لكنّني لم أشرب الخمر. هكذا تحدّث طارق عبد الرازق عيسى، بالفخر اللائق بمجاهد ضد النزوات الصغيرة. لم يستسلم لغواية الكحول، واختار غواية أخرى من الموساد، يستسلم لها بكامل إرادته، وهو يردّد ثلاث مرات أمام جهاز كشف الكذب: أحبّ مصر.غواية المال سبب كراهيته لمصر. يحبه ولا يعرف أنّ 800 دولار ثمن رخيص لجاسوس يصطاد جواسيس في لعبة منتعشة رغم زمن السلم، وربما بسببه، حين تختلّ مفاهيم «التربية الوطنية»، بانتقالات الحكّام من جبهة الحرب إلى طاولة السلام بدون خطابات تحترم بناء العلاقة بين الفرد والدولة الحديثة.
قاد الحكّام المجتمع إلى جبهة النار. جيش في مواجهة عدوّ أبديّ. معركة وجود لا نهاية لها. في منتصف الطريق وقعت الهزيمة وعاد الجيش بخذلان لم يحاسبه عليه أحد. وهتف الشعب مطالباً باستمرار الرئيس المهزوم، لأنّه ليس رئيساً فقط، إنّه زعيم وأب، لا يليق أن يتنحّى في قلب العاصفة.
الأب أعدّ لحرب الاستنزاف وغيّر لغة الخطابات مع العدو. وحرّك خليفته الذي لم يكن أباً بنفس المعنى ولا الخطاب، وانتصر في ما هزم فيه الأب. لكنّه سحب انتصاراته كلّها إلى طاولة مفاوضات.
« الشعب» هنا متفرّج. خسر الأرواح والاستقرار والثروات وفرص بناء مجتمع قوي لا مجرد جيش قوي في دولة حديدية.
وفي السلام خسر كلّ هذا، إضافةً الى جهاز المناعة والشعور بالقوة وعدم الخوف من الحرب. وهو شعور مختلف عن عدم الرغبة في الحرب. هناك إرادة في اختيار البعد عن الحرب.
لكنّ السلام بعد كلّ هذه السنوات بدا كرضوخ لأوامر من الدولة الجبّارة، التي وصلت «أحلامنا» في يوم من الأيام الى إعلان التحدي والتخطيط لإنشاء قوى ثالثة تمنع هيمنتها على العالم.
الفارق كبير، وخاصةً أنّ ثقافة الحشد استمرت من بروباغندا المعارك، إلى بروباغندا الفرص العظيمة في الثراء على الطريقة الأميركية. الشعارات وحدها تقود شعباً معصوب العين الواحدة، أخلاقه أصبحت ضد وعي تكوّن في كرّاسات التربية الحربية.
لم تتغير البروباغندا ولا العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع. الشعب ينتظر توجهات آلهة على مقاعد الحكم، ورغم أنّ الدولة حديثة، فإنّ قِدَمِها يعود إلى عصر إقطاع سياسي. «شيزوفرينيا» يمكنها أن تطيح دفاعات شابّ صغير، يهتز كيانه العاطفي من أغاني حب الوطن، و«باحبّك يا مصر»، بينما مصلحته لا تتحقّق في ظلّ كيان الدولة. ربما لا يعرف أين مصلحتها، وما دامت التغييرات جرت تحت الطاولة، حين مُرّرت البنود السرية، أي الانقلاب من الحرب إلى السلم، فلمَ لا يسير على نفس الطريق السري ليحل مشاكله المالية.
الفكرة الرائجة وقت توقيع كامب ديفيد هي أنّ توقيع اتفاقيات السلام مع إسرائيل منح مصر فرصة إعادة بناء الدولة المنهكة من الحروب. وهي أفكار أعجبت قطاعات كبيرة من شعب حُرم حياته الطبيعية بسبب الحروب، وبرّرت له كل الأنظمة من عبد الناصر الى مبارك مروراً بالسادات كل كوارث الفقر وتأجيل الديموقراطية بسبب الحرب مع إسرائيل.
عبد الناصر بنى أمجاده على وضع البلد كلّه على خط النار. والسادات سحبه الى كتالوغ النعيم والرخاء على الطريقة الأميركية. ومع مبارك، اكتمل طريق السادات لكن بحذر الموظفين، وتحوّل الخوف من الحرب الى شعور بديل للإقدام على الحرب، أي إنّ الخوف من الحرب في عصر مبارك تحوّل إلى شعور متطرف كما كان الإقدام على الحرب في عصر ناصر.
شعور صنعته بروباغندا الإعلام الرسمي، وصدّرته إلى جماهير منهكة من الحياة على برنامج الحرب ومواجهة العدو الرابض على الحدود.
لا تختلف هستيريا الدفاع عن الحرب كثيراً عن هستيريا الحروب. لم يتغيّر سوى اتجاه الحماسة. ولم تتغير المعاناة. الفرد بالنسبة إلى الدولة جندي في معركة، يتحوّل إلى عبء بعدها.
طارق عبد الرازق عبء بتعلّمه تخصّصاً لا يجد فيه عملاً. عاطل، يرى عاطلين آخرين «شطّاراً» في جمع الثروات بدون اتفاق على مصلحة عمومية.
لصوص يجاورون السلطة. هذا ما يراه الجاسوس الذي يثبت أنّ زمن الجاسوسية الجميل ولّى هو الآخر واستُبدل بحكايات مستهلكة، مصنوعة بموهبة قليلة، ومهارات لا تثير الخيال.
الجاسوس اختار مثل غيره وضع معيار يلتزم فيه بتعليمات الحرام الديني. التزام من على السطح، لكنّه يمتثل فيه للممنوع، لأنّ المصلحة السياسية غائبة. لا يحدّدها أحد ولا يضبطها خطاب يفسّر كيف تحرّم الدولة الاقتراب من السفارة الإسرائيلية بينما يذهب مسؤولوها ورجال أعمالها الى تل أبيب. لا يفسر الخطاب كيف تقيم سلاماً يتيح للإسرائيلي الوصول بدون تأشيرة إلى قلب سيناء، بينما شعارت العداء مستمرة. كيف يفهم الجاسوس البسيط كلّ هذه التعقيدات، بدون أن يذهب مباشرةً إلى وعي مركّب على طريقة البازل، يخون فيه بلاده بينما يحافظ على بكارته من الكحول؟