هل يمكن عاقلاً أن يتجاهل الأهداف السياسية الكامنة وراء الإجراءات القانونية التي رافقت إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان وتصرّفات رعاتها، التي شابت الكثير من سلوك محققيها؟ وهل يمكن عاقلاً أن يتجاهل أن معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة هما أولى ضحايا تسييس الإجراءات القضائية التي هي باب الولوج الى الحقيقة والعدالة؟ سؤالان يحاول هذا المقال الإجابة عنهما عبر رسم السياق الذي جرت فيه عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وما تلاها من إنشاء للمحكمة
داود خير الله*
تبذل إسرائيل وروافدها الصهيونية في العالم جهوداً استثنائية وأموالاً طائلة في جمع الحلفاء وتحفيزهم وابتزاز العملاء وترغيبهم، لتوظيف ذلك في خدمة ما تراه الدولة الصهيونية مصلحة لها. وتدرك اسرائيل أنّ المشروع الذي اقتضى قيامه اقتلاع شعب من أرضه وتشريده على ما بقي من فلسطين وفي أقطار عربية وما تعدّاها من أصقاع الأرض التي ضمّت فلسطينيّي الشتات، والمشروع الذي ما انفكّ يوسّع دائرة الظلم اغتصاباً للأرض وتدميراً للبيوت وتشريداً لسكّانها، تدرك أنّه لا يتمتّع بشرعية قانونية أو خلقية ولا يمنحها استقراراً يمكّنها من ممارسة حياة طبيعية داخل المجتمع الدولي. لذلك تعمل أدوات المشروع الصهيوني بلا كلل على كل صعيد في العالم لطمس الواقع وتشويه الصورة لدى الرأي العام العالمي، كأنّها في سباق مع ما تقترفه اسرائيل من جرائم تهزّ الضمير البشري وتضع علامة استفهام كبرى على شرعية المشروع الصهيوني واحتمالات بقاء دولته أو زوالها. وقد أدرك قادة المشروع الصهيوني منذ نشأة دولتهم أنّه ليس هناك ما يمكن الاعتماد عليه في نجاح مشروع لا مسوّغ قانونياً أو خلقياً له سوى القوّة بكل أشكالها، وبالتالي الدعم المادي والمعنوي من أهمّ مراكز القوّة في العالم، دولاً ومنظّمات دولية. من هنا نفهم الأهمّية التي توليها أدوات المشروع الصهيوني للسيطرة على صناعة القرار وتنظيم الحلفاء في الدول الكبرى وتحفيزهم.
إنّ الجهود التي تبذلها المؤسسات الصهيونية مثلاً في الولايات المتحدّة للسيطرة على صناعة القرار السياسي والتحكّم في أدوات تنفيذه، جديرة بكلّ اهتمام. فالهيمنة على السلطة التشريعية شبه تامّة حتّى قال عنها الإعلامي البارز والمرشّح السابق لرئاسة الجمهورية بات بيوكانون «إن الكونغرس الأميركي أرض محتلّة». وأمّا السيطرة الصهيونية على الإعلام وصنّاع الرأي العام الأميركي بعامة، كما على القطاع المالي وسائر مراكز النفوذ، فلا تقلّ فعالية عنها في السلطة التشريعية. وحبّذا لو أنّ أحد مراكز الأبحاث الجدّية في العالم العربي يقوم بدراسة معمّقة لمدى النفوذ الصهيوني في صناعة القرار الأميركي وتنفيذه. فمثل هذه

الجريمة التي تنظر فيها المحكمة، والتي وصفت بالعمل الإرهابي لا تعريف ولا عقوبة لها في القانون الدولي
الدراسة من شأنها توضيح حدود الصواب والخطأ بين أصحاب الرأي القائل بأنّ اسرائيل هي صناعة أميركية تحرّكها الولايات المتحدة لما فيه مصلحة أميركية استعمارية في الشرق الأوسط، والرأي الجازم بأنّ النفوذ الصهيوني هو المسيطر على القرار السياسي الأميركي يوجّهه لما فيه من مصلحة اسرائيلية لا تتلاءم بالضرورة مع المصلحة الأميركية. إنّ للنتائج الموضوعية التي يمكن الركون اليها في مثل هذه الدراسة أهمّية كبرى بالنسبة الى كلّ قرار سياسي مهمّ أو خطّة يمكن اعتمادها للدفاع عن حقّ عربي أو درء خطر اسرائيلي.
ما تفعله المنظّمات الصهيونية في الولايات المتحدة تقوم به في الدول الأخرى بطريقة تتناسب والقدرة التي تتمتّع بها هذه الدول على الصعيدين السياسي والاقتصادي، والدور الذي يمكن أن تؤديه داخل المنظمات الدولية. والنشاطات التي تقوم بها المنظمات الصهيونية لا تقتصر على الدول، بل تتعدّاها الى المنظمات الدولية الرسمية وكذلك منظمات المجتمع المدني. فهي لا تألو جهداً في حشد الحلفاء وتحفيزهم وانتقاء العملاء وتفعيلهم في أيّ مجال دولي يمكن أن يعود بالفائدة على اسرائيل، أمنية كانت أو اقتصادية أو سياسية. والمراقب باهتمام للنشاطات الإسرائيلية وامتداداتها الصهيونية في الإفادة الدائمة من كلّ فرصة، أكانت من صنيعتها أم لا، يدرك أنّ القوى الصهيونية لا تكاد تنام في سعيها للدفاع عن كل مصلحة اسرائيلية بقدر ما يتيقّن أنّ الأنظمة العربية وكلّ التنظيمات الرسمية والمدنية تكاد لا تصحو للدفاع عن الحقوق والمصالح العربية.
ولا تستثني جهود أدوات المشروع الصهيوني العالم العربي ولا حتّى الشعب الفلسطيني، الضحيّة الأولى لقيام اسرائيل وأطماعها التوسعية. فقد نجحت اسرائيل في زرع ثقافة الهزيمة والاستسلام للأمر الواقع، وجنت نتيجة لذلك اتفاقيتي سلام مع دولتين من دول الطوق ودول عربية أخرى تمارس التطبيع مع الدولة الصهيونية وتدعو له. لا بل تمكّنت من أن تنسي بعض الأنظمة العربية تاريخ شعوبها النضالي ضدّ إسرائيل وجعلت منها حليفة للظلم والاحتلال الإسرائيلي في حصار غزّة وحرمان شعبها إمكانات الدفاع عن نفسه فضلاً عن الدفاع عن الحقّ العربي في فلسطين.
لكنّ تطوّراً هامّاً طرأ في الصراع العربي الإسرائيلي كان له أثر مقلق جدّاً للقادة الصهاينة، وهو ظهور تيّار شعبي تبنّى مقاومة الظلم والاحتلال ثقافةً ومنهجاً، ومارسها بثبات ونجاح أرغما إسرائيل على الانسحاب من أرض احتلّتها في لبنان بلا قيد ولا شرط، وذلك لأوّل مرّة في تاريخها مع العالم العربي. وبعد شهور أربعة على انسحاب اسرائيل من لبنان في أيّار 2000، قامت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ممّا دفع بإسرائيل لبذل جهود استثنائية للقضاء على المقاومة تنظيماً وثقافةً في لبنان وفلسطين. وما الحرب التي شنّتها اسرائيل على لبنان في صيف 2006، وعلى غزّة في نهاية 2008، والوحشية التي مارستها في كلتا الحربين، سوى محاولات مستميتة للقضاء على المقاومة كما أعلنت في حربيها كلتيهما، ولكن دون جدوى.
اعتمدت إسرائيل على أثر ذلك مضاعفة الجهود مباشرة ومن خلال حلفاء وعملاء لها في استعمال السلاح الأفعل، وهو زرع الفتن وتنمية الانقسامات داخل المجتمع الواحد عن طريق إثارة كلّ ما من شأنه أن يؤجّج المخاوف والهواجس الطائفية والمذهبية ويذهب بالانصهار الاجتماعي، وبالتالي بالمناعة والقدرة على درء المخاطر الخارجية.
ما من حليف لإسرائيل يمكّنها من بلوغ أهدافها في إضعاف أعدائها مثل التخلّف السياسي وغياب الوعي لما هو مصلحة وطنية، فضلاً عن إطلاق جميع أدوات الفساد لإسقاط الروادع الخلقية وتشويه الواقع وزرع المخاوف والأحقاد. وما يجري في لبنان حالياً هو خير دليل على صحّة ما نقول.
فبعد فلسطين، كان لبنان أكثر الدول العربية معاناة من إسرائيل منذ نشأتها. اعتداءاتها على أرضه وشعبه وأجوائه ومياهه الإقليمية لم تنقطع. وقد أدّت إسرائيل دوراً أساسياً في الحرب الأهلية التي مزّقت لبنان على مدى خمس عشرة سنة. وفي غياب كامل للدولة للدفاع عن أرض الوطن وشعبه، قامت مقاومة شعبية تمكّنت بفضل جهود وتضحيات عزّ نظيرها، من إنهاء الاحتلال بلا قيد ولا شرط واسترجاع السيادة على الأرض المحتلّة باستثناء القليل منها وفكّ أسر جميع المعتقلين في السجون الإسرائيلية. لا بل وضعت المقاومة اللبنانية حدّاً للغطرسة الإسرائيلية ومعظم اعتداءاتها، وفرضت حالة من الردع على النزعة العدوانية لإسرائيل اعترف بها كبار قادتها العسكريين، ولم يعرف لبنان معنى للسيادة في تعامله مع إسرائيل منذ نشأتها كالتي عرفها بفضل إرادة مقاومته وتسلّحها وجهوزيّتها.
اهتزّت الصورة الردعية لإسرائيل ليس فقط في محيطها الإقليمي، بل أيضاً في العالم أجمع. فعمدت هي وحلفاؤها في العالم الى كلّ الوسائل، ولجأت الى أفعل الأسلحة، وخاصةً زرع الفتن الأهلية الهادفة الى تدمير الصورة المعنوية للمقاومة دوليّاً ومحلّياً، والدفع بها الى توجيه سلاحها الى الداخل اللبناني.

القرار 1559

عمدت إسرائيل وحليفتها الأساسية، الولايات المتحدة، بدايةً الى مطالبة سوريا بالمساعدة على نزع سلاح حزب الله مقابل البقاء في لبنان المدّة التي تشاء. هذا الطلب أبلغه توم لانتوس رئيس لجنة العلاقات الخارجية في حينه، وقد كان من أهمّ حلفاء اسرائيل في الكونغرس الأميركي، الى السفير السوري في واشنطن الدكتور عماد مصطفى. وكذلك فعل آخرون مع رسميين سوريين.
صدر القرار رقم 1559 عن مجلس الأمن الدولي بعدما تيقّنت إسرائيل والإدارة الأميركية، المعتبرة أكثر تعاطفاً معها مقارنةً بكلّ الإدارات التي سبقت منذ نشوء الدولة الصهيونية، من عدم التعاون السوري. يرمي القرار بنصّه الصريح الى بلوغ أهداف ثلاثة تؤكّد كلّها الرغبة في نزع سلاح المقاومة. الهدف الأوّل هو الخروج السوري من لبنان. ولا يمكن القبول ولو على سبيل الاحتمال بأنّ الإدارة الأميركية لا غاية لها سوى «تحرير لبنان من الاحتلال السوري» كما يحلو للبعض أن يشيع. قد يكون ذلك ما كان يتمنّاه عدد كبير من اللبنانيين نظراً إلى التجاوزات التي ارتكبها مسؤولون سوريون بالتعاون طبعاً مع مسؤولين لبنانيين، وكان الفساد الضامن الأساسي لهذا التعاون. فقد كان المسؤولون في الإدارة الأميركية نفسها، عندما تطلب اليهم المساعدة على إقناع السلطات السورية بإعادة تمركز جيشها أو انسحابه من بعض المناطق اللبنانية، يجيبون «إن الوجود السوري في لبنان هو عامل استقرار».
فما الذي حصل في مدّة شهور معدودة لكي يصبح هذا الوجود تهديداً للسلم العالمي، المبرر الوحيد لتدخّل مجلس الأمن الدولي وصدور قراراته؟ الهدف الأكثر إقناعاً، الذي أصبح أكثر وضوحاً مع الوقت والممارسة على الأرض، هو تجريد حزب اللّه من نصير ومصدر دعم أساسي له تأثيره في الداخل اللبناني وفي المجالين العربي والإقليمي.
الهدف الثاني من القرار 1559 كان عدم تمديد ولاية الرئيس إميل لحّود، بحجّة أنّ هذا التمديد سوف يحصل نتيجة الضغط السوري، علما بأنّ سلف الرئيس لحّود، الرئيس الياس الهراوي، مُددت ولايته في ظلّ الوجود السوري في لبنان دون التشكيك في شرعية التمديد لا من جانب الولايات المتحدة ولا المجتمع الدولي الممثّل في مجلس الأمن. الواقع والمبرّر المعقول هو أنّ الرئيس لحّود كان في الداخل اللبناني من أشدّ المؤيدين للمقاومة. وبصفته رئيس الدولة، كان من أهمّ مصادر شرعية المقاومة، إذ كان يعدّها عاملاً مكمّلاً للسيادة الوطنية لا تهديداً لها، فيما كان هدف القرار 1559 تحويل التنظيم المقاوم من مؤسسة تضمّ أبطالاً قاموا بتحرير وطنهم، وبات وجودهم في ظلّّ استمرار التهديد والخطر الإسرائيليين ضمانة للدفاع عن سيادة الوطن وحقوقه، الى مجموعة إرهابيين يمثّلون تهديداً للسلم العالمي، وانتقاصاً من السيادة الوطنية وخطراً عليها.
الأمر الثالث والأهمّ الذي نصّ عليه قرار مجلس الأمن رقم 1559 هو نزع سلاح المقاومة. وبذلك يتّضح أنّ الهدف الأساس من وراء قرار مجلس الأمن المذكور كان ولا يزال تجريد المقاومة من مؤيديها عالمياً وإقليمياً ولبنانياً، ومن سلاحها، كما القضاء على ثقافة مقاومة المطامع والاعتداءات الإسرائيلية.
لكنّ القرار الدولي لم يكن بذاته ليخلق المناخ الملائم للخروج السوري السريع من لبنان كما حصل إثر ثورة الغضب التي عمّت معظم اللبنانيين على أثر اغتيال الرئيس الحريري. وما كان قرار مجلس الأمن بذاته ليؤسس لفتنة مذهبية تدفع بحزب الله الى توجيه سلاحه عن إسرائيل الى الداخل اللبناني. فما اغتيال الرئيس الحريري والحملة الإعلامية التي رافقته بأنّ سوريا وحلفاء لها في لبنان هم وراء اغتياله، وكذلك الإجراءات القانونية التي اتخذت على الصعيد الدولي جميعاً، سوى عوامل مكمّلة للقرار 1559 كما أدرك وليد جنبلاط وعدد من القادة السياسيين الذين يرفضون أن يطمروا رؤوسهم في التراب إزاء دنو ساعة الانفجار وتداعياته على الوطن وشعبه.

المحكمة الدولية

لا نستطيع الجزم بصورة علمية حيال هوية الطرف أو الأطراف المسؤولة عن اغتيال الرئيس الحريري، لكن لا ينبغي لنا أن نستكين ونعطّل عمل العقل فينا عندما نعلم بالتجاوزات التي حصلت والأخطاء، لا بل المخالفات الصارخة التي ارتُكبت، والاستسلام للإرادات الغريبة التي لا تبغي عدالة ولا تريد الخير للبنان. فلو نظرنا بدايةً الى الطرف الذي هو أكثر الذين استفادوا من اغتيال الرئيس الحريري، وهذا من العوامل الرئيسية التي تقود التحقيق الجنائي في تقصّي الجاني، لوجدنا اسرائيل والدول المنفّذة لشهواتها على الصعيد الدولي في طليعة المستفيدين، إن لم يكن المستأثرين بالإفادة من هذا العمل الجرمي.
فخروج السوريين ومحاصرة حلفائهم في السلطة أو عزلهم أو حتّى الزجّ بهم في السجون بدون وجه حق، كانت من الأهداف الإسرائيلية الأميركية. ولعلّ أكثر المتضررين من اغتيال الرئيس الحريري، وهذا ما أثبتته الأيام، كانوا السوريين وحلفاءهم في لبنان. ولو تفحّصنا الإجراءات القانونية التي حبكتها ووضعتها موضع التنفيذ دول حليفة لإسرائيل ومدافعة في وجه العموم عن جميع ما ترتكب من جرائم، لأيقنّا أن الدوافع وراء كلّ تلك الإجراءات بعيدة كلّ البعد عن الرغبة في معرفة الحقيقة أو بلوغ العدالة، لا بل إنّها تنطوي على مخالفة للقواعد التي اعتمدها مجلس الأمن الدولي في إنشاء محاكم جنائية دولية، وعلى تجاوزات قانونية تضع علامة استفهام كبرى حول قانونية وجود المحكمة.
بدايةً، المحكمة الخاصة بلبنان هي المحكمة الدولية الوحيدة في العالم التي لا تنظر في جريمة دولية يطبّق بشأنها القانون الدولي، لذلك اختير القانون اللبناني كقانون صالح للتطبيق حصراً. والسبب في ذلك أنّ الجريمة التي سوف تنظر فيها المحكمة، والتي وُصفت بالعمل الإرهابي، لا تعريف ولا عقوبة لها في القانون الدولي، ولم يحصل أن نظرت محكمة دولية في السابق في جريمة قتل وصفت بأنّها عمل إرهابي. لا بل إنّ جميع القرارات الصادرة عن مجلس الأمن الدولي بشأن الإرهاب تدعو الدول إلى اتخاذ إجراءات قانونية داخلية للمعاقبة على جرائم الإرهاب. وزيادة في الإيضاح، لو قرر مجلس الأمن إحالة النظر في جريمة اغتيال الرئيس الحريري على محكمة الجنايات الدولية، لكانت ردّت الدعوى شكلاً لعدم الاختصاص، لأنّ العمل الجرمي موضوع الدعوى لا وجود له بين الجرائم التي هي من اختصاص المحكمة، والمذكورة بالتفصيل في نظامها الأساسي. ولا يجوز القول إنّ ذلك لم يحصل لأنّ لبنان ليس عضواً فيها. فنظام المحكمة ينصّ على أنه يكفي لأيّة دولة غير موقّعة على اتفاقية روما المنشِئة للمحكمة أن تصرّح خطّياً بقبول اختصاص محكمة الجنايات الدولية حتّى يصبح للمحكمة اختصاص.
والأساس القانوني للمحكمة الخاصة بلبنان هو اتفاقية بين لبنان والأمم المتحدة، لكنّها اتفاقية غير مستوفية الشروط الدستورية اللبنانية، وهذا شرط أساسي بموجب القانون الدولي العرفي والوضعي لصحّة الاتفاقية ونفاذها من الوجهة القانونية. فالاتفاقية المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان لم يجر التفاوض بشأنها وإبرامها من جانب السلطة المكلّفة دستورياً بذلك، وهي رئيس الجمهورية. فالرئيس لحّود أُبعد عن التفاوض من جانب الطرف الممثّل للأمم المتحدة، ولم يؤخذ بأيّ من الملاحظات التي قدّمها بشأن الاتفاقية المنشئة للمحكمة الخاصة بلبنان. فقد كان الرئيس لحّود يتمتّع بشرعية توقيع المرسوم الذي هو بمثابة صكّ الولادة لحكومة الرئيس السنيورة التي حصر مجلس الأمن بها شرعية تمثيل الدولة اللبنانية، لكنّ مجلس الأمن شاء أن لا يعترف بالصلاحية التي ينيطها الدستور اللبناني برئيس الجمهورية لجهة إبرام الاتفاقيات الدولية. كذلك فإنّ الاتفاقية لا تكون صحيحة ونافذة، بحسب الموجب الدستوري، ما لم تحظَ بموافقة مجلس النواب، وهذا ما جرى تجاوزه، ذلك أنّ مجلس النواب لم يوافق عليها.
وبما أننا بصدد اتفاقية غير مستوفاة الشروط الدستورية، وهذا شأن لبناني داخلي، وبما أنّ ميثاق الأمم المتحدة يحرّم على المنظمة الدولية أن «تتدخّل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي للدولة»، وهذا مبدأ أساسي من المبادئ التي تقوم عليها الأمم المتحدة ولا استثناء بشأنه إلاّ عندما «يخلّ بتدابير القمع المنصوص عنها في الفصل السابع» من الميثاق الأممي الذي يعالج الأمور الأشدّ تهديداً للسلم العالمي. لقد اختار مجلس الأمن أن يعتمد الفصل السابع من الميثاق مبرّراً لقراره في إعطاء الصيغة التنفيذية لاتفاقية ليست مستوفية الشروط الدستورية، وكأنّ احترام أحكام الدستور اللبناني يمثّل تهديداً للسلم العالمي. وهذا يضع علامة استفهام كبرى على قانونية المحكمة، ولا شكّ لديّ أنّه سوف يكون من أول الدفوع التي سوف يدلي بها أي متّهم يمثل أمام المحكمة، هذا إذا كان هناك إصرار على بقائها دون معالجة العيوب التي اعترت إنشاءها.
وإذا اعتبرنا أنّ المحكمة الخاصة بلبنان أنشئت بموجب الفصل السابع من الميثاق، فلماذا لم تقم الأمم المتحدة بتمويلها كما فعلت بشأن المحاكم الأخرى التي أُنشئت بموجب الفصل السابع مثل المحكمة الخاصة بيوغسلافيا سابقاً، وكذلك المحكمة الخاصة برواندا؟ هل لأنّ مجلس الأمن لم يقبل اقتراح اعتبار جريمة اغتيال الرئيس الحريري من الجرائم ضد الإنسانية، التي رأى مجلس الأمن سابقاً أنّها بذاتها تمثّل تهديداً للسلم العالمي، والمبرر الأساسي لإنشاء محاكم جنايات دولية خاصة بموجب الفصل السابع؟
ما تقدّم هو عيّنة من التجاوزات العديدة التي رافقت إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان. والسؤال الواجب طرحه، الذي يجب أن يسترعي اهتمامنا، هو لماذا تقوم قوى دولية بهذه التجاوزات من أجل إنشاء المحكمة الخاصة بلبنان؟ يمكن لمن يشاء أن يرى أن الجهود التي قامت بها الولايات المتحدة مثلاً، وخاصةً ممثلها في مجلس الأمن جون بولتون، وهو من أشدّ المناصرين للدولة العبرية، كانت كرمى لعيون الرئيس فؤاد السنيورة وبعض السياسيين اللبنانيين، الذين لاقوا تكريماً استثنائياً في واشنطن لدى إدارة الرئيس بوش. لكن من يرغب في معرفة الدوافع الفعلية وراء سلوك الإدارة الأميركية، الذي تلى اغتيال الرئيس الحريري، وفي ضوء المصالح التي تملي سلوك الدول، والمدرك للمصلحة والاهتمام الإسرائيليين بكل ذلك، والعارف بالنفوذ الصهيوني، وخاصةً داخل إدارة الرئيس بوش، يرى أسباباً أخرى وراء التجاوزات والأخطاء التي اعتُمدت في اتخاذ كل الإجراءات القانونية، بما فيها المحكمة الخاصة بلبنان. كيف يمكن عاقلاً أن يتصوّر أن معرفة الحقيقة أو بلوغ العدالة كان الدافع الى إقامة المحكمة الخاصة بلبنان في عام 2007، التي أقلّ ما يقال فيها إنّها أُنشئت بموجب اتفاقية مشكوك في قانونيتها، للنظر في جريمة وقعت عام 2005 لا يعرفها القانون الدولي، فيما ارتكبت إسرائيل جرائم حرب وجرائم ضدّ الإنسانية موثّقة في حربها العدوانية على لبنان عام 2006 ولم يحرّك مجلس الأمن ولا الدول المسيطرة على كل قراراته ساكناً بالنسبة الى التحقيق في هذه الجرائم، فضلاً عن تطبيق العدالة بالنسبة إلى المسؤولين عنها؟
أضف إلى التجاوزات المتعمّدة التي رافقت نشأة المحكمة الدولية، والتي تدفع الى الاقتناع بأنّ أهدافاً سياسية كانت وراء إنشائها، فإنّ سلوك القيّمين على كلّ الإجراءات القضائية الدولية بدأ بالمخالفات التي ارتكبتها لجنة التحقيق الدولية برئاسة ديتليف ميليس، مروراً بصناعة شهود الزور واعتقال أربعة من كبار الضبّاط المسؤولين عن الأمن في لبنان لمدّة أربع سنوات بناءً على شهادات ملفّقة، فضلاً عن موقف المدّعي العام لدى المحكمة الدولية في معارضته الكشف عن الأدلّة التي تمكّن ضحايا شهود الزور من ملاحقتهم قضائياً، والكشف عن رعاتهم ومحرّكيهم، وأثر ذلك في بلوغ تحقيق جنائي شامل والاطمئنان إلى نتائج تضمن معرفة الحقيقة... جميعها تعزّز الشكوك في الإجراءات القضائية التي يُفترض أنّها اتخذت لكشف ومعاقبة قتلة الرئيس الحريري ورفاق له لم يكن الهدف منها لا معرفة الحقيقة ولا بلوغ العدالة. وما الاهتمام الذي يبديه أشكينازي وسواه من القادة الإسرائيليين بمآل التحقيق والآثار التي تتوقّعها إسرائيل نتيجة صدور القرار الظنّي، وما النشاط الذي يقوم به مسؤولون أميركيون لهم تاريخ في زرع الوئام بين اللبنانيين كالسفير السابق ومساعد وزيرة الخارجية جيفري فيلتمان دعماً لصدور قرار ظنّي قد يفجّر الفتنة بين اللبنانيين، سوى من قبيل الحرص البريء على معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة التي ينضح بها السلوك الأميركي، وخاصةً في ما يتعلّق بالعلاقة بين إسرائيل وضحاياها من العرب دولاً وشعوباً.
أمور عديدة تدعو الى التعجّب والحيرة في مواقف عدد كبير من المسؤولين اللبنانيين المؤيّدين للمحكمة الدولية، بالرغم من المخاطر التي يمكنها أن تلحق بوطنهم وأهلهم مهما كانت الإغراءات أو الأمنيات التي يمكن أن تفسّر هذه المواقف. ولكن ما يدعو الى الذهول فعلاً هو موقف من يُفترض بهم أن يكونوا أكثر الناس حرصاً على معرفة الحقيقة وبلوغ العدالة، وفي طليعتهم أولياء الدم، بالرغم ممّا يعرفونه عن تسييس كل الإجراءات القانونية التي اتخذت على الصعيدين الدولي والمحلّي، بما في ذلك رعاية شهود الزور، وهم مع ذلك أكثر الناس تمسّكاً بالمحكمة الدولية.
من الصعب جدّاً أن نعرف أنواع الضغط التي يتعرّض لها أو المكاسب التي يتوقّعها المتمسكون بالمحكمة الدولية، الذين منحوا ثقتهم لجهاز التحقيق التابع لها، الذي سوف يصدر القرار الظنّي المتوقّع قريباً، هذا الجهاز الذي يعمل وراء ستار السرّية، بعيداً عن أيّة رقابة إدارية، ويتمتّع بالحصانة حيال المساءلة القضائية. كلّ ذلك يجري في منأى كامل عن السيادة اللبنانية بالرغم من المصالح الوطنية المهددة، وفي طليعتها أمن البلاد واستقرارها.
كيف لنا أن نفهم أنّ وطناً يتشدّق مسؤولوه بالحرص على الاستقلال والسيادة، اللذين يتجسّدان في الاستئثار بالحكم الذاتي، يتخلّى عن سيادته بحجّة بلوغ العدالة ويضعها في أيدٍ لا دليل في دوافعها وسلوكها على أي حرص على معرفة الحقيقة أو بلوغ العدالة؟ كيف لنا أن نفسّر أن مجتمعاً يرى مثقّفوه وقادة الرأي فيه أن محرّكي أدوات التفجير الداخلي من شحن طائفي واصطفاف مذهبي وإيقاظ للهواجس وزرع للأحقاد يعملون بنشاط فائق للذهاب بأمنه واستقراره، ولا يدرك الأهداف الحقيقية للقوى التي تحرّك أدوات التفجير هذه؟
من أين نأتي بمنطق يساعدنا على فهم شعب عانى الأمرّين من احتلال وإذلال واعتداءات إسرائيلية لم تنقطع حتّى امتلك القوّة لكي ينهي الاحتلال، ويقف مرفوع الهامة بوجه إسرائيل وقبالة جميع الذين ساعدوها أو عانوا منها، ويضع حدّاً لاعتداءاتها، يسمع ويطيع قادة له همّهم الأساسي ليس المشاركة في الدفاع الفعّال عن الوطن وشعبه، بل نزع السلاح الذي استعاد لهم الأرض والكرامة والسيادة؟
لعلّ انتشار التخلّف، وخاصةً لجهة الوعي السياسي، وإدمان الفساد ونموّه ثقافةً وممارسةً، هي الأسباب التي تستأثر بالإجابة عن هذه الأسئلة. فهل هناك تخلّف يفوق غياب الوعي لأبسط مقوّمات الاستقلال والسيادة إن لجهة الاستئثار بالحكم الذاتي أو لجهة

الأساس القانوني للمحكمة هو اتفاقية بين لبنان والأمم المتحدة، لكنّها غير مستوفية الشروط الدستورية اللبنانية
تنمية القدرة على الدفاع عن النفس وعن الحقوق والمصالح تجاه الدول الأخرى؟ وهل هناك تخلّف يفوق الغفلة أو الغيبوبة البادية لدى النخب المثقّفة، وخاصةً الصانعة للرأي العام إزاء الشحن المذهبي القائم وإيقاظ المخاوف والهواجس وسواها من مخاطر الفتنة التي تحاك لوطنها؟ وهل في سلوك هذه النخب ما يدلّ على إدراك تداعيات تلك المخاطر حتّى على وجودها؟
ولإكمال تظهير الصورة، لا بدّ أن نعي دور الفساد، وهو توأم التخلّف وغياب الوعي السياسي. فهو الوسيلة التي يعتمدها المتمكّنون مالياً للسيطرة السياسية في المجتمعات التي ينتشر فيها الجهل والفقر لشراء الولاء السياسي أو المذهبي أو سواهما، وهو الطريق لتدمير الشيم والروادع الخلقية وتحريك الغرائز البدائية. ففي مجتمع عمّ فيه الفساد يسهل القضاء على حكم القانون وعمل المؤسسات، وإغراء العملاء وتوظيفهم في ما هو مناقض لمصالح أوطانهم وأهلهم، وهذه ظاهرة بالغة الوضوح في لبنان.
ولعلّ إتقان زرع الفساد وطرق الابتزاز هي من أهمّ ما يميّز سلوك إسرائيل والمنظّمات الصهيونية في تحفيز الحلفاء وتوظيف العملاء في جميع المجتمعات التي عملت وتعمل فيها. لذلك فإنّ اتساع شبكة العملاء الذين انكشف بعضهم وأصبح في السجون اللبنانية، وكذلك سلوك المسؤولين الذين يتماهى خطابهم السياسي، وأيضاً أولويات مطالبهم، مع الرغبات والمطالب الإسرائيلية في لبنان، وخاصةً لجهة نزع السلاح الذي مكّن لبنان من تحرير أرضه وممارسة السيادة عليها، مسألة تستدعي كل اهتمام. والمدهش أن رافعي شعار نزع سلاح المقاومة والتمسّك بالمحكمة الدولية، وأصحاب التصريحات النارية في تأجيج المشاعر، باستطاعتهم أن يقنعوا جماهيرهم وينالوا إعجابهم وولاءهم بحجّة أنّ ما يقومون به أو يدعون اليه هو من أجل استقلال وسيادة الوطن وبناء مؤسساته ورعاية مصالحه، كأنّهم يريدون إقامة الدليل على أنّه لا حليف لإسرائيل أضمن من الغباوة الوطنية.
* أستاذ في القانون الدولي بجامعة جورج تاون في واشنطن