حسان الزينتخيّلوا لبنان واللبنانيّين من دون أراكيل. هذه ليست دعوة بيئية وصحّية. العياذ بالله. فالدعوة إلى نزع الأراكيل دعوة إلى الحرب وإنهاضٌ للفتنة. الدعوة التخيّلية هي إلى تمرين تجريدي للنظر إلى «فوائد» الأركيلة ومنافعها على هذا الوطن. تخيّل لبنان واللبنانيين بلا أراكيل دعوة إلى رؤية المخاطر المحدقة إذا خلا لبنان من الأراكيل. فالحرب لن تبدأ إذا ما نُزعت الأراكيل، لكن قرار نزعها، هو في حد ذاته، قرار حرب.
الأركيلة لم تعد جزءاً من عادات اللبنانيين فحسب، إنّما باتت جزءاً من الشخصيّة الوطنية، بل هي أمر استراتيجي لحماية لبنان واستقراره. لا استعارة في هذا الكلام، وليس المقصود المقاومة وسلاحها ولا الجيش الوطني أو سوريا أو السعوديّة. صدقاً، لولا الأركيلة لا أعرف أين كان لبنان واللبنانيون.
الأركيلة، عنوان «التنبلة» كما هي في ثقافة بلادنا منذ السلطان العثماني عبد الحميد، موجودة في معظم البيوت والمقاهي والأزقة، وفي السيارات وعلى معظم الدراجات الناريّة. انتشرت بقدرة قادر وسحر ساحر وانشغلت في تصنيعها وأكسسواراتها وفحمها مصانعُ الصين وتركيا ومعامل مصر وسوريا، وغابات إيران وماليزيا والإمارات والصومال... كلّها لتأمين طلبات السوق اللبنانيّة والحفاظ على أمزجة اللبنانيين وراحتهم وإرضائهم. ومن المفيد هنا الإشارة إلى الفارق الكبير بين التدخل الدولي السياسي في الشؤون المحلية، الكبيرة والصغيرة، والتعاون الدولي إلى حد العطاء والكرم في مجال الأركيلة.
هذه الأركيلة، الكوكب الجميل ذو العناصر المتكاملة، الماء والهواء والتراب والنار، منقذ لبنان من الفتن والحروب. صحيح أنها ليست اختراعاً جديداً، وهي موجودة في العديد من المجتمعات المتعثمنة، إلا أنها في لبنان ذات نكهة خاصّة، بل نكهات خاصّة. هي حيث تخرخر لها نكهة خاصة. والتعدد الثقافي في لبنان يغني لوحتها الفسيفسائية. كأن تكون في بعض المجتمعات اللبنانية تقليداً قديماً يعبّر عن الرخاء والاستقرار المديني وتبسيط الحياة وتقديس عاداتها... الخ، وفي مجتمعات لبنانية أُخرى هي تعبير عن الرغبة في الرخاء والاستقرار. وما بين هذا المفهوم ذي الدلالات والمعاني السوسيولوجيّة والسايكولوجيّة والابستمولوجيّة، وذاك، مروحة واسعة ومتنوعة من المفاهيم والمعاني والعِبر. فهي بالنسبة إلى البعض ملجأ وهروب وانسحاب من الواقع الضيّق والقاسي والمتأرجح، وإلى البعض الأخر موعد ولقاء مع آخرين ومع مدينة هادئة وصاخبة وكوكب جميل وقبيح، مضجر ومسلٍّ، عاقل ومجنون في آن واحد. فالأركيلة تجعل النظر إلى هذا، من خلف الدخان، أخفّ وطأة. الدخان يقيم فاصلاً كثيفاً وهشّاً، بطيئاً وسريعاً، بين الإنسان والكوكب... لكأنّ الحياة لا تُطاق وأمورها لا تُستوعَب من دون هذه الساحرة ودخانها الذي يحجب ما يجري ويجعل النظر إليه متماوجاً ومقبولاً.
أوروبيّاً، للكنبة فوائد الأركيلة عندنا، كما قال فيلسوف التنبلة وشاعرها إميل سيوران، الذي رأى أنه لولا الكنبة لكانت الثورات قامت؛ وأميركياً يؤدي التلفزيون ومعه الكنبة، هذا الدور. الحمد الله، بلداننا ومجتمعاتنا، التي تأخذ الأجمل من تلك الأمم، لديها هذا كلّه. لكن الفضل الأول في إبعاد شبح الحرب والفتنة والثورات للأركيلة. أقول هذا ولو حُسب عليّ تعصباً. الأركيلة أولاً. فالتلفزيون الذي يجعل العالم غير واقعي وكائناته فوق العادي، لا يتوانى عن تأجيج المشاعر المذهبية إلى حدًّ يبدو معه ضد استراتيجية الأركيلة واستقرار البلد. والكنّبة جمادٌ لا يتكلم كالحمار يُستغل ولا يُعترف بقيمته. الأركيلة هي الأساس، هي حامي البلد من الفتنة والحروب.
لا يمكن المؤركلين نفي أن في عالم الأركيلة طبقات. ليس في «البنية التحتية» والمواد التي تُستعمل وحسب، بل أيضاً في البنية الفوقية والثقافية للأركيلة ومجتمعاتها. هناك مؤركلون يمارسونها كطقس خاص وهادئ، حتى لو كان ذلك في أماكن عامة كالمقهى. وهناك من حملها كسلاح إلى الشارع والزاروب ومداخل الأبنية. هؤلاء رغم أنهم يبدون، في ظاهر الأمور، خطرين وشعبيّين، فإن الأركيلة، إذا ما فكّرنا عميقاً في باطن المسألة، تكبحهم و«تفشّ خلقهم» وتقلّص احتمالات اندفاعهم إلى العنف، حتّى لو كانوا مكوّنين كمجموعات أحياء تنتمي إلى مجموعات أكبر ومذاهب وزعماء. فالأركيلة، في هذه الحالة، رغم كونها جامعاً للشلل وتوافق مزاج الميليشيات، فإنها لا تناسب حياة القتال، وبالتالي احتمالات عدم حماسة المؤركلين للحروب لا بأس بها، لكن هذا يحتاج إلى جهد ثقافي وتربوي يجعل المؤركل لا يتخلى على أركيلته وعاداته معها. وأنا أستغرب إهمال الدولة والمجتمع المدني لهذه المهمّة المهمّة، في ترسيخ السلم الأهلي والاستقرار وابتعاد المواطنين عن العنف والحروب وتدمير ما ليس لديهم وما ليس لهم: البلد.