حسان الزينيبدو مقدّمو البرامج الحواريّة السياسيّة والاجتماعيّة خارج الفاعليّة هذه الأيام. حتى مارسيل غانم مقدّم البرنامج الأوّل على الشاشة الأولى ينطبق عليه هذا. لعلّ المشاهدين ملّوا السياسة والكلام ووهم تعرية الذات والنظر إليها عبر الشاشة. ولعلّ برامج هؤلاء قد شاخت وفُكّت شيفرتها الجينيّة السياسيّة، ولم يفعّل هذا الوعي السياسي لدى المواطنين، بل الانقسام. فاللبنانيّون انقسموا حتى على مقدّمي البرامج هذه، ومارسيل غانم وماغي فرح وجورج صليبي وعماد مرمل وجيزيل خوري وحتى زافين قيومجيان وطبعاً مي شدياق ودولّلي غانم، لم ينجح واحد منهم في النجاة من الانقسام ومن أجندات محطّاتهم التي ترى إداراتها إلى البرامج الكلاميّة أدوات سياسيّة ومساحات لرسائلها وحساباتها.
هؤلاء جميعاً يبدون مثقلين بالسياسة، سواء أكان العامّة أم تلك التي مارسوها هم في برامجهم على حدّ سواء. يُستثنى من مقدّمي البرامج، لبنانياً، زاهي وهبي الذي ينأى بنفسه محاولاً قدر الإمكان الحفاظ على استمراريّته الشخصيّة واستقلاليّته جامعاً بصمت وحياد ما بين قيمه الخاصّة ووظيفته. فزاهي وهبي كان البُعد الآخر لـ«المستقبل»، كما كانت جيزيل خوري على شاشة المؤسسة اللبنانية للإرسال، في برنامجها «حوار العمر». الأمر الذي لم يعد «حاجة» للقناة (المستقبل)، المنقسمة سياسيّاً والمنكفئة جماهيريّاً. لهذا، برنامجه اليوم نشاط شخصي ووظيفي يخص زاهي وهبي، أكثر ممّا هو سياسة المحطّة.
هذا «الجيل»، إذا جاز القول، يعاني أزمة حقيقيّة. أزمة تجعل بعض هؤلاء يشعر بالنهاية أو بمنتصف العمر تلفزيونياً، في أفضل تقدير. وقد ساهمت محطاتهم في ذلك، وكذلك الانقسام السياسي الحاد في البلد، لكنهم لم يتوانوا، ضمن برامجهم وعلى الشاشة في مناسبات أخرى، عن ارتكاب أخطاء ومواقف تشبه إلى حدّ بعيد ارتكابات ميليشيات الشوارع، من الانحياز والتحريض، إلى إشهار المذهبيّة. فقد اندفع بعضهم إلى «دفع» أثمان على هيئة هدايا إلى محطاتهم، بل إلى القوى السياسيّة التي تملك المحطات، وخانوا بذلك نباهاتهم الشخصيّة والتجربة التلفزيونيّة التي توفّر للمرء عادةً ذكاءً أفضل ممّا أظهروا. فهؤلاء جميعاً، باستثناء زاهي وهبي الذي يقدّم برنامجاً ثقافياً في حافّة السياسة أحياناً وفي هامشها أحياناً أخرى، لم يقدّموا نموذجاً لمقدّم يملك نسبة ولو متدنيّة من «الموضوعيّة». حتّى مارسيل غانم الذي يتقن السياسة ويملك حساسيتها لم يفعل. وهو اليوم يخسر من رصيده وإنْ كان لم يفوّت الفرصة، وهو الأوفر حظاً، وعلى شاشة يمكنها أن تكون «بيئة» مهنيّة قادرة على عبور المتاريس وخطوط التماس، التي غنّت، في يوم ما، لمقاتلي جهة واحدة.
رغم مشكلة هذا «الجيل»، تتوافر لدى عدد كبير من أبنائه إمكانات وخبرات، غالباً ما تجعلهم يضيقون بالأماكن والشاشات التي تؤطّرهم. وبُعدٌ من أبعاد الأزمة التي هم فيها، بسبب محدودية سوق العمل. فالمحطّات المحلية محدودة وقدرتها على الاستيعاب كذلك. والفضائيّات العربية التي يمكن أن تكون منفذاً لهؤلاء وغيرهم انحسرت لا سيما بعد الأزمة المالية العالمية أواخر 2008 التي انعكست عليها إعلانياً ومالياً.
يحاول مارسيل غانم على شاشته المحافظة على موقعها رغم المشاكل القانونية والسياسية التي تعانيها، الخروج من الأزمة، من خلال تجديد برنامجه. إلا أن الخطوة لم تتبلور بعد ولا يمكن توقّع ذلك بمعزل عن الظروف السياسية في البلد. وما حلقته الأولى في الحلّة الجديدة إلا مسعىً يصبّ في هذا الإطار. علماً بأن الحلقة عبّرت عن أهداف سياسيّة تخصّ مارسيل غانم وإدارة محطّته في هذه اللحظة الحرجة التي تسعى فيها المؤسسة إلى صوغ هويّة سياسيّة من دون أن تخسر جمهورها «التاريخي». بمعنى آخر، مارسيل غانم، لأسباب تتعلّق به وببرنامجه، ولكونه في المؤسسة اللبنانية للإرسال، الأكثر قدرةً على البقاء في مستواه واستعادة بعض الحيوية، بينما الآخرون باتوا في الهامش، لأن محطّاتهم إمّا انكفأت وإمّا منحازة وتخاطب جمهوراً محدوداً. فغالبيّة برامج هؤلاء مستمرّة ليس لأنها ناجحة بل لأنها حاجة برامجيّة وسياسيّة للمحطّات والقوى السياسيّة. وتلفزيونياً، لا يقدّم أو يؤخر في شيء وجودها أو عدمه. فدور هذه البرامج بات شدّ أعصاب جمهور المحطّات، بعدما كانت في فترات متقطّعة مساحات للحوار والسجال السياسي. لا شكّ في أن الظروف السياسيّة تنعكس عليها، وأجندات «المالكين» مؤثّرة فيها، لكن أداءها وأداء مقدّميها هو سبب لا يمكن التغافل عنه في ما آلت وآلوا إليه. وإذ ما زالوا أحياء على الشاشات، فإنهم بلا حيويّة ولا جاذبيّة.