سعد الله مزرعاني*فشلت «استراتيجية الأمن القومي الأميركي» التي صدرت عن البيت الأبيض في عهد الرئيس جورج بوش الابن عام 2002. فشلت في العراق وتعثّرت في أفغانستان وانتكست في لبنان، وارتدّت نتائجها السلبية هذه على أصحابها في الانتخابات الرئاسية والنيابية الأميركية قبل سنتين. كما أسهمت نفقاتها الضخمة في دفع الأزمة المالية الأميركية إلى ذروتها في أواخر عام 2008.
ومن المعروف أنّ إحدى وسائل هذه الاستراتيجية كانت الحروب الهجومية الاستباقية، واستخدام القوة العسكرية، وغزو واحتلال بلدان بكاملها، ونشر الفوضى المنظمة «الخلّاقة» بغرض إعادة ترتيب الأوضاع والسلطات لمصلحة الولايات المتحدة الأميركية. شمل ذلك حتى بلداناً حليفة أو صديقة أو تابعة.
كان التفرّد في اتخاذ القرارات وحتى في التنفيذ، هو سيّد الأحكام الأميركية. واستدعى ذلك أحياناً الإعراب عن احتقار وتجاوز الحلفاء والمؤسسات الدولية جميعاً.
لكنّ الرياح لم تجرِ كما اشتهت سفن الأساطيل الأميركية الغازية. وهكذا اضطرّت الإدارة الأميركية إلى التراجع التدريجي عن سياساتها وصولاً إلى إعادة التعويل بشكل رئيسي، إلى جانب القوة والجيوش واستخدام سياسة تشتيت الخصوم وإثارة الانقسامات في صفوفهم، على المؤسسات الدولية.
وبرز في هذا الصدد خصوصاً، نموذجان لا يزالان يحتلان موقعاً رئيسياً في السياسات الأميركية الراهنة. النموذج الأوّل هو الوكالة الدولية للطاقة الذرية. فمن خلال هذه الوكالة، وخصوصاً في عهد مديرها الحالي الياباني يوكيّا أمانو، تخوض واشنطن معركة ضارية ضدّ إيران وأمثالها لحمل الجمهورية الإسلامية وسواها، على الامتثال للسياسات الأميركية والغربية والإسرائيلية. وفي موقف جديد، انتقل المدير الياباني الذي عُيّن في منصبه قبل سنة تقريباً، إلى توجيه رسائل وإنذارات مباشرة بعدما كان يكتفي بقراءة تقارير دورية أو موضعية يقدّمها إلى محافظي الوكالة. وقد تصاعد نشاط هذا الموظف الكبير الذي عمل سابقاً دبلوماسياً في واشنطن، ارتباطاً برغبة واشنطن في زيادة الضغوط على كوريا الشمالية وإيران وصولاً إلى سوريا. وهكذا لم يتورّع السيّد أمانو عن توجيه شبه إنذار إلى دمشق بضرورة تمكين مفتشي الوكالة من زيارة موقع دير الزور الذي كانت قد قصفته إسرائيل.
تثير هذه الرسالة التهديدية، التي سبقها كشف وثائق ويكيليكس تتناول امتثال رئيس الوكالة لللمطالب والرغبات الأميركيّة، «مواجع» عدّة. أوّلها أنّ القرصنة الإسرائيلية مرّت كأنّ عدواناً على سوريا لم يحدث. أكثر من ذلك فلقد تكرّست إسرائيل بوصفها أداة لتنفيذ إرادة مجلس الأمن بمعاقبة كلّ من يحاول امتلاك السلاح النووي. هذا فيما إسرائيل تمتلك أكثر من 200 رأس نووي وتناقش الآن خططاً على أوسع نطاق لاستخدام تكتيكي لهذا النوع من السلاح في الحروب الإسرائيلية المقبلة. ومعروف أيضاً أنّ إسرائيل، بدعم واشنطن وتشجيعها، تضع نفسها خارج رقابة المجتمع الدولي وترفض مجرّد التوقيع على معاهدة منع انتشار الأسلحة النووية.
هذه قمة الاستفزاز في الانحياز، وتسخير مواقع الأشخاص والمؤسسات الدولية. لكنّ ذلك ليس المثال الوحيد. ففي النموذج الثاني، اللبناني، نقع على ما هو أكثر صفاقةً أيضاً. يمثّل أحد وجهي هذا النموذج، الدور الذي لا يزال يمارسه «المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة» إلى الشرق الأوسط السيّد تيري رود لارسن. لا داعي إلى ذكر مآثر السيّد لارسن. يكفي أن نتذكّر تقاريره التي قدّمها ويقدّمها عن لبنان، والتي تجعله في موقع المندوب السامي الذي يراقب كلّ تفاصيل الوضع في لبنان وكلّ علاقاتنا مع سوريا. في المقابل، هو يتعامى عن الانتهاكات الإسرائيلية التي تتواصل يومياً في الجو والبر والبحر، دون أن يصل أيّ شيء منها وعنها إلى مسامع المندوب الدولي النبيه والنزيه.
وإذا كانت وظيفة السيّد لارسن هي محاولة ضبط الدور الدولي على الإيقاع الأميركي والإسرائيلي، وهو تلقّى آخر التوجيهات من النائبة الأميركية إليانا روس ـــــ ليتينن بشأن تصاعد «خطر» حزب الله، فإنّ المحكمة الدولية الخاصة بلبنان هي الأداة الثانية في السياسة الأميركية حيال لبنان، وعبره أيضاً، حيال سوريا وإيران وفلسطين والعراق.
إنّ اهتمام الولايات المتحدة بالمحكمة وباستخدام تحقيقاتها وقرارها الاتهامي ضدّ خصومها، ومن أجل المساومة على مطالبها، هو أمر قد بلغ أيضاً ذروة غير مسبوقة. فبعد إعلان واشنطن تقديم دفعة سخية لتمويل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، واصل مساعد وزيرة الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط، السفير الأسبق في لبنان، جيفري فيلتمان أوامره وتحذيراته وتهديداته ضدّ كلّ من يحاول منع تسخير المحكمة لإحداث فتنة في بلد الأرز وثورته.
يجب ألّا ينسينا الاستفزاز الذي يمثله التعاطي مع النموذجين الإيراني واللبناني، الدور الدولي الذي يضطلع به أيضاً رئيس الوزراء البريطاني الأسبق طوني بلير، شريك بوش الثاني، وتابعه في الحرب على العراق في متابعة الملف الفلسطيني، والسهر على المضيّ به حتى نهاياته السعيدة.
ويمثّل كلّ ذلك إذاً جزءاً من استراتيجية جديدة تقضي بتسخير كامل المؤسسات الدولية في خدمة السياسات الأميركية والأطلسية والإسرائيلية. ويقتضي ذلك بالضرورة، وضع موظفين «موثوق بهم» في المواقع الدولية المعنية. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أنّ موظفي الأمم المتحدة يخضعون غالباً، وعلى كلّ المستويات، لعملية

تحوّل منصب الأمين العام للأمم المتحدة، خصوصاً مع بان كي مون، إلى ما يشبه وظيفة في وزارة الخارجية الأميركية
استتباع تكون هي الشرط الأساسي للحصول على الموقع والاستمرار فيه والتقدّم انطلاقاً منه نحو مواقع أكبر وأثبت وأفعل. ينطبق ذلك، خصوصاً، على المواقع الكبرى. ولا يُستثنى منها منصب الأمين العام للأمم المتحدة نفسه، الذي تحوّل، وخصوصاً مع السيّد بان كي مون، إلى ما يشبه وظيفة في وزارة الخارجية الأميركية. فالأمين العام للأمم المتحدة، مثلاً، لن يهتمّ، كالعادة، بآخر ما صدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1 كانون أول الجاري باعتبار إجراءات الحكومة الإسرائيلية في مدينة القدس «ملغاة وباطلة» و«غير قانونية». لقد صوّتت لمصلحة هذا القرار 166 دولة، وعارضته فقط ست دول بينها إسرائيل والولايات المتحدة الأميركية.
لن يهتمّ الأمين العام بهذا القرار، ولن يؤلّف لجنة لمتابعة تنفيذ مفاعيله، بما في ذلك عرضه على مجلس الأمن. ولن يطلب إلى تيري رود لارسن (أو يكلّف سواه) التأكد من توقف الإجراءات والانتهاكات الإسرائيلية.
إلى ذلك، تنشط السياسات الأميركية، كما ذكرنا، في استخدام أشكال متنوّعة من الأسلحة: بينها التقليدي، وبينها السياسي والدبلوماسي. كذلك نلاحظ في امتداد ذلك، سياسة التخريب والاغتيالات، على غرار ما حصل في مصر في مراحل سابقة وغير بعيدة، باستهداف عدد من العلماء، وما حصل ويحصل حالياً ضدّ العلماء الإيرانيين.
في كلّ هذه المجالات نقع على استفزاز صارخ ضدّ مصالحنا. يقف خلف ذلك أساساً لجوء متمادٍ إلى منطق القوة واستخفاف بالعدل والحق. أما ما يجعل ذلك ممكناً، فهو تخلّي أصحاب الحق عن حقهم. ويتحوّل هذا التخلّي، مع معظم الحكام العرب، إلى تواطؤ مع الأعداء على حساب مصالح شعوبنا وثرواتها.
كيف نستمر في قبول مثل هذا النوع من الاستفزازات؟ وكيف نواجهه؟
* كاتب وسياسي لبناني