حسام كنفانيسارع مسؤولو السلطة الفلسطينية إلى التهليل لمدى «صدقيّة وشفافيّة» الرئيس محمود عبّاس، بعدما لم يرد اسمه مباشرةً في الوثائق الأميركية المسرّبة عبر موقع «ويكيليكس»، كأنّ هذا الموقع بات المعيار الأساس للصدقيّة في العلاقات الداخلية والدولية. فما دامت الأسماء غير مدرجة في المراسلات الدبلوماسية الأميركية، فإنّ ما يقوله هذا الشخص في السر هو عينه ما يقوله في العلن.
هكذا انتقى المسؤولون الفلسطينيون بعض الوثائق وبنوا تفسيراتهم على أساسها، تماماً كما فعل نظراؤهم الإسرائيليون، حين أشاروا إلى أنّ الدولة العبرية «لم تتضرر من التسريبات»، بل على العكس أسهمت الوثائق في تحسين صورتها، ولا سيما في ما يخص الموقف من إيران ومفاوضات التسوية.
الفلسطينيون يسعون إلى استنساخ التفسير الإسرائيلي والرقص فوق أوراق الوثائق التي لم تذكر محمود عبّاس، رغم أنّ هناك وثائق أشارت إلى الرئيس الفلسطيني و«ثراء» أولاده إشارة مباشرة. هذا على سبيل المثال ما قاله رئيس «الموساد» المنصرف مائير دغان للمسؤولين الأميركيين، حين رأى أنّه من دون إسرائيل ستنهار حكومة السلطة في غضون شهر، والرئيس الفلسطيني محمود عباس (أبو مازن) سينضمّ الى «ابنه الغني على نحو غريب» في قطر.
قد لا تعني هذه الجملة الكثير للمتابع الخارجي، لكنّها ذات مغزى للداخل الفلسطيني، الذي ينام ويصحو على كلام الفساد الذي ينخر عظم السلطة الفلسطينية من رأسها إلى أخمص قدميها. كلام وصل إلى داخل أروقة صنع القرار، وبات حديث الفاسدين أنفسهم، محمد دحلان نموذجاً.
الأكثر طرافةً في ما نشر من وثائق لها علاقة بالسلطة الفلسطينية كان البرقيّة، التي نقلت عن وزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك قوله إنّ الدولة العبرية تشاورت مع مصر والسلطة الفلسطينية قبيل الحرب على قطاع غزة «فيما إذا كان لديهما الاستعداد للسيطرة على قطاع غزة بعد هزيمة حركة حماس المفترضة على يد جيشه»، إلا أنّ الجانب المصري والرئيس الفلسطيني عباس رفضا بشدة المقترح الإسرائيلي. ووضع باراك ذلك كسبب لعدم قيام إسرائيل «بسحق حركة حماس».
هذا الموقف رأى فيه المسؤولون الفلسطينيون دليلاً على «وطنيّة» أبو مازن، غير أنّ الوثائق لم تشر إلى موقف الرئيس الفلسطيني من العدوان بحد ذاته. هل عارض عبّاس الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، أم رفض فقط تسلّم القطاع على اعتبار أنّ الأمر قد يكون سابقاً لأوانه، ولا سيما أنّ نتائج الحرب غير محسومة، وحتى الإسرائيليّون أنفسهم لم يضعوا إسقاط حكم «حماس» في الحسابات الأولى لعدوان 2008؟
لم تكشف الوثائق مثل هذا الموقف، ربما لأنّ الصحف والمسؤولين الإسرائيليين كانوا سبّاقين إلى فضح تحريض مسؤولي السلطة على «حماس» وقطاع غزّة، بدايةً من أبو مازن وصولاً إلى ياسر عبد ربه.
نقطة أخرى قد لا تكون في مصلحة أبو مازن في الوثائق، وهي غياب موقفه من عملية التسوية. فكلّ البرقيّات الأميركية الصادرة من إسرائيل أو المتعلقة بالقضية الفلسطينية كانت تشير إلى موقف الدولة العبريّة وبعض الدول العربية من قضايا المفاوضات، سواء الاستيطان أو القدس أو الأمن وغيرها من الملفات. لا مكان لموقف أصحاب القضيّة أنفسهم.
قد لا يعني هذا أنْ لا وثائق تشير إلى ما يريده الفلسطينيون، أو إلى رأيهم في المساومات القائمة بين واشنطن وإسرائيل ودول المنطقة، لكنّ التركيز على مواقف الأطراف الأخرى يعطي الانطباع عن مدى تهميش الدور الفلسطيني في قضيّته الأساس، والتعامل معه على أنه تابع لما تتوافق عليه الدول المعنية بالملف. هذا الموقف سبق للأميركيين أن قالوه علناً، وجاءت الوثائق لتكشف ترجمته الفعلية. فالرئيس أبو مازن سبق أن سلّم الرئيس الأميركي باراك أوباما رسائل المطالب الفلسطينية، التي نزلت عن سقف كامب ديفيد، كما أنّه متأثّر كليّاً بما يصدر عن القاهرة، التي لا تزال تلعب بالورقة الفلسطينية على هواها.
أبو مازن ليس المدان الخفي الوحيد في الوثائق، فـ«حماس» أيضاً ليست خارج سياق الانتقاد، ولا سيما بعدما نُقل عن أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني من أقوال للسيناتور الأميركي جون كيري. الأمير أبلغ المسؤول الأميركي أنّ «حماس» ستقبل حدود 1967 ضمنيّاً، مع ما يعني ذلك من اعتراف بإسرائيل. أيّ إنّ الحركة ستخرق ميثاقها بالسر، وتبقي على شعاراته في العلن. براغماتية الحكم مارستها «حماس» في كثير من المحطات بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، ويبدو أنّها مستعدة للاستمرار في ممارستها للبقاء في السلطة.
كلام السر والعلن الفلسطيني تسرّب جزئيّاً عبر وثائق ويكيليكس، التي ربما كشفت القليل وأبقت الباقي مكتوماً.