يعاني الأمن القومي العربي تحديات عدّة، بعضها داخلي وآخر مصدره البيئة الإقليميّة والدوليّة للنظام العربي. وإذا كانت التحدّيات الداخليّة هي الأساس من وجهة نظرنا، فإنّ تحدّيات البيئة الإقليميّة والدوليّة لا تقلّ خطورة. من بين هذه التحدّيات يبرز التهديد الإيراني، لكنّ الأهم منه هو الانقسام العربي حول إدراك هذا التهديد. انقسام يكشف عن حالة من عدم اليقين لناحية مصادر تهديد الأمن القومي العربي، وخصوصاً ما يتعلق بالبيئة الإقليميّة ودور إيران في هذا التهديد. يؤدي عدم اليقين هذا إلى حالة ارتباك في إدارة العرب لأنماط علاقاتهم وتحالفاتهم الإقليميّة وفي صوغ توجهاتهم الاستراتيجية لتحقيق الأمن القومي.

أولاً: الأمن القومي العربي والصراعات الإقليميّة والعالميّة

يشهد النظام الدولي تطورات مهمّة في هيكليّته منذ سقوط النظام ثنائي القطبية، بدخول فاعلين جدد في عضويته. وشهد النظام العالمي الجديد بروزاً مهمّاً لدور الأقاليم على حساب قيادة النظام العالمي وأيضاً حساب دور الدولة الوطنية، إذ بدأت تفاعلات الدول داخل أقاليمها الخاصة تتنافس، وأحياناً، تتفوق على علاقتها بقيادة النظام العالمي ومنظّمته العالمية (الأمم المتحدة).
هذا الاتجاه إلى تدعيم دور الأقاليم من ناحية، وسياسات التعاون والاعتماد الاقتصادي المتبادل والتكامل الإقليمي من ناحية أخرى لم يكن له أي وجود فعلي في الشرق الأوسط. هذا الإقليم كاد ينفرد بين معظم، وربما كلّ، أقاليم العالم، في أنّه يتجه نحو «العسكرة»، لا إلى الاعتماد المتبادل والتكامل الاقتصادي بين دوله. شهد هذا الإقليم أخطر أنواع الحروب، من حرب الخليج الأولى بين إيران والعراق، إلى احتلال العراق عام 2003. وقبل ذلك كان هناك الغزو الأميركي لأفغانستان، واستمرار مسلسل العنف وإراقة الدماء في العراق، وعلى الحدود العراقية ـــــ التركية، وفي الصومال والقرن الأفريقي، وحرب إسرائيل على لبنان عام 2006، وعلى قطاع غزة (كانون الأول / ديسمبر 2008 إلى كانون الثاني / يناير 2009)، فضلاً عن القواعد العسكرية، وتحركات القطع العسكرية التي تخص دول الإقليم والدول الحليفة لها، والإنفاق العسكري الهائل وغير المسبوق.
الوجه الآخر لهذا التطور الدامي في الشرق الأوسط هو عدم الاستقرار السياسي، وسيطرة النظم الاستبدادية، وغياب الحريات، وانتشار الفقر والتخلّف والتبعية، والاعتماد المتزايد على المعونات الخارجية. لكن، هناك تطور جديد له أهميته، هو أنّ تلك الأنماط التفاعلية التي تعتمد بدرجة مكثفة على العسكرة، تقوم بدور المحدد الأساسي في تكوين خرائط التحالفات الإقليمية والدولية في الإقليم.
إنّ نظرة، ولو سريعة، لما يجري من مناورات عسكرية على أرض الإقليم كافية للكشف عن أبرز هذه التحالفات. تنفرد إيران عن غيرها من دول الإقليم باعتمادها على الذات في إجراء مناوراتها العسكرية، من دون مشاركة أي أطراف أخرى إقليمية أو دولية. أما دول مجلس التعاون الخليجي التي تعتمد بدرجة كبيرة على الدعم العسكري الأميركي والدولي عبر العديد من الاتفاقيات العسكرية والأمنية، فإنّها تشترك مع هذه الدول الصديقة في مناورات عسكرية دورية وغير دورية. وهي تحتفظ بقواعد عسكرية لبعض هذه الدول، ما يجعلها على مستوى التفاعلات السياسية والعسكرية، أكثر «عولمة» أو «دولنة» من كونها تفاعلات إقليمية. إنّ الحروب التي تدور على أرض دول هذا الإقليم الشرق أوسطي أضحت بمعظمها معولمة أو مدولنة تشارك فيها عشرات الدول من خارج الإقليم. حتى الحرب المحتملة على إيران، لن تكون، على الأغلب، في حال حدوثها، حرباً إقليمية تدور في حدود دول الإقليم، بل ستكون بمشاركة أطراف أخرى خارجية مع بعض دول الإقليم.
يشير هذا إلى عسكرة إقليم الشرق الأوسط، وفي القلب منه النظام العربي، وخصوصاً جزؤه الخليجي. يحصل ذلك على حساب تفاعلاته التنموية والتكاملية. كذلك تجري عولمته على حساب تحويله إلى كتلة أو جماعة اقتصادية ـــــ سياسية قادرة على التفاعل الإيجابي مع المجتمع الدولي.
ربما تكشف حالة النظام العربي، بوصفه نظاماً فرعياً من النظام الإقليمي للشرق الأوسط، أنّ التحالف مع خارج النظام هو الأكثر رواجاً. فالنظام العربي فُكّك فعلياً منذ توقيع مصر معاهدة السلام مع إسرائيل، إذ تراجعت مكانة القضية الفلسطينية بما هي قضية مركزية لهذا النظام، وانفرط العقد العربي تماماً. وبين هذا الانفراط وذاك، كان النظام العربي يتفكك ويخترَق من الخارج ابتداءً من النظام الإقليمي الأوسع (نظام الشرق الأوسط)، وانتهاءً بالنظام العالمي. وحال التجمعات الفرعية العربية، خصوصاً مجلس التعاون الخليجي والاتحاد المغاربي الآن، هي أكبر دليل على ذلك. فمجلس التعاون الخليجي بنى نظريته الأمنية على أساس الاعتماد الكامل على الولايات المتحدة من دون أفق لنظام أمن جماعي خليجي، بل أمن منفرد لكل دولة خليجية على حدة. أما مسيرة التكامل والاندماج فلا تزال هي الأخرى عند حدّها الأدنى. ليست حال الاتحاد المغاربي أفضل، فمسيرة الاندماج معطّلة كلّياً، والأمن الجماعي غائب، والتوجه البارز هو نحو الارتباط بالأفق المتوسطي. أما القلب العربي، ونقصد به المشرق العربي، فهو ممزق بين خلافات القاهرة ودمشق، والانقسام حول عملية السلام والتحالفات الإقليمية، في وقت أضحى فيه العراق غارقاً تحت الاحتلال والتنافس بين أمراء الحرب الذي يكاد يحوّله إلى أفغانستان أخرى. وفي وقت تتجه فيه القاهرة إلى مزيد من التطبيع مع الدولة الصهيونية، وتكثيف العلاقات مع الولايات المتحدة، أضحت سوريا أقرب إلى إيران وتركيا.

ثانياً: خريطة الخلافات والتحالفات الإقليمية

هذا الوضع الانقسامي للنظام العربي المقترن بافتقاد الفاعلية سواء على مستوى القيام بالوظائف المنوطة به أو على مستوى مواجهة التحديات التي تواجه الأمة، تتفاقم كارثيته في ظل بروز خريطة صراعات وتحالفات إقليمية جديدة. كما يساهم في هذه الكارثية حدوث استقطاب حاد لقلب النظام وتركّزه في ثلاث قوى إقليمية أساسية هي: إسرائيل وإيران وتركيا، وتحوّل العرب إلى مجرد طرف في تفاعلات النظام الشرق أوسطي الأوسع.
جوهر التفاعلات الإقليمية الآن، هو أن هذا النظام يتجه إلى هيكلية قيادة ثلاثية متصارعة. تسعى إسرائيل إلى أن تفرض نفسها قوة إقليمية عظمى مسيطرة، فيما تقوم إيران بدور القوة المناوئة والساعية إلى فرض نفسها زعامة إقليمية بديلة. أما تركيا، فهي، وإن كانت تبدو راضية بدور الموازن الإقليمي، حريصة على أن تكون قوة منافسة على الزعامة الإقليمية. ذلك رغم أنّها كانت تعطي الأولوية لعناصر القوة الناعمة عكس القوّتين الإسرائيلية والإيرانية.
يؤثّر التفاعل بين المشروعات الثلاثة (الصهيوني ـــــ الإسرائيلي، والإيراني ـــــ الإسلامي، والتركي) على الأمن القومي العربي ويزيد الخيارات العربية تعقيداً، وبالذات بالنسبة إلى العلاقة مع إيران التي تثير انقساماً واضحاً في الإدراك السياسي العربي. انقسام بعضه ناتج من خصوصيات المشروع الإيراني، وبعضه الآخر من تفاعلات هذا المشروع مع كل من المشروعين الإسرائيلي والتركي. ويظهر التنافس قوياً بين إيران وإسرائيل على كسب تركيا ضمن الصراع بينهما.
هذا التنافس يزيد من تعقيد خريطة التفاعلات الإقليمية أمام العرب الذين يراهن بعضهم على تركيا موازناً إقليمياً لإيران ويراهن آخرون منهم على دورها وسيطاً لإنقاذ مشروع تسوية الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي من الفشل.
ضمن هذا التعقيد تفرض خصوصية نظام إيران نفسها على الإدراك السياسي العربي، وبالذات التوجهات الاستراتيجية لنظام الجمهورية الإسلامية نحو العرب ونحو خريطة التحالفات والصراعات الإقليمية. ومن هذا النظام يتبلور الإدراك العربي لإيران مصدراً لتهديد الأمن القومي العربي، أو حليفاً استراتيجياً محتملاً.
يمكن وصف نظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بأنّه «ثوري» يسعى إلى التغيير وتصدير الثورة لفرض نموذجه على الجوار الإقليمي. كذلك يمكن وصفه بأنّه «نظام أيديولوجي إسلامي راديكالي» يطرح الرسالة العالمية للإسلام ويرفع شعارات تدفعه حتماً إلى الصدام مع دول الجوار. أضف أن هذا النظام يوصف بأنّه «طائفي ـــــ مذهبي»، إذ تنص المادة 13 من الدستور على أنّ «الدين الرسمي لإيران هو الإسلام، والمذهب هو الجعفري الاثنا عشري».
لكن الجمهورية الإسلامية الإيرانية هي مصالح إيران أولاً، الدولة والمجتمع والحضارة والتاريخ والدور، بغضّ النظر عن كونها إسلامية أو غير إسلامية. وهي، وهذا هو جديد الجمهورية الإسلامية، ملتزمة بمشروع إسلامي عالمي له التزاماته بغض النظر عن كونه مذهبياً، لكن المذهبية الشيعية تضيف أعباءً والتزامات أخرى على كاهل هذه الجمهورية.
هذا يعني أنّ الجمهورية الإسلامية ليست كلها إسلاماً وأدواراً والتزامات إسلامية، أو حتى طائفية شيعية، بل هي أولاً دولة إيران بمجتمعها وأصوله الاجتماعية التعددية التي تتكون من قوميات وأديان وطوائف متعددة، وبمصالحها القومية ومتطلبات الأمن القومي الإيراني.
الخليط بين المصالح القومية والاعتبارات الإسلامية قد يختلف من تيار سياسي إيراني إلى آخر، لكن، عموماً نحن أمام تجربة سياسية جديدة محاصرة بسبب خصوصيتها. ورغم ذلك استفادت من مصادرها واكتسبت قدرات مادية وعلمية وعسكرية ومكانة سياسية في العالم العربي وفي الأقاليم المجاورة وفي العالم. وبسبب هذا الخليط، انحازت إيران إلى الغزو الأميركي لكل من أفغانستان والعراق بسبب صراعات سياسية وطائفية مع نظام حكم طالبان وصراعات سياسية وعسكرية مع نظام صدام حسين. لم تؤكد إيران انحيازها للغزو الأميركي للعراق فقط، بل انحازت إلى السياسات الأميركية في هذا البلد. لكن الخلاف، ثم الصدام، أخذ يظهر بين إيران وأميركا في العراق بسبب تنامي التناقض في المصالح، بعدما أدركت واشنطن خطورة انحيازها المطلق للشيعة على حساب السنة.
تقع إيران أيضاً في ازدواجية المبادئ، بين الحرص على تأكيد دورها في الدفاع عن استقلالية الشعوب وحريّاتها، والتواصل مع القوى العالمية المناهضة للإمبريالية وفي مقدمتها دول اليسار اللاتيني الجديد، وبين تورطها في ممارسات من إرث الإمبراطورية الإيرانية الشاهنشاهية. ممارسات لا تخلو من الاستكبار الذي تزعم محاربته على نحو إصرارها على الاستمرار في احتلال جزر الإمارات الثلاث، والتعنت في رفض القبول بالتحكيم الدولي لحل النزاع حول هذه الجزر، والتلويح بين حين وآخر بتبعية البحرين للأراضي الإيرانية، فضلاً عن إدارة أزمة ملفها النووي بمعزل كامل عن التنسيق مع دول الجوار الإقليمي والخليجي بصفة خاصة، الأمر الذي رجّح إدراك بعض هذه الدول لإيران بما هي مصدر للتهديد. وبسبب كلّ هذه الممارسات، أضحت إيران متّهمة بأنّها «دولة مارقة» وداعمة للإرهاب من جانب الأميركيين والإسرائيليين. ولذلك، وضعت على رأس مجموعة دول «محور الشر» في المنطقة.
المشروع الإيراني المحاصر أميركياً وإسرائيلياً والمختلف حوله عربياً، يعاني داخلياً وإقليمياً. لكن رغم هذه المعاناة فإنّه يتقدم ويحقق نجاحات تحسب له في العراق ولبنان وعلى صعيد البرنامج النووي كما على صعيد تحالفاته الإقليمية، وخصوصاً مع سوريا وتركيا ومنظمات المقاومة. منظمات يرى ريتشارد هاس في دراسة بعنوان «الشرق الأوسط الجديد» أنّها سوف تقوم بأدوار مهمة في هذا النظام الذي لم يتكوّن بعد.

ثالثاً: العرب والموقف من إيران بوصفها مصدراً للتهديد

تمثّل إيران إشكالية شديدة التعقيد في الإدراك السياسي العربي، لأنّها بقدر ما يمكن التعامل معها على أنّها مصدر أكيد أو محتمل للتهديد بالنسبة إلى العرب، فإنّها أيضاً تبقى شريكاً إن لم تكن حليفاً ثقافياً وسياسياً بل وحضارياً. يعود ذلك إلى عاملين رئيسيين. يتعلق العامل الأول بخصوصية مسألة إدراك التهديد وتعقّد العوامل التي يمكن أن ينشأ معها الوعي أو الإدراك للتهديد. والعامل الثاني، يخص السياسة الإيرانية التي تميل إلى المزج بين ما يمكن عدّه تهديداً وما يمكن النظر إليه على أنّه سياسات تعاونية.
يمكن إرجاع العامل الأول إلى الأثر شديد الأهمية للتهديد، أو بمعنى أصح إدراك التهديد لناحية تحديد أنماط التفاعل بين الدول. وبناءً على هذا الإدراك تتحدد رؤية دولة لدولة أخرى وللعلاقات معها؛ هل هي صداقة أم عداوة أم تنافس؟ ويتوقف إدراك دولة ما للتهديد من دولة أخرى على عوامل كثيرة بعضها يخص الدولة المعنية ذاتها، منها نوع القيادات المسؤولة عن قرارات السياسة الخارجية والأمن الوطني، وثقافتها وخبراتها السابقة بسلوك الدولة الأخرى مصدر التهديد، وديموقراطية نظام الحكم، أو شموليته، وبالتحديد ما يتعلق بمدى شرعية الحكم وتداول السلطة، والحالة العامة للأوضاع السياسية داخل الدولة من ناحية الاستقرار أو عدم الاستقرار. كذلك تتوقف عملية إدراك التهديد أيضاً على عوامل كثيرة في الدولة مصدر التهديد وأنشطتها المختلفة، منها نوع الحكم في تلك الدولة ومدى تجانسه أو تعارضه مع نظام الحكم في الدولة المعنية المعرّضة للتهديد، ومدى قوة هذه الدولة وأنواع القوة التي تمتلكها: عسكرية أم اقتصادية أم ثقافية، وكيفية إدارتها لهذه القوة.
وبالنسبة إلى العامل الثاني الخاص بإيران، فإنّ سياستها الخارجية التي ترتكز على المصلحة الوطنية والأيديولوجية الإسلامية ضمن إطار من الإرث التاريخي الإمبراطوري وأفق من التطلع للقيام بدور الدولة الإقليمية المهيمنة، تجعل من الصعب التعامل مع طهران على أنها مصدر للتهديد بالمطلق أو النظر إليها بوصفها حليفاً بالمطلق.
لكلّ هذه الأسباب، بات مستبعداً الحديث عن إدراك عربي واحد لإيران وما تمثله بالنسبة إلى العرب والنظام العربي. بل أضحى ضرورياً الحديث عن إدراكات عربية متعددة لإيران. إدراكات ليست فقط متعددة بل متباينة وأحياناً متناقضة تمتد بين ما هو أقصى عداوة إلى ما هو أقصى صداقة.
هذه الإدراكات العربية المتعددة والمتباينة لإيران، لا تقتصر فقط على مستوى إدراك الدول العربية بل تمتد إلى النخب والرأي العام. ففي الوقت الذي ترى فيه حكومات عربية أنّ إيران مصدر للتهديد، ترى فيه نخب عربية أنّها دولة صديقة بل شقيقة للعرب، وقد تتنوع مواقف الرأي العام بين هذين الإدراكين. الأكثر من ذلك أن التعدد في الإدراكات يأخذ أحياناً تنوعاً في الإدراك الواحد، بمعنى أن دولة عربية قد ترى أنّ سياسة إيرانية ما تمثّل تهديداً فيما لا ترى في سياسة إيرانية أخرى تهديداً.
يعود هذا التعدد والتنوع في الإدراك العربي لإيران إلى أسباب أخرى كثيرة، منها واقع التقسيم والتجزئة في الوطن العربي الذي فرض وجود 22 دولة لكل منها مصالحها، وتحالفاتها وعلاقاتها مع ايران. هذا الانقسام حال دون وجود إدراك واحد للأمن القومي العربي ومصادر تهديده. من الأسباب أيضاً، اشتباك الجمهورية الإسلامية مع العرب بحزمة متنوعة من القضايا الخلافية التي تحول دون وجود إدراك محدد بعينه لإيران. كذلك تفاقم حالة الاستقطاب العربي بسبب التبعية العربية غير المسبوقة للولايات المتحدة، يساهم في الموضوع، في وقت تخوض فيه واشنطن صراعاً مريراً ضد إيران وتدفع الدول العربية إلى الدخول طرفاً أساسياً فيه.
لقد انخرطت دول عربية في التوجهات الأميركية (العداء لإيران) التي أخذت تتحوّل إلى سياسات لكن بدرجات مختلفة، فيما حرصت دول أخرى على أن تبقى متوازنة في علاقاتها مع إيران. بينما أكدت أطراف ثالثة تحالفها مع إيران، وهي الأطراف المتهمة بعضوية محور الشر مع طهران، ولا سيما سوريا وحزب الله وحركة حماس.
هذه المواقف الثلاثة هي أولاً تعبير عن درجة انخراط دول عربية في المشروع الأميركي الجديد في المنطقة. وهي، ثانياً، تقدم تصنيفاً دقيقاً لإدراكات الدول العربية لإيران بين موقف يراها مصدراً للتهديد وآخر يراها حليفاً استراتيجياً، أو على الأقل صديقاً يعتمد عليه، وموقف ثالث متوازن بين إدراكها عدواً أو مصدراً للتهديد، وإدراكها حليفاً أو صديقاً. ونستطيع أن نقول إنّ هذا الموقف الثالث يكاد يكون الموقف الأصدق في إدراكه لإيران، فهو يمثل القطاع الشعبي العريض ومواقف دول عربية ومؤسسات. لكنّه، وهذا هو الأهم، القاسم المشترك لكلّ المواقف العربية، بمعنى أنّ الدول العربية التي تدرك أنّ إيران مصدر للتهديد، لا تلجأ في العادة إلى تعميم هذا الإدراك بل ترى أنّ إيران مصدر للتهديد في قضايا معيّنة. أي أنّ الإدراك يتعلق بسياسات إيران إزاء قضايا معينة أكثر من كونه إدراكاً لإيران.
ستظل ايران تمثل إشكالية في الوعي والإدراك السياسي العربي إذا بقيت الأمور على ما هي عليه، أي إذا ما ظل الموقف العربي منقسماً داخلياً وخاضعاً لضغوط فرض الاستقطاب التي تقوم بها الولايات المتحدة. كذلك سيبقى الأمر على ما هو عليه إذا استمر الصدام الإيراني ـــــ الأميركي، وإذا بقيت إيران مترددة في توظيف تفوقها في القوة بنحو تكافلي في إدارة علاقاتها الإقليمية وخاصة مع الدول العربية الخليجية. وأيضاً إذا ما استمرت في حرصها على فرض نفوذها داخل العراق والانحياز لطرف عراقي دون الآخر. لكن، عموماً، المسؤولية تفرض الالتزام بثوابت حضارية واستراتيجية في التعامل العربي مع إيران بوصفها، مع تركيا، «الجوار الحضاري» للأمة العربية.
في النهاية، يبقى العرب أمام خيارين أساسيين. الأول تطوير مشروع تفاعلات يضم إيران وتركيا والعرب ضمن ما يعرف بـ«مثلث النهوض الحضاري الإسلامي». والثاني تطوير مشروع تفاعلات يضم إسرائيل وتركيا والعرب ضمن ما يعرف بـ«مثلث التبعية للمشروع الأميركي». وهنا تبدو الإشكالية الأكثر صعوبة وهي الانقسام العربي حول الخيارات والمصالح بين دول تفضّل التعاون مع إيران وأخرى متورطة بتعاون مع إسرائيل والولايات المتحدة. ويبقى الموقف العربي من تركيا غامضاً ومتردداً، وبحاجة إلى حسم لن نقدر عليه إلا بإعادة إحياء تلك الكتلة التاريخية التي منها يجب أن ينطلق العمل العربي الجاد لتحقيق المصالح والحفاظ على الأمن. فهي وحدها التي تستطيع أن تحسم توجهات الخيارات الاستراتيجية العربية وأن تعيد تفعيل النظام العربي ليصبح قادراً، عبر امتلاك مشروعه النهضوي، أن يفرض نفسه قوة فاعلة في إدارة شؤون الإقليم الأوسع. ويحصل ذلك عبر علاقة شراكة وتحالف مع المشروعين الإيراني والتركي. شراكة تقوم على أجندة مصالح مشتركة يمكن معها أن تعيد إحياء الحضارة العربية الإسلامية التي توارت وانزوت مع انزواء العرب قوة حضارية قادرة على الفعل والتأثير والقيادة.

* كاتب عربي