محمد الصادق *ليس المُخدّر والأفيون وحدهما ما يُزرع في الأرض الأفغانية ويُصدَّر إلى الخارج ليهدد الأمن العالمي. فلطالما مثّلت أفغانستان أرضاً خصبة لتدريب الشبان العرب على القتال أثناء الحرب مع السوفيات، وتحويلهم إلى مجاميع تنظيمية مُتحفزة للجهاد في أي رقعة في العالم. فشهدت الساحة المحلية السعودية طفرة في نمو الحركات الجهادية منذ بداية الثمانينات تزامناً مع بداية التنافس مع إيران على احتكار ملكية الإسلام. وقد دعمت الحكومة السعودية آنذاك تدفق آلاف المُجاهدين إلى كابول أثناء الحرب، عبر المدن الباكستانية، وتحديداً مدينة بيشاور التي سهل عبرها حسن سير خطوط إمداد القتال التي كان يُشرف عليها الشيخ عبد الله عزام. فقد حوت باكستان مكاتب خدمات الدعم اللوجستي للمجاهدين العرب. في التوقيت نفسه، كان أسامة بن لادن يقوم بجولات مكوكية على مساجد مدينتي جدة والمدينة المنورة اللتين مثّلتا الرافدين الأساسيين للمتطوعين. وقد تسلح بن لادن في جولته الدعائية بمؤلفات عزام نفسه، التي أفتت للناس بأنّ الجهاد «فرض عين» على المسلمين كافة. يُشاع أنّ بن لادن كان يصرف نصيبه السنوي البالغ 300 ألف دولار من تجارة عائلته على المجاهدين. كما تشير التقديرات إلى أنّ عدد السعوديين الذين زاروا أفغانستان إبان فترة الحرب يصل إلى 20 ألفاً، وهناك من يعتقد بأنّ العدد لا يتجاوز 12 ألفاً. وكان معظم هؤلاء يأتي في عطلة الصيف لمدة شهرين أو ثلاثة على الأكثر، أما الذين تفرغوا للقتال فقدّر عددهم بما بين 1000 و5000 مقاتل، وقد قُتِلَ منهم بين 50 و300 شخص. من هنا يمكن الوقوف على حجم الدعم المادي والبشري السعودي للمجاهدين العرب في تلك الحرب.
كان للسعودية أيضاً دور سياسي مواز لما سبق ذكره من خلال التنسيق مع بعض العواصم العالمية ومنها: واشنطن ولندن وإسلام أباد. يعيد البعض تعاظم الدور السعودي في تلك الفترة للضوء الأخضر الأميركي الذي حصلت عليه الرياض من خلال الصندوق المشترك للاستخبارات الأميركية ـــــ السعودية لدعم المجاهدين في أفغانستان ضد الاتحاد السوفياتي رغبةً في ربح الحرب. ضخّت الرياض مليارات الريالات لتسهيل مدّ الأرض الأفغانية بكل مستلزمات رعاية نبتة المقاومة هناك. فدفعت السعودية ما يقارب 6.75 مليار ريال سعودي خلال ثلاث سنوات من الفترة الممتدة بين 1987 إلى 1989. لكن ليس من الثابت ما إذا كانت الأموال تحوّل مباشرة إلى الجماعات الجهادية أم لا، إذ إنّ هيئات ومؤسسات أهلية كثيرة شاركت هي الأخرى في إيصال المعونة اللازمة.
شهدت السعودية أكثر من تمرّد سلفي في تاريخها منذ ما قبل عودة المجاهدين من أفغانستان
أضحى القتال على الساحة الأفغانية بعد كلّ هذا الدعم أكثر شراسة في وجه السوفيات، وتُوّج المجاهدون بنصر مبين، انتهى إلى انسحاب المحتل بداية 1990. عاد بعدها بعض المقاتلين العرب إلى بلدانهم وبقي البعض الآخر يخوض إلى جانب الفصائل الأفغانية فصول الحرب الأهلية. حرب استعرت على السلطة بعد الفراغ الذي خلفه انسحاب القوات الغازية. هكذا إذاً عاد آلاف من المقاتلين المدربين والمنظمين إلى السعودية وقد قوّت التجربة القاسية التي خاضوها اللحمة بينهم. كما عززت الشق العقائدي والأيديولوجي الجهادي الذي غدا أكثر رسوخاً وسط المجتمع السعودي بعد الانتصار.
إذاً هي فترة نقاهة وحسب تلك التي حصلت عليها السعودية بعد تحرير أفغانستان، قبل أن يغزو الرئيس العراقي صدام حسين الكويت، ويفجر بعدها منطقة عالية الحساسية ويحوّلها إلى كومة لهب. فتّحت حرب الخليج الثانية أعيُن السلفيين في السعودية على حقيقة مرة، تجلّت في الاستعانة بالقوات الأجنبية التي أتت إلى الرياض لاستعادة أراضي الكويت وحماية حدود المملكة. وعنت هذه السابقة في الخيال الوهابي استعانة بقوات كافرة. وأخرجت للعن هذه القوات الأجنبية هتافات كانت حبيسة الأنفس. شعارات صدحت للمرة الأولى في سماء السعودية تدعو: «حيّ على الجهاد»، «أخرجوا جيوش الكفار من جزيرة العرب».
كانت المرة الأولى في تاريخ الدولة السعودية الحديثة التي يجهر فيها تيار سلفي بمعارضته للحكومة، وخصوصاً أنّ الأدبيات الوهابية تُحرّم الخروج عن طوع السلطان، وتدعو إلى الطاعة المطلقة للحاكم. وحملت هذه الأصوات دلالة واضحة على عدم الاعتراف بشرعية النظام، أو التشكيك فيه على الأقل. هكذا أراد التيار السلفي الجهادي الإعلان عن نفسه في السعودية تياراً مُستقلّاً عن السلفية الرسمية وعن باقي سلفيات الصحوة. وكانت قيادات التنظيم الجهادي تأمل أن تتفهم الحكومة مطالب الحركة. وكان على رأس سلّم أولوياتها تسليم أمر إخراج قوات صدام حسين من الكويت للمجاهدين المنتصرين للتو في أفغانستان، لكن طلب التنظيم الجهادي جوبه بالصد. هذا التيار الجهادي لم يبدأ ممارسة العنف فعلياً إلا في منتصف التسعينات من خلال تفجير بعض المساكن والمعسكرات الأجنبية ثم مطاردة رموز الحكومة في الألفية الجديدة.
وثمّة اعتقاد سائد بأنّ السعودية لم تشهد تمرداً سلفياً مسلحاً ضد الحكومة إلا مع عودة جحافل المجاهدين من معارك كابول وقندهار، لكن تاريخ نشأة الدولة السعودية يظهر عكس ذلك. فقد شهدت السعودية تمردين آخرين: الأول، نفذه «إخوان السبلة»، الكتائب التي كانت تُمثّل الجناح العسكري للملك عبد العزيز في حربه على باقي المناطق التي لم تكن خاضعة لسلطته في حينها. وقد خاض «إخوان السبلة» معارك حامية الوطيس جنباً إلى جنب مع الملك السعودي، قبل أن يختار هذا الأخير إخماد الحركة نتيجة رغبتها في مواصلة الهجوم على مناطق خاضعة للبريطانيين بذريعة نشر الإسلام الحق. وقاد التمرد الثاني جهيمان العتيبي في موقعة اقتحام الحرم المكي في 1979 مع 300 مقاتل في الحادثة المشهورة التي انتهت بمقتله ومن معه على أيدي القوات السعودية المسلحة. من الصعب إثبات وجود رابط تنظيمي بين هذه العمليات الثلاث، لكنّ تفحص أدبيات الجهاديين ونصوص كتبهم تحيلنا بما لا لبس فيه ومن دون مواربة للمنبع «الوهابي» نفسه.
إذاً أفغانستان ليست وحدها من أخرج المارد الجهادي من القمقم. كما أنّ تيار الصحوة مثّل جزءاً من قصة الجهاد في السعودية، لكنّه لا يحتكرها كلّها. كما أنّ الحرب ضد الاحتلال السوفياتي أضافت إلى التيار بعداً إقليمياً وتجربة ميدانية، وزوّدته بما كان يفتقده من خبرة قتالية بعد أن أنجز هضم المناهج الوهابية، وأتمّ التعبئة المطلوبة ليعود التيار الجهادي للأرض التي انبعث منها أوّل مرّة.
* كاتب سعودي