعد احتلاله الكويت (1990 ـــــ 1991)، قدمت واشنطن إغراءً عنوانه الاستعداد للعمل الجاد لحل القضية الفلسطينية. وما إن انتهت الحرب، حتى دعا الرئيس جورج بوش الأب إلى مؤتمر مدريد الدولي للبحث في الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي (أواخر سنة 1991)، على أن تنبثق منه مفاوضات ثلاثية مباشرة، بين إسرائيل ولبنان، وإسرائيل وسوريا، وإسرائيل والفلسطينيين. وفُرضت على الفلسطينيين في هذه المفاوضات شروط عديدة مجحفة...
ثم حدثت المفاجأة المدوية، حين أُعلن انتهاء مفاوضات كانت تجري سراً في مدينة أوسلو النرويجية بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. وأُعلن أنّ تلك المفاوضات أدت إلى اتفاق مبادئ، وإلى إنشاء حكم ذاتي، وإلى تحديد قضايا أساسية ستكون مجال مفاوضات ما سمي الحل النهائي، أو الحل الدائم. وحُدِّدت خمسة أعوام مدى زمنياً لتطبيق هذا الاتفاق الذي مثّل ضربة لمفاوضات واشنطن، وأدى إلى توقفها.
يتصرف عباس كالمغلوب على أمره، فقدّم لإسرائيل كل ما تريده، لكنّ الأمور تزداد أمامه تعقيداً
لم يتضمن اتفاق أوسلو اعترافاً فلسطينياً رسمياً بإسرائيل، ولم يتضمن اعترافاً إسرائيلياً رسمياً بمنظمة التحرير الفلسطينية. لكن كان الاعتراف كامناً ضمنياً في طبيعة المفاوضات وفي طبيعة الوفود. وحين بدأ البحث في حفل توقيع الاتفاق في البيت الأبيض الأميركي (13/9/1993)، برز موضوع من سيوقّع الاتفاق، وفد «سكان المناطق» في واشنطن، أم وفد من منظمة التحرير الفلسطينية التي رعت مفاوضات أوسلو؟ هنا أصر ياسر عرفات على أن يكون التوقيع باسم منظمة التحرير الفلسطينية. وهنا أيضاً قالت إسرائيل إنّ التوقيع بهذه الصفة يقتضي أن تعترف المنظمة رسمياً بها، وأن تعترف هي رسمياً بمنظمة التحرير. دخل على الخط سراً وزير الخارجية النرويجي يوهان هولست، الذي تنقّل بين العواصم، ووصل إلى تونس حاملاً اقتراحاً برسائل يجري تبادلها، سمّيت «رسائل الاعتراف المتبادل». وقّع عرفات رسالة الاعتراف بإسرائيل بقرار فردي منه، من دون أن يطلع أحداً على الأمر، ثم وقّعت إسرائيل الرسالة بدورها. وتضمّنت الرسائل تراجعين فلسطينيين كبيرين وخطرين، نقلا التفاوض الفلسطيني ـــــ الإسرائيلي إلى موقع جديد يختلف عن كل ما سبقه. كان التراجع الفلسطيني الأول «الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود». وكان الثاني التعهد بتغيير «الميثاق الوطني الفلسطيني» بما يتلاءم مع الاتفاقات الجديدة، وهو أمر يعني إلغاء الرواية الفلسطينية لتاريخ فلسطين، وهدف التحرير، وأسلوب التحرير عبر الكفاح المسلح ضد الاحتلال...

عرفات ومفاوضات الحكم الذاتي

بعيداً عن الخوض في تفصيلات مفاوضات الرئيس عرفات مع إسرائيل لتطبيق اتفاق أوسلو وإنشاء الحكم الذاتي، من المفيد أن نتوقف عند القضايا التي مثّلت مفاصل أساسية في تلك المفاوضات.
أولاً، مساحة الحكم الذاتي: لقد بدأت مفاوضات الحكم الذاتي بشأن أراضي الضفة وقطاع غزة، باتفاق جزئي إسرائيلي ـــــ فلسطيني يدعو إلى نشوء حكم ذاتي في «غزة وأريحا أولاً». وهذا أمر لم يرد في بنود اتفاق أوسلو، ودخل هكذا فجأة إلى صلب المفاوضات...
ومع بدء المفاوضات، كان هناك تصوّر فلسطيني عبّر عنه الدكتور نبيل شعث مراراً، وهو المفاوض الأساسي آنذاك، قائلاً إنّ الحكم الذاتي سينشأ على 90% من الأراضي المحتلة، أمّا الـ10% الباقية فهي الأراضي التي تقوم عليها المستعمرات والمعسكرات الإسرائيلية، وستكون موضوع استكمال التفاوض.
لكن الأمور على الأرض سارت في اتجاه آخر. فالجزء الأول من اتفاق «غزة ـــــ أريحا أولاً» لم يعط الفلسطينيين ما كانوا يتصورونه...
ثانياً، وضع عرب 48: تنازلت منظمة التحرير الفلسطينية، بموجب رسائل الاعتراف المتبادل، عن اعتبار نفسها مسؤولة عن هذا الجزء من شعبها. فبموجب القانون، هؤلاء الفلسطينيون هم مواطنون إسرائيليون، وبموجب الاعتراف بإسرائيل فإنّه ليس من حق المنظمة أن تتدخل في البحث في مصير مواطنين «إسرائيليين».
ثالثاً، قضية عودة النازحين: منذ بدء مؤتمر مدريد أواخر سنة 1991، جرى العمل في مجريين: مجرى المفاوضات المباشرة، ومجرى تأليف لجان متخصصة ذات طبيعة دولية، أبرزها «لجنة اللاجئين». وتفرع من موضوع اللاجئين البحث في موضوع النازحين من الضفة الغربية وغزة بعد حربَي 1967 و1973. كانت الجهات المعنية بهذا الموضوع كلّها (إسرائيل والأردن ومصر ومنظمة التحرير) موافقة على بدء البحث في هذه المسألة. لكن إسرائيل طرحت مع بداية جلسات التفاوض بشأن هذه المسألة قضيتين أدتا إلى التعطيل. القضية الأولى سؤال: مَن هو النازح؟ هل هو الذي نزح فعلاً، أم أنّ الأمر يسري أيضاً على أبنائه وأحفاده؟ وكانت إسرائيل تصر على الصفة الأولى للنازح وترفض الثانية. القضية الثانية: كم هو عدد هؤلاء النازحين؟ وضرورة الذهاب أولاً إلى إجراء إحصاء لتحديد العدد... أمّا قضية اللاجئين، فهي مدرجة في اتفاق أوسلو ضمن بنود مفاوضات الحل الدائم، لذلك لم يكن هناك أي بحث ثنائي فيها.
رابعاً، منهج عرفات في التفاوض: اتبع عرفات منهجاً في التفاوض مع إسرائيل في قضايا الحل المرحلي يستند إلى المطالبة بما يريد، ثم قبول ما يعرضه الإسرائيليون. وكان تبريره ذلك، أنّ هذه مفاوضات مرحلية، فلنأخذ في أثنائها من الإسرائيليين كل ما نستطيع الحصول عليه، لأنّ الباقي كله سيبحث في المفاوضات النهائية. وبسبب ذلك ساد لدى الإسرائيليين انطباع بأنّ عرفات مفاوض سهل.
وحين اتُّفق على الذهاب إلى مفاوضات الحلّ النهائي في كامب ديفيد (2000) برعاية أميركية، أعد الإسرائيليون مشروعهم للحل النهائي، أي مشروعهم للسلام الدائم. وكان لديهم انطباع بأنّ عرفات سيواصل نهجه التفاوضي الأول. لكنه بدّل في كامب ديفيد نهجه، ورأى أنّ ذلك من حقه. وحين اطّلع عرفات على المشروع الإسرائيلي للتسوية، اكتشف أنّ إسرائيل لا تريد الانسحاب من الأراضي التي احتلت سنة 1967، بل تريد اقتسام الضفة الغربية مع الفلسطينيين. وتفاوض عرفات في اتجاه مناقض لهذا الرأي رافضاً الحلول الوسط، باعتبار أنّ هذه المفاوضات هي بشأن الحل النهائي. وربما كان الإسرائيليون قد فوجئوا بمنهج عرفات التفاوضي الجديد. لكنّ النتيجة كانت إعلان فشل المفاوضات...
حاول عرفات العمل على تغيير موازين القوى مع إسرائيل من خلال تشجيعه قيام الانتفاضة الثانية. لكن هذه الانتفاضة فوجئت بموقف أميركي مضاد، وبحرب إسرائيلية لإعادة احتلال الضفة الغربية من جديد (حرب شارون)، وبحصار يُفرض على عرفات في مكتبه بقرار إسرائيلي وتغطية أميركية. وانتهى بذلك عملياً نظام الحكم الذاتي، إلّا أنه بقي قائماً كأمر واقع.

محمود عباس يفاوض في الهواء الطلق

شهدت سنة 2005 انتخاب محمود عباس رئيساً للسلطة الفلسطينية، وبدأت معه مرحلة جديدة من التفاوض، مرحلة اختتام المشهد. واستندت مفاوضات عباس إلى مواقف فلسطينية جديدة، جوهرها السعي لإرضاء كلّ من إسرائيل والولايات المتحدة من خلال التقيد بـ«خريطة الطريق» و«وعد بوش». حدد عباس نهجه التفاوضي بما يأتي:
أولاً: القضاء على الانتفاضة، وإيقافها، وإدانتها، واعتبار أنّها أساءت إلى القضية الفلسطينية.
ثانياً: إدانة العمل الفدائي ضد الاحتلال، واعتماد منهج المفاوضات فقط. وتلى ذلك تذويب جهاز حركة «فتح» القتالي باتفاق مع الإسرائيليين، ثم منع الفصائل الأُخرى من ممارسة العمل الفدائي.
ثالثاً: التباهي بتطبيق كلّ ما هو مطلوب منه في خطة «خريطة الطريق»، والتركيز على أنّ إسرائيل لم تنفذ شيئاً مما يترتب عليها.
رابعاً: البدء بتنفيذ سياسة تعاون أمني مع إسرائيل، من خلال بناء جهاز أمني جديد بإشراف الجنرال الأميركي كيث دايتون، وتنظيم عملية تبادل معلومات بين الطرفين، وتنظيم عمليات فلسطينية ـــــ إسرائيلية مشتركة للقضاء على أي محاولات فدائية ضد الاحتلال الإسرائيلي.
خامساً: السير بخطة موازية لمنهج التسوية والتفاوض، أوكل أمر تنفيذها إلى رئيس الحكومة سلام فياض، تقوم على السعي للتسوية من خلال ما يسمى «السلام الاقتصادي».
على قاعدة هذا النهج، ذهب محمود عباس إلى التفاوض مع الإسرائيليين، وعقد مع إيهود أولمرت جلسات سرية زادت على الستين، من دون أن تؤدي إلى أي جديد، إلّا الإصرار على رؤية إسرائيل الاستراتيجية للتسوية، كما عُرضت في كامب ديفيد، أي اقتسام الضفة الغربية، والإصرار على بناء المستعمرات، وتوسيع المطالب الإسرائيلية في اتجاه القدس.
وإذا كانت مطالب أولمرت سرية، فإنّ خلفه بنيامين نتنياهو نقل المطالب السرية إلى العلن. وأضاف إليها الإصرار على مفاوضات مباشرة من دون شروط مسبقة، ومن دون مرجعية، وطلب الاعتراف الفلسطيني مسبقاً بيهودية دولة إسرائيل.
وأدى ذلك كلّه إلى طريق مفاوضات مسدود، وإلى جدل ممل في وقف توسيع الاستيطان. أمّا الاستيطان نفسه فأصبح كأنه أمر واقع ومسلّم به، على الأقل من خلال التسليم بشعار تبادل الأراضي التي تضم 80% من المستوطنين. ويتصرف محمود عباس تجاه ذلك كالمغلوب على أمره، فهو قدم لإسرائيل كل ما تريده، ووافق على كل ما طلبته أميركا منه، ومع ذلك فإنّ أمور الحل تزداد أمامه تعقيداً بدلاً من أن تنحل العقد.
لقد جُرِّبت طريق الاعتدال، من برنامج النقاط العشر سنة 1974 حتى الآن، وجُرب تقديم التنازلات عن قضايا أساسية ومبدئية، وكذلك أُرضيت إسرائيل بالكامل من طريق قبول مطلبها وقف مقاومة الاحتلال، وكانت النتيجة أنّ التسوية أصبحت أبعد وأبعد. وبهذه النتيجة يسقط منهج سياسي وتفاوضي جُرب بأشكاله وأنماطه وألوانه جميعاً، ولا يبقى بعد ذلك (منطقياً) إلّا الذهاب إلى المنطق الآخر المضاد، لكنّه يحتاج إلى إرادة يبدو أنّها غائبة بالكامل.
(النص جزء من مقال أطول ينشر في العدد المقبل من «مجلّة الدراسات الفلسطينيّة»)
* كاتب فلسطيني