عقد نهاية الشهر الماضي، ولمناسبة الذكرى 86 لتأسيس الحزب الشيوعي اللبناني، «اللقاء اليساري العربي». ورفض «المنتدى الاشتراكي»، الذي يضم التجمع الشيوعي الثوري والتجمع اليساري من أجل التغيير، التوقيع على مشروع البيان الختامي للقاء. وننشر رسالة المنتدى التي تذكر أسبابه في رفض التوقيع
كميل داغر، باسم شيت*
لفت «المنتدى الاشتراكي» نظر لجنة المتابعة في اللقاء اليساري العربي إلى الملاحظات الأساسية التي تكونت لديه عند قراءة مشروع البيان ونختصرها بما يلي:
يلخِّص البيان الواقع السياسي العام للمنطقة العربية ضمن سياق السياسات الإمبريالية العامة للولايات المتحدة الأميركية والكيان الصهيوني، ولا يذكر بتاتاً الدور الذي تؤديه الأنظمة العربية القائمة في تسهيل مرور تلك السياسات، أو حتى المشاركة في تنفيذها.
فالبيان يمر بنحو مبهم على استخدام الإمبريالية حجة للدفاع عن أنظمة «الاعتدال» في المنطقة ذريعة لبقائها، من دون أن يذكر أنّ تيار «الاعتدال» هذا هو من التيارات المسيطرة في المنطقة العربية أجمع. كما لا يذكر أنّ هذه الأنظمة شريكة مباشرة في الحروب التي حصلت على الشعوب العربية من خلال:
ـــــ تسهيل المرور وتقديم الدعم اللوجستي المباشر لقوى الاحتلال والإمبريالية
ـــــ القمع والتضييق السياسي والأمني والاستخباري على حركة الجماهير العربية الرافضة للاحتلال والحروب. وهذا الأمر حاجز أساسي أمام تطوّر حركة مقاومات شعبية عربية هي بحسب البيان القوى الأساسية المحركة للتغيير في المنطقة.
ـــــ أداء دور الشرطي للإمبريالية الأميركية والصهيونية على مستوى الوطن العربي. وهو الدور الذي تجري من خلاله التغطية على التدخل الإمبريالي في بلدان المنطقة.
ـــــ تسهيل نمو الاقتصاد الإسرائيلي من خلال العلاقات التجارية المبرمة مع الكيان الصهيوني التي مكَّنت هذا الكيان من الاستمرار، عبر العقود، بينما يجري التضييق على حركات المقاومة الفلسطينية وضربها.
لا يذكر البيان أيضاً دور الأنظمة العربية في تقويض العمل السياسي وضرب الحركات الشعبية والنقابات والأحزاب اليسارية والتقدمية. بل تُذكر هذه القضايا بصفتها أهدافاً لـ«تغيير ديموقراطي» مبهم الملامح. ولا إجابة عن السؤال الأساسي الذي يُفترَض أن يطرحه اليسار في المنطقة العربية بأجملها، وهو «هل الإصلاح ممكن ضمن هذه الأنظمة؟». هذا يترافق مع حقيقة أن جزءاً كبيراً من الأحزاب اليسارية الداعية للتغيير الديموقراطي، إما تلاحمت مع الأنظمة البرجوازية القائمة ودخل بعضها في جبهات معها وبقيادتها، أو أنّها هادنتها إلى حدّ كبير.
ومن هنا فإنّ المناداة بالديموقراطية تصبح بلا ملامح ما دام الحاجز الأساسي أمام نشوء الديموقراطية في المنطقة العربية هو الأنظمة العربية القائمة. ولا يمكننا المرور بهذه المسألة كأنّها نتيجة فقط للسياسات الإمبريالية، متجاهلين دور الأنظمة العربية في قمع الحركات الجماهيرية والتحركات الشعبية والعمل النقابي والطلابي وعمل الجمعيات الأهلية، والتضييق على الناشطين والصحافيين، وحتى الإقدام على قتل الناشطين السياسيين والنقابيين والحقوقيين إلخ وتعذيبهم وخطفهم.
إنّ تلازم مسار التحرر الوطني والتغيير الديموقراطي لا يمكن أن يكون من دون مواجهة الاحتلال والأنظمة الديكتاتورية القائمة، في آن معاً، وبدون استثناء، بما فيه تلك التي لا تزال تُطلَق عليها، تجاوزاً، صفات الوطنية والتقدمية، وما شابه ذلك. وهذا ما لا ذكر له في البيان.
وينبغي التشديد أيضاً، وخصوصاً، على الواقع الاقتصادي الحالي، الذي يجتاح المنطقة العربية، ومعدلات الفقر والبطالة وفقدان الخدمات الاجتماعية والصحية، إلى ما هنالك من هدر لحقوق العمال والفئات الشعبية. لا يأتي البيان على ذكر كلّ هذه الأمور، بل يجري التطرق فقط للأزمة الاقتصادية العالمية، عموماً. كما يُدْرَج مطلب العدالة الاجتماعية من دون ذكر دور البورجوازيات العربية الحاكمة في صنع الانهيار الاقتصادي المتفاقم باستمرار في أوضاع أوسع الجماهير الشعبية، وذلك ضمن تحالف متنام مع المؤسسات والكتل الرأسمالية العالمية. وهو الأمر الذي ينطبق على الأنظمة المشار إليها جميعاً، بما فيها النظام السوري، في واقعه الراهن، وبعد التراجعات العميقة عن الإصلاحات الاجتماعية السابقة. اصلاحات كانت قد اتُّخذت في مرحلة حكم يسار حزب البعث، وقبل انقلاب حافظ الأسد عام 1970، وصولاً إلى الانخراط المتسارع، في ظل حكم ابنه بشار، في السياسات النيوليبرالية.
كما أنّه لا يجري التطرق في البيان للنضالات النقابية، والتحركات الاجتماعية، والإضرابات الكبرى، التي دخلت فيها أجزاء هامة من الطبقة العاملة العربية في الآونة الأخيرة، ولا سيما في مصر.
والجدير بالذكر، أيضاً، أنّ التمثيل اليساري في المؤتمر يغيِّب حالات وحركات ومجموعات يسارية عدّة في المنطقة العربية. وهذه المجموعات في معظمها قوى ثورية وراديكالية كانت لها أدوار فاعلة، نسبياً، في الساحات اليسارية، وفي الواقع السياسي لدول المنطقة، في السنوات الماضية، وإلى الآن. في المقابل، تَمثَّل في المؤتمر، بنحو ساحق، تيار واحد، هو ذلك الذي كان يجمعه الارتباط، في الماضي، بالدولة السوفياتية السابقة. هذا الارتباط يعني عجزاً عن الارتقاء باليسار العربي إلى وضع يمكِّنه من الارتفاع إلى مستوى المواجهة، التي يدعو إليها مشروع البيان. كما أنّ الداعين إلى المؤتمر تجاهلوا أنّ أحد أسباب ضعف اليسار، عدا ما يمكن استنتاجه مما هو وارد في سياق هذا النص، هو السياسات الإقصائية والفئوية، مع ما يعنيه ذلك من افتقار إلى ديموقراطية حقيقية في العلاقة بالمحيط السياسي والشعبي. وفي الوقت نفسه، لقد كان لافتاً جداً أن يكون اللقاء اليساري العربي الأخير قد أفسح في المجال واسعاً أمام مشاركة بعض القوى المحسوبة على اليسار، التي إما هادنت الأنظمة الديكتاتورية القائمة، على نحو ذليل، أو التحقت بها تماماً. أكثر من ذلك، لقد كان بين المدعوين إلى أعمال المؤتمر الحزب نفسه الذي تذيَّل لنظام صدّام حسين الديكتاتوري الفاشي، لسنوات طويلة، قبل أن يلتحق بالهجمة الإمبريالية الأميركية الأخيرة على العراق. ويشارك هذا الحزب اليوم في السلطة الطائفية العميلة التي أنتجها «المفوَّض السامي» الأميركي، بريمر، ويؤمِّن تغطيته للاحتلال،

أفسح اللقاء المجال أمام مشاركة قوى هادنت الأنظمة الديكتاتورية القائمة أو التحقت بها تماماً

بدل أن يقود مقاومة شرسة ومستميتة ضده. هذا التراخي في مقاومة الاحتلال، سهَّل بروز ظاهرة تنظيم «القاعدة» وأمثاله، الذي بذريعة مقاومة الاحتلال وعملائه، ارتكب ولا يزال أفظع المجازر الطائفية بحق الشعب العراقي وجماهيره الواسعة.
وأخيراً، لقد حاول الرفيق الذي مثَّلنا، خلال المناقشة الأولى لمشروع البيان، في ختام المؤتمر، مساء 23 تشرين الأول الماضي،حاول عبثاً التشديد على بعض المطالب الأساسية، المتعلقة بالوحدة العربية والاندراج في سيرورة تتخطى النضال الديموقراطي إلى الاشتراكية. وركز بوجه أخص على مطلبين نراهما أساسيين جداً في برنامج اليسار الجذري:
أولاً: حق الأقليات القومية، المتعرضة للاضطهاد والقمع في بعض البلدان العربية، في تقرير مصيرها. علماً بأننا ندعو، في آن معاً، إلى تشجيع تلك الأقليات على اعتماد خيار الاندماج، بديلاً من خيار الانفصال، ولكن مع الحرص الشديد على تأمين الشروط الدقيقة والصارمة لضمان تمسُّكها بالخيار الأول.
وثانياً: الحل النهائي للقضية الفلسطينية، إذ إنّنا نرفض بالمطلق حلّ الدولتين، الذي سيؤول الاستمرار في أوهامه، في النهاية، إلى تأبيد الاحتلال، واستكمال قضم الجزء الأكبر مما بقي من الضفة الغربية، عبر الاستيطان الزاحف. فضلاً عن تنفيذ سياسة الترانسفير القاضية بطرد فلسطينيي الـ48 من أراضيهم وإحلال مهاجرين يهود مكانهم. فيما ندعو، في المقابل، إلى التمسك بالتنفيذ العملي لحق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم في فلسطين التاريخية، بدون استثناء. وكذلك لحقّ اللاجئين في تقرير مصيرهم؛ وإلى استعادة وحدة الشعب الفلسطيني، على أساس خيار المقاومة، بأشكالها كلها، بما فيها الكفاح المسلح. كما ندعو إلى النضال المستميت لأجل فرض قطع كل العلاقات التي أقامتها دول عربية عدة مع إسرائيل، والاستعادة الصارمة لسياسة المقاطعة الكلية لجميع الشركات، عبر العالم، التي تستمر في التعامل مع الكيان الغاصب؛ والضغط لإقناع شعوب العالم بتبنّي سياسة المقاطعة ووقف الاستثمارات، وإنزال العقوبات (BDS) بالكيان المشار إليه. كما نطالب بالتخلي الناجز عن شتى أشكال التفاوض مع إسرائيل، والانخراط في سيرورة نضالية طويلة الأمد، تشمل الفلسطينيين بوجه خاص، والأمة العربية جمعاء، لأجل تفتيت الدولة الصهيونية. وهذا كلّه لصالح إرساء دولة علمانية ديموقراطية متجهة إلى الاشتراكية، على كل أراضي فلسطين التاريخية، تحقق المساواة التامة بين جميع سكانها العرب واليهود.
على أساس ذلك كله، وبعد نقاش معمَّق شاركت فيه الهيئة القيادية للمنتدى الاشتراكي (لبنان)، بجميع أعضائها، اتخذنا قراراً، بالإجماع، نعتذر فيه عن توقيع مشروع البيان، الذي أرسلتموه إلينا، أخيراً. ونتمنى أن تقفوا جدياً أمام الأفكار الواردة في هذا النص، والتي نرى أن الالتزام بمضمونها هو الفرصة الوحيدة لتعافي اليسار العربي، وتَمَكُّنه لاحقاً من كسب الهيمنة في الحركة الجماهيرية، وإنجاز التغيير الحقيقي، الذي لا يمكن أن يكون، في واقع البلدان العربية، إلا ثورياً.
* عن «المنتدى الاشتراكي»