سعد الله مزرعاني*من نشر وثائق ويكيليكس إلى تحويل مطلقها مطلوباً للإنتربول الدولي، تقف سياسات عامة أو خاصة. يطرح البعض أسئلة، بل تساؤلات، عن الجهات التي تقف وراء التسريب. يذهب البعض إلى حدّ القول بأنّ جهات رسمية أميركية هي التي تقف وراء تسريب المعطيات والبرقيات، لتصبح مطاردة صاحب الموقع بذريعة تهمة اغتصاب أو تحرّش، أداة واهية لتغطية فعل الوقوف وراء التسريب. لدى بعض آخر، يدخل التسريب في خانة الصراع المحتدم في واشنطن، قبل الانتخابات النصفية وبعدها، تحضيراً للانتخابات الرئاسية بعد عامين.
إلى جانب هاتين الفرضيتين، تقوم فرضية أخرى تجعل إسرائيل في موقع المتهم الثالث بالوقوف وراء التسريب. واحد من الأسباب هو إرهاق الإدارة الأميركية (الأوبامية) وصرفها عن بعض المطالب والضغوط التي توجّهها إلى الحكومة الإسرائيلية تحت العنوان المتآكل: إقامة الدولتين في فلسطين. يعزّز هذه الفرضية أنّه لم ينشر حتى الآن على الموقع المذكور أيّ من غسيل العلاقات الأميركية ـــــ الإسرائيلية وهي الأوثق والأعمق والأوسع.
أما الفرضية الرابعة، فتكمن في الثُّغَر التي تنطوي عليها منظومة المواقع الإلكترونية والاتصالات وقاعدتها، على الشبكة العنكبوتية نفسها. مثل هذه الثُّغر، مقرونةً بخبرات ومهارات عالية، ممزوجةً أيضاً بجموح حب جني الثروة والنفوذ، ومحفّزةً بنزعة المغامرة والشهرة، كلّ ذلك هو الدافع الأوّل، أو على الأقل، أحد الدوافع الرئيسة، وراء موقع ويكيليكس والـ250 ألف برقية التي وضعها في تصرّف الناس والإعلام على مدى الكرة الأرضية، فأقام الدنيا ولم يقعدها بعد.
مهما يكن من أمر الجهة التي تقف وراء التسريب، فإنّ هذا النوع من السلاح أو الحروب، شائع وشامل، وهو موضع استخدام رسمي في كلّ الدول دون استثناء. إنّ أجهزة الاستخبارات والتجسّس والخدمات السرية هي المستخدم الأوّل لهذا النوع من السلاح أو من الحروب. وكم ارتكب من الجرائم في هذا السياق، قديماً أو حديثاً، وخصوصاً في منطقة الشرق الأوسط، وخصوصاً في مجرى الصراع العربي ـــــ الصهيوني، وقبله وبعده في مجرى السعي إلى السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية على منطقتنا وشعوبنا وثرواتنا ومصائرنا.
السرية والعمل في الغرف المغلقة والظلام، كانا السمة الغالبة في هذا النوع من الحروب. لكنّ رفع السرية والتسريب كانا هما أيضاً عنصراً مهماً. ويقدّم إلينا الطور الراهن من الصراع أمثلة حية ومهمة من حروب الاستخبارات ومن الاختراقات التي تمّ إنجازها. ولقد وقفت إسرائيل ولا تزال تقف في مقدّمة من يستخدم هذا النوع من الحروب، متمتّعةً بكفاءة واقتدار قلّ نظيرهما. ولقد ذهبت إسرائيل أبعد مما بلغه الجميع في هذا النوع من التكنولوجيا. وهي الآن في طليعة مصدّري التكنولوجيا الأكثر تطوّراً في عالم السلاح خصوصاً. وقد مكّنها ذلك من توفير أفضليات لأسلحتها أو للأسلحة التي طوّرتها، بما يجعلها تفرض حضورها حتى على دول كبرى في العالم. ومعروف أنّها إضافةً إلى مزايا توفير الأمن والحماية، تجني من خلال نجاحاتها التكنولوجية عائدات تتعدّى عائدات بعض الدول النفطية العربية. هذا طبعاً، فضلاً عما يؤمّن لها ذلك من علاقات تبادلية تجعلها في موقع سياسي قوي في تغطية عدوانها على البلدان العربية عموماً، وعلى الشعب الفلسطيني خصوصاً.
ومن قبيل ممارسة التفوّق المذكور، استطاعت إسرائيل أن تخترق شبكة الاتصالات اللبنانية. يسهّل من الأمر أنّ إسرائيل نفسها مصنّع رئيسي لعدد من منظومات الاتصالات. وهي تصدّر هذه المنظومات بصورة مباشرة أو غير مباشرة إلى كلّ دول العالم. وهي بالتأكيد في موقع القادر على الغوص عميقاً في هذا المضمار حتى لو لم تكن مساهمة في تصنيع المنظومات والشبكات كليّاً أو جزئياً.
وقد مكّن ذلك أجهزة العدوّ الإسرائيلي، ليس فقط من اختراق شبكات الاتصالات اللبنانية، بل من «العبث بمسرح الجريمة»، وعلى النحو الذي يكشفه تباعاً عدد من المختصّين والمهتمّين الرسميين وغير الرسميين، في لبنان وفي العالم.
ويزيد من الخطر الصهيوني أنّ قواه وأذرعته منتشرة في كلّ أنحاء العالم. وهذه وتلك تملك علاقات ومواقع نفوذ شديدة التأثير على النحو المخيف والمدهش في العديد من الدول الفاعلة في العلاقات الدولية الراهنة. ويستخدم كلّ ذلك الآن في حرب مفتوحة ضدّ المقاومة في لبنان، وفي سواه، مما يمثّل امتداداً لحروب إسرائيل التي استخدمت السلاح بكلّ أنواعه، بما فيه المحرّم دولياً.
وإسرائيل التي تدرك من خلال ما تملك، أهمية قطاع التكنولوجيا، توصّلت قبل الرفاق الصينيين مثلاً إلى أهمية ذلك بوقت طويل. فلقد قام قادة الثورة الصينية، كما فعل كثيرون سواهم في المنظومة الاشتراكية السابقة، بوضع الإيديولوجيا في مواجهة التكنولوجيا، وبإحلال الحوافز الذاتية مكان إنضاج الشروط الموضوعية للتطوّر. ولقد وضع دينغ هيسياو بينغ حدّاً لكلّ ذلك، واستحقّ لقب أبي الإصلاح، الذي يقف وراء التطوّر العاصف والملتبس الراهن في أكبر بلد في العالم.
أما الصهاينة، فلم يكتفوا بإقامة علاقة سليمة ما بين الإيديولوجيا والعلم، بل حاولوا حرمان أعدائهم ذلك. وهم لهذا الغرض طاردوا دائماً المواهب العربية وغير العربية وسعوا، إلى شطبها بالاغتيال، أو شرائها بالأموال، إذا تعذّر ذلك. وكان آخر النماذج في هذا الصدد اغتيال عالم نووي إيراني وإصابة زميل آخر له، قبل أيام.
ما يجري في بلدنا الآن، هو على صلة وثيقة بما نشره موقع ويكيليكس. أي إنّ القرار الاتهامي الذي سيصدر عن المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، ربما كان مبنياً على معطيات جُمّعت استناداً إلى اختراق، ومن ثمّ إلى عملية فرز وضم أو فكّ وتركيب،

قد تكون اسرائيل وراء التسريبات لإرهاق الإدارة الأميركية وصرفها عن بعض المطالب والضغوط
يصبح معها البريء متهماً والمجرم بريئاً. هذا احتمال شديد الواقعية من ناحيتين: الأولى ما كُشف عن قدرة إسرائيل على اختراق شبكة الاتصالات اللبنانية تقنياً وبشرياً عبر العملاء. والثانية نفوذ تل أبيب في المحكمة الدولية وفي كلّ المؤسسات الدولية، بسبب الدعم غير المحدود التي توفّره لها الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى. هذا فضلاً عن مصلحة إسرائيل البيّنة والصارخة في كلّ الوقائع والأحداث التي حصلت في لبنان، منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه إلى يومنا هذا.
إنّ معطيات واقعية وحقيقية من هذا القبيل، هي ما يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في صياغة موقف هذا الطرف أو ذاك من أطراف الصراع في لبنان. والسبب في هذا الاستنتاج أنّ المصلحة الوطنية على المحك. والمصلحة الوطنية الآن تقضي بإحباط مخطط الفتنة الإسرائيلي ـــــ الأميركي، لا بالاستمرار في طلب العدالة بواسطة أداة هي المحكمة الدولية، بات جلياً الحجم الكبير للتأثير الأميركي والإسرائيلي والألماني عليها.
لم تنفصل السياسة يوماً عن السعي إلى تحقيق هدف كبير أو صغير، بوسائل قذرة. منذ نظرية ميكيافيلي وقبلها، لم يخلط طرف في العالم السياسة بالقذارة، كما فعل ويفعل الصهاينة خصوصاً ضدّ الشعب الفلسطيني وحقوقه ومطالبه.
هذه الإدانة الأخلاقية للصهاينة وحماتهم الأميركيين ضرورية. لكنّها مع ذلك، غير كافية ما لم تقترن بتدابير سريعة لمنع الصهاينة وشركائهم وحماتهم من العبث بالمسرح اللبناني، ومن ثمّ الإفلات من العقاب، كما جرت العادة في المؤسسات الدولية التي تقرّر سياساتها واشنطن أكثر من أيّ طرف آخر، وأكثر من أي وقت آخر.
* كاتب وسياسي لبناني