strong>وسيم نابلسي*لم تكن إشكالية العلاقة بين العروبة والإسلام أكثر استفزازاً لفكر المواطن العربي وإثارةً لحيرته ممّا هي عليه اليوم. فما يشهده العالم منذ سقوط الاتحاد السوفياتي جعل المشاكل المزمنة، التي يتصدّى لها كلّ من العروبيّين والإسلاميين، طارحين حلولهم المفترضة لها، أكثر إلحاحاً وتعقيداً. وكان من شأن ذلك تعميق الأزمة التي يعيشها كلّ من الطرفين، دافعاً بالتالي بصورة طبيعية بإشكالية العلاقة بينهما إلى أغوار أكثر عمقاً، وإلى تفرعات أكثر تعقيداً لم تُنتج سوى مزيد من التشظّي في العقل العربي. من هنا، يجد المرء نفسه واقعاً تحت إغراء البحث في إشكالية هذه العلاقة، محاولاً إعادة تفكيكها.
ولا بد لمن يريد الخوض في هذا الموضوع أن ينطلق من البدايات، متقصّياً الجذور التاريخية لكلّ من الفكرتين اللتين كمّا سيتبيّن قد ولدتا متزامنتين ومكملتين كلّ منهما للأخرى.
فالبحث في تاريخ العرب يفيد أنّهم قاربوا فكرة الهوية الجامعة إبّان حلول الرسالة المحمدية بين ظهرانيهم. ويجري الحديث هنا عادةً عن احتفال قبائل الداخل العربي بانتصار عرب التخوم (المناذرة) على الفرس كمثال على شعور هذه القبائل العربية بحال من الوحدة تجمع بينها. إلا أنّ المثال الأهم في هذا المجال هو ما روي عن النبي محمد عندما جاءه الملأ من قريش في بدايات دعوته يفاوضونه على تركها. فكان جوابه: «أتعطونني كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم؟». وهذه الإجابة كانت بالغة الدلالة. فهي تفترض أنّ القائل وسامعيه في تلك الفترة المبكرة من الرسالة المحمدية، كان لديهم مفهوم واضح عن الـ«نحن» (العرب موضوع المملكة) والـ«هم» (العجم موضوع السيادة). وتمضي الأيام بعد هذه الواقعة وتنتصر الرسالة المحمدية، فارضةً توحيد لهجات القبائل العربية في ما بات يعرف اليوم بالعربية القرآنية. وهذا تماماً ما فعلته الثورة الفرنسية بعد ذلك بقرون، عندما ابتدعت نخبها صيغة جديدة للغة الفرنسية، وفرضتها على سائر المناطق والإقطاعيات، وأصدرت قانوناً (في 1792) يقضي بوقف تبسيط المراسيم المركزية الصادرة عن العاصمة بلهجات الإقطاعيات المختلفة. وتنجح الرسالة المحمدية كذلك في تحفيز انتقال العرب من حال البداوة (الأعراب المذمومين في القرآن) الى حال الحضر (العرب أهل الرسالة الأُوَل)، ومن الاقتصاد الرعوي الى الاقتصاد القائم على التجارة (الدولية) والزراعة والحرف. وهو أيضاً نفس ما فعلته القوميات الحديثة عندما نقلت مواطنيها من الريف الى المدينة، ومن الاقتصاد الزراعي الى الصناعي. وتصدق بعد ذلك نبوءة محمد مع فتح فارس وبلاد الشام بأيدي العرب المسلمين. وشاركهم عدد كبير من العرب المسيحيين ممن كانوا مقيمين في تلك البلاد أو على تخومها، الذين انحازوا لعروبتهم رغم وحدة الدين التي كانت تجمع بينهم وبين الروم. حتى إنّ مهران قائد الفرس قُتل على يد فتى عربي مسيحي من بني تغلب («فتوح الشام» للأزدي، و«تاريخ الأمم والملوك» للطبري).
ولم تكتفِ الرسالة المحمدية بتوحيد العرب كأمة واحدة تحت لوائها، بل امتدت مضامينها لتنطلق في عملية عوربة شاملة كان العالم كلّه مسرحاً مفترضاً لها، بالنظر إلى عالمية الرسالة. بدأت هذه العوربة من القرآن العربي والعبادات الدينية التي لا تصح إلّا بالعربية، وصولاً الى تعميم الثقافة والعادات العربية في المأكل والملبس وسواهما (كتحريم أكل ما تستقذره العرب وهو ما يدخل شرعاً تحت حكم الخبائث). واستمرت مع النهي عن التشبه بالأعاجم، إضافةً إلى فرض الموروث القمري في الإسلام لجهة الصوم والإفطار والأعياد، وتعيين مكة المكرمة قبلة للعالم كلّه في الصلاة والحج، وغير ذلك الكثير من مضامين هذه العوربة مما يحتاج إلى مقام منفصل.
لكن أهم ما يسجل في هذا المجال أنّ عروبة محمد لم تكن عروبة عنصرية مغلقة. فيه كانت ثقافية لسانية مفتوحة بالمعنى الأقرب الى معناها المعاصر، وذلك في الحديث المنسوب اليه: «وليست العربية بأحدكم من أم وأب، إنّما العربية اللسان، فمن تكلم العربية فهو عربي». ومن المفيد في هذا المجال ذكر ما أورده ابن تيمية في كتابه اقتضاء الصراط: «ولهذا كان المسلمون المتقدمون لمّا سكنوا أرض الشام ومصر ولغة أهلهما رومية، وأرض العراق وخراسان ولغة أهلهما فارسية، وأرض المغرب ولغة أهلها بربرية، عوّدوا أهل هذه البلاد العربية حتى غلبت على أهل هذه الأمصار مسلمهم وكافرهم، وهكذا كانت خراسان قديماً، ثم إنّهم تساهلوا في أمر اللغة واعتادوا الخطاب بالفارسية حتى غلبت عليهم وصارت العربية مهجورة عند كثير منهم، ولا ريب أنّ هذا مكروه، وإنما الطريق الحسن اعتياد الخطاب بالعربية». وأيضاً ما يقوله د. جواد علي: «والإسلام الذي صهر الأعاجم في بوتقته وجعلهم جنوداً يحاربون في الصفوف الأمامية لنشره وإعلاء كلمته لم يلبث أن أنساهم أصولهم ولغاتهم، فحوّلهم بذلك الى عرب من حيث لم يشعر العرب ولا الأعاجم أنفسهم به» (المفصّل في تاريخ العرب قبل الإسلام، ج 1، ص 286، طبعة دار العلم للملايين). هكذا وبعبارات اليوم مثّل الإسلام طرحاً حداثياً صنع أمّة العرب ووحّدها في دولة تموقعت في المركز لتهيمن على دول الأطراف ثقافياً واقتصادياً.
وكان عجز الحكم الأموي بعد ذلك عن استبصار هذا المفهوم الحديث للعروبة قد أدّى الى بذر تلك البذرة الخبيثة التي أودت لاحقاً وفي آن واحد بدولتهم إلى نهايتها، وبالدولة العباسية من بعدها إلى العطب. فقد فهم الأمويون العروبة بمفهوم عنصري. فحصروا السلطة والامتيازات بالعنصر العربي وتعاملوا مع الأعاجم الداخلين في الإسلام معاملة المستعمر. فكان أن تحالف هؤلاء مع معارضي بني أمية من العرب، لينهوا الدولة الأموية ويقيموا الدولة العباسية. هذه الأخيرة اعتمدت بدورها منذ قيامها على الأعاجم وقرّبتهم كرد فعل طبيعي بوجه الخصم الأموي كما بوجه حلفاء الأمس من العرب، الذين سرعان ما انقلب العباسيون عليهم. ولم يمض وقت طويل حتى ظهرت الحركات الشعوبية المتعالية على العنصر العربي. رفضت هذه الحركات التعرّب مستفيدة من وجود أبناء عرقها في مراكز السلطة والنفوذ، محاولةً فرض ثقافتها هي على العرب، الذين دخلوا منذ ذلك الحين في سبات عميق تحت حكم أبناء الأعراق الأخرى من فُرس وسلاجقة وهنود ومغول وكرد وأتراك وغيرهم. وقد استمرت الحال بالعرب على هذا النحو حتى عندما كانت أوروبا تدخل في حداثتها، فكان العرب يُستعمَلون وقوداً في النزاعات الصفوية ـــــ العثمانية.
ومع دخول السلطنة العثمانية أيامها الأخيرة، ظهرت معالم ضعف الرجل المريض، مترافقةً مع حركة التتريك ما استفزّ بعض النخب العربية وأعاد إلى أذهانها الفكرة العربية (للتوسع في معطيات هذه المرحلة يرجى العودة الى د.عزمي بشارة، في المسألة العربية، الفصل السادس، مركز دراسات الوحدة العربية). ولم تكن هذه العروبة المستيقظة من سباتها لدى هؤلاء متناقضة مع الإسلام أو حتى متمايزة عنه. فالكواكبي مثلاً، كان يدعو الى إقامة خلافة (إسلامية بطبيعة الحال) يكون على رأسها أمير عربي. لكن سقوط السلطنة العثمانية ودخول اتفاقيات سايكس ـــــ بيكو حيّز التنفيذ على الخارطة العربية أدّيا إلى تطورين هامين في هذا السياق. الأول تمثل في بدء جنوح بعض العروبيين نحو أدلجة العروبة كردّ فعل على القطرية المستجدة، والثاني في ظهور الإسلام السياسي بطابعه الحركي كنتيجة لانهيار السلطة الإسلامية المركزية (العثمانية). وحتى هذه المرحلة لم تشهد الساحة تناقضاً بين التيارين. فكان حزب البعث العربي ومؤسسه ميشال عفلق يحتفل بذكرى المولد النبوي، ويتعامل مع صحابة النبي كأبطال قوميين، مشيراً إلى أنّ فجر الإسلام مرحلة ذهبية للأمة. وفي المقابل، كانت كتابات حسن البنا، مؤسس الإخوان المسلمين، نابضة بالعروبة وبفهم مركزية العرب في الدعوة الإسلامية.
غير أنّ الانقلابات العسكرية التي شهدتها المنطقة، وظهور الأنظمة «التقدمية» العربية أدّيا إلى تأهيل المسرح للصدام. وذلك خصوصاً بعدما وجدت هذه الأنظمة نفسها في مواجهة محتومة مع الطموحات الإمبريالية الأميركية، ومدفوعة بالتالي دفعاً الى التحالف مع المعسكر الآخر. كرست هذه الأنظمة عملية أدلجة الفكرة العربية وتولّت إلصاقها بالاشتراكية لتجعل الإسلاميين الذين باتوا في موقع الدفاع (وخصوصاً مع القمع الذي مورس

الإشكال بين عروبيّين استفادوا من الأنظمة لقمع الإسلاميين وإسلاميين ربطوا أنفسهم بصراع إقليمي
عليهم) مؤهّلين ومتعطشين لاستيراد فكر الحركة الإسلامية الهندية. فأصبحت كتابات أبو الأعلى المودودي المرجع الأول للإسلاميين، الذين لم يهتموا بملاحظة الخصوصية السياسية للحركة الإسلامية في الهند. كانت هذه الأخيرة تطالب بانفصال باكستان عن الهند انطلاقاً من الرابطة الدينية (الإسلام) التي تجمع بين الباكستانيين وتميّزهم عن سائر الهنود. لذلك مثّلت القومية العدو الأول لأبي الأعلى المودودي بوصفها البنيان النظري الذي ينطلق منه الأعداء لمنع استقلال باكستان. وهذا التأثر بالفكر الإسلاموي الهندي وضع الإسلاميين العرب ليس في مواجهة العروبيين المؤدلجين فحسب، بل في مواجهة منظومة الحداثة الغربية برمتها أيضاً.
من هنا، ينبغي إعادة النظر في هذه المرحلة، والتنبّه الى عدم جواز الربط بين أيّ من العروبة أو الاشتراكية أو القمع. فلا يجوز ربط العروبة بالاشتراكية أو بغيرها من الايديولوجيات، لأنّ القومية عموماً «أكثر ارتباطاً بالموروث الثقافي العريض السابق على ظهور الأيديولوجيات على مختلف أنواعها» (تيلور وفلينت، الجغرافيا السياسية لعالمنا المعاصر، ج 2، ص 57)، ولأنّ الاشتراكية لم تفرز القمع إلا لغياب الدولة القومية وتقوقع الأنظمة المتبنية لها في كيانات لا مشروعية لها من خارج سايكس ـــــ بيكو.
هكذا يظهر أنّ الإشكال هو بين عروبيّين أدلجوا العروبة واستفادوا من الأنظمة لقمع الإسلاميين، وإسلاميين ربطوا أنفسهم وربطوا الإسلام والعروبة بمقتضيات صراع إقليمي لم يكن لهم ولا للعرب دخل فيه. فالإشكالية إذاً ليست بين العروبة والإسلام بل بين عروبيين وإسلاميين. إشكالية تنبغي تصفيتها بعدما انقضت أسبابها، لتبقى الأزمة الحقيقية هي أزمة الطرفين مع الحداثة الغربية ومع الهيمنة.
* محامٍ لبناني