سلامة كيلة*ربما ينشأ الوهم بأنّ القوات الأميركية قد انسحبت من العراق، أو هي في الطريق إلى تحقيق ذلك، من الأمل في القول إنّنا أذللنا القوات الأميركية، بغض النظر عن النتيجة التي آل إليها الوضع. أقول ربما لأنّ «الإخراج المسرحي» لـ«الهروب من العراق» كان يعطي شعوراً بأنّ هناك خروجاً لقوات زحفت في وضح النهار، وها هي تنسحب في الخفاء (كما يشير علاء اللامي، «الأخبار» في 14/9/2010).
لكن لا يجوز أن نزرع الوهم بأنّ القوات الأميركية قد انسحبت من العراق. لا لأنّ هذه ليست حقيقة فقط، بل لأنّ ذلك يفضي إلى القول بعدم الحاجة إلى المقاومة، رغم أنّ الظرف يفرض المقاومة أكثر من أي وقت مضى. وبالتالي يفرض تطوير استراتيجية جديدة على ضوء الوضع الجديد.
الالتباس الذي ربما يحصل هو نتيجة توهّم بأنّ الشكل الذي اتخذته القوات الأميركية في العراق خلال السنوات السبع الماضية هو شكل الاحتلال، ولهذا فإنّ التخلي عن هذا الشكل يعني نهاية الاحتلال. بينما كان هذا الشكل في كلّ حروب التحرير هو احتلال نتيجة وجود المقاومة، التي تفرض ذلك. هذا هو وضع فيتنام مثلاً، ووضع كلّ الدول التي خاضت مقاومة عنيدة فرضت التدخل الأميركي إلى حين هزيمته.
لكن الوضع في العراق مختلف. فقد كان الميل الأميركي لإنهاء الدولة العراقية بكلّ مؤسساتها يفرض وجود البديل الأميركي. ولهذا كان هناك وجود للقوات الأميركية بهذا العدد الكثيف. فقد كان تدمير الدولة، بما هي جيش وقوات أمن وشرطة، يفرض أن تحل قوات أميركية محلها، وأن تتسلّم مسؤولياتها، وهذا ما قامت به طيلة السنوات السبع. وهي خلال ذلك كانت تدرّب «جيشاً عراقياً»، وشرطة وأمناً، من أجل أن تحل مكانها. وكانت معنيّة بأن تبني هي هذه القوات لأنّها تريد أن تشكّل قوات «عميلة» تنفذ إرادتها هي. ولم ترد الاعتماد على الجيش السابق وعلى أجهزة الاستخبارات والشرطة لأنّها لا تضمن ولاءها، ولا تستطيع منع الاختراقات الممكنة لها، لهذا كانت معنية، وبإصرار، بحل الجيش وتدمير الدولة.
ولا شك في أنّ هذا الوضع كان يجعل المقاومة ذات أهمية عالية نتيجة غياب الدولة والتخبط الأميركي في بلد لا يعرف كيف يتحوّل فيه إلى قوات شرطة وأمن. وكان هناك استعدادات سابقة لنمط معيّن من المقاومة اعتمدت على ضباط الجيش والاستخبارات السابقة، الذين تدرب بعضهم على أشكال من المقاومة. أربك هذا الوضع الاستراتيجية الأميركية، وأوقع خسائر مهمة في صفوف قواتها. وإذا كان هناك حديث عن المأزق الأميركي في العراق فهو هذا. إذ إنّ استراتيجية الولايات المتحدة كانت تهدف إلى نجاح الاحتلال وتدمير الدولة العراقية، ومن ثم قمع المقاومة، وبناء «جيش وطني» لا يمتلك سلاحاً مهماً سوى ما يحتاج إليه لقمع المجتمع. ومن ثم تسحب جزءاً كبيراً من قواتها وهي تخوض حرباً في أفغانستان، وتفكّر في خوض حروب أخرى في مناطق مختلفة من العالم (اليمن، أفريقيا، وربما أميركا اللاتينية). لقد كانت بحاجة ماسة إلى تخفيف وجود قواتها في العراق من أجل كلّ ذلك، ولهذا شعرت بأزمة نتيجة قوة المقاومة في السنوات الثلاث الأولى من الاحتلال، وتحدثت عن مأزق، وليس لأنّ الوضع يفرض عليها «الهروب».
ولقد حُلّ هذا المأزق من خلال زيادة القوات من جهة، وعبر «مجالس الصحوة» من جهة أخرى، وهي الأكثر خطراً. فهي قسمت ظهر المقاومة لأنّها جزء مهم منها، وحوّلتها لمصلحة الحرب الأميركية ضد «تنظيم القاعدة» الذي هو «افتعال» أميركي بامتياز. وهو التنظيم الذي مارس أقسى العنف ضد العراقيين، لا من خلال التفجيرات وكلّ الأعمال الإرهابية الأخرى، بل من خلال فرض سلطة أصولية دموية على السكان جعلت الكثير منهم يتطلع إلى القوات الأميركية لإنقاذه منه. وهي التي أوقعت قطاعاً من المقاومة في الفخ الأميركي، وجعلته ينهي مقاومته للاحتلال ويوجهها إلى هذه القوة الغاشمة. في المستوى الآخر، جعلت رئيس الوزراء، نوري المالكي، يقوم بدور مواجهة التنظيم الصدري. فتلقى التنظيم ضربات قوية أضعفت من قدراته، كما جرى اختراقه بقوى دموية مارست ما مارسه تنظيم القاعدة من قتل وفرز طائفي. وبالتالي أصبح الوضع بعد هذه الخطوة الأخيرة أفضل لـ«الانسحاب» من أجل الحرب في أفغانستان واليمن وأميركا اللاتينية وأفريقيا.
ولهذا جرى الانتقال إلى «الخطوة التالية»، التي تتمثل في تركيز وجود عسكري محدَّد (عدده كما بات معروفاً هو خمسون ألف جندي سيبقون تحت مسمّيات مختلفة في قواعد جهّزت تجهيزاً متطوراً)، إلى جانب دعم من «الشركات الأمنية» المفروضة على العراق بغضّ النظر عن رأي الكتل السياسية (وعددها كما يقال يتراوح بين 120 ألفاً إلى 150 ألف مرتزق)، على أن يكون «الجيش الجديد» (دون سلاح متطور مثل الدبابات أو الطائرات أو الصواريخ، فهذه لا يحتاج إليها العراق) وأجهزة الأمن والشرطة (والميليشيات الطائفية) هي الواجهة لسيطرة استعمارية تقليدية. فقوة القمع والملاحقة هي قوة «وطنية» تمثّل نخبة من السياسيين الذين يعملون كسماسرة للشركات الإمبريالية. ويكون الوجود الاحتلالي الضامن للسيطرة على هذه «النخبة العميلة» وعلى الجيش والأمن والشرطة التي تدربت كلّها على يديه، وانحكمت لوجوده، وبالتالي تحدد دورها في قمع الشعب. إنّنا بالتالي إزاء الشكل الكلاسيكي للاحتلال القديم. الشكل الذي يناسب بلداً يشهد مقاومة ضعيفة، أو لا يشهد أي مقاومة. بلد يتحّول فيه الصراع ليصبح ضد الحكومة، وتطغى القضايا المطلبية والمعيشية نتيجة النهب والفساد والعجز عن توفير حاجات أساسية مثل الكهرباء والماء والطرق والمدارس والعمل. فيتقزّم بالتالي الصراع إلى هذا المستوى مظلّلاً على الصراع الحقيقي ضد قوات الاحتلال، كما ضدّ هذه «النخبة العميلة» التي باتت تمثل طبقة كومبرادوريّة تنهب وتسهّل نهب الشركات الاحتكارية الإمبريالية.

تراجع الطابع القتالي للقوات الأميركيّة لا يعني أنّ هذه القوات قد غادرت العراق
ولا يعني ذلك تجاهل كلّ المسائل المعيشية، ولا طبيعة الفئة التي باتت هي النخبة الحاكمة وارتباطاتها المصلحية، فهذا الصراع يجب أن يخاض، ويعني أنّ المقاومة ضد الاحتلال يجب أن تستمر. فالأساس هو حيث مرتكز سيطرة تلك النخبة وليس «الجيش الوطني» أو الشرطة والأمن. ووجود قوات أميركية بغضّ النظر عن عددها هو المركز الذي يحكم كلّ القوى الأخرى، سواء الشركات الأمنية (التي هي تحت إشراف أميركي) أو «الجيش الوطني»، وهي التي تقرر كلّ السياسات والأدوار. لهذا حينما ينتشر الوهم حول الانسحاب الأميركي تضيع بوصلة الصراع، وندخل في دوامة جزئيّة لا يمكن حسمها إلا بحسم النزال مع قوات الاحتلال. هذه القوات ستعيد إرسال عشرات الآلاف من جنودها من جديد لحظة تشعر بأنّ الوضع مهدد بالانهيار، وأنّ «السلطة العميلة» عاجزة عن الدفاع عن الوضع القائم. وهكذا تعود الحرب لتكون ضد قوات الاحتلال.
إنّ كون الطابع القتالي للقوات الأميركية قد تراجع لا يعني أنّ هذه القوات قد غادرت العراق وأنّه تحرر. بل يعني هذا أنّ «المهمة الأمنية» أوكلت إلى «الجيش الوطني»، الذي سيبقى يعمل تحت سيطرة القيادة الأميركية المسؤولة عن العراق أكثر مما سيمارس دوره كجيش وطني. وهذا رغم أنّ الدور القتالي الأميركي لا يزال قائماً، وسيبقى ربما كذلك، ويظهر بين الفينة والأخرى لتأكيد هذا الوجود.
ما قلناه عن الانسحاب الأميركي لا يقلّل من الدور الذي قامت به المقاومة، والذي لا تزال تقوم به وإن بوتيرة أضعف. لكنّه يفرض إعادة النظر في هذه المقاومة من أجل استمرار الصراع مع الاحتلال وعملائه المحليين، ومن أجل إعادة تنظيم شكل المقاومة على ضوء التموضع العسكري الأميركي الجديد، وفي مواجهة «الجيش الوطني» والقوى الأمنية، والشركات الأمنية. كذلك، يفرض إعادة النظر من أجل تطوير الصراع الشعبي ضد «السلطة العميلة» لتأمين الخبز والكهرباء والماء والأمن والعمل والاستقرار، أيّ من أجل عراق ديموقراطي متحرر. فهذا ما لا يجعل البقاء الأميركي طويلاً. إنّه طريق إنهاء الاحتلال.
* كاتب عربي