خالد صاغيةيمثّل التعاطي مع المحكمة الدوليّة في لبنان صورة مصغّرة عن تعاطي اللبنانيّين مع العالم وتعقيداته. فمن جهة، هناك من هو مستعدّ لوضع القضاة الدوليّين والعدالة الدوليّة والقوانين الدوليّة وحقوق الإنسان في خانة واحدة، هي خانة المؤامرات على البلاد وعلى المقاومة، وجزءاً من العدّة الإمبرياليّة للسيطرة على دول العالم الثالث وثرواته... ومن جهة أخرى، هناك من هو غير مستعدّ لتحمّل أيّ نقد للمحكمة وآليّة عملها. فمهما وقع التحقيق الدولي في أخطاء، ومهما تكن ممارسات المحقّقين، ومهما تكن قابليّة المحكمة للخرق الاستخباري، فما من علامة استفهام واحدة ينبغي أن ترتسم حول هذه المحكمة. فهي كالنور الذي جاءنا من الأمم المتّحدة كي يفضح الظلام الذي نعيش فيه. ظلام الاغتيالات لتصفية الحسابات السياسية، لكن أيضاً ظلام القضاء المسيّس وظلام ثقافة الإفلات من العقاب.
تميل قوى 8 آذار إلى وجهة النظر الأولى طبعاً. والوزير السابق وئام وهّاب يكاد يكون الناطق الرسميّ باسم جبهة تَتْفيه المحكمة. فهي، منذ البداية، «وصرمايته سوا». والقرار الاتهامي سيعرّض من يتبنّاه في لبنان لـ«الدَّعوَسة»، و«بدّو ياكل قتلة». المسألة، بالنسبة إلى هذه القوى، ليست أنّ القرار الاتّهامي الذي يتّهم عناصر من حزب اللّه مسيّس، ولا أنّ قرار إنشاء هذه المحكمة هو قرار مسيّس، ولا أنّ ثمّة من يحاول استخدام هذه المحكمة في الصراع السياسي في المنطقة... المسألة، في العمق، هي الإيمان بأنّ «المجتمع الدولي» لا يمكن أن يكون عادلاً في أيّ مسألة.
أمّا قوى 14 آذار، فتميل إلى وجهة النظر الثانية. وفي مقابل الابتذال الذي يدعونا إليه وهّاب نيابةً عن 8 آذار، تبشّر الأمانة العامّة لـ14 آذار اللبنانيّين بالسذاجة. فالمحكمة الدولية منزّهة تماماً، لا يمكن أن تقترف الأخطاء، ولا أن تُختَرق، ولا أن تتعرّض للتسييس. إنّها العدالة الدوليّة، وما علينا سوى أن نتأهّب ونلقي التحيّة.
بين الابتذال والسذاجة، تنتفي الحياة السياسيّة، وتنتفي معها أيّ آلية لمراقبة عمل المحكمة وأيّ نظرة نقديّة إليها. ونصبح أمام مشهد مغلق: محكمة مشكوك في صدقيّتها من جزء من اللبنانيّين، ومتّهم مشكوك في صدقيّته من الجزء الآخر. ليست أصوات وزراء رئيس الجمهوريّة ووليد جنبلاط ما يكسر هذه الحلقة المفرغة.