نظم «المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات» في 19 و20 الشهر الحالي أولى ندواته، تحت عنوان «إيران والعرب... مراجعة في التاريخ والسياسة». وركزت الندوة والمداخلات التي ألقيت في خلالها، على مناقشة الموضوع بطريقة علمية ومن منظور تاريخي فكري. كذلك ناقشت الندوة، التي أدارها الدكتور محجوب الزويري وشارك فيها نخبة من الباحثين والمفكرين العرب، سلسلة من المحاور المهمة عن دور التاريخ والجغرافيا والدين في العلاقة بين إيران والعرب وما تفرع عن هذه العلاقة من تفاصيل تتعلق بالمشرق العربي، والقضية الفلسطينية والمغرب العربي وإيران والبعد القومي العربي والبعد الدولي في العلاقة مع إيران

نحو رؤية استراتيجية



برهان غليون *
كما هي الحال في العديد من الأمور الأخرى، ما يميز الرأي العام العربي في العلاقة مع إيران الإسلامية، الرسمي والشعبي، هو الانقسام بين فريقين. ينظر الأول إلى إيران على أنّها الشيطان الأكبر الذي يهدد أمن بلدان منطقة الشرق الأوسط وأقطار العالم العربي خصوصاً، ويؤثر سلباً على مصالحهم. ويرى الثاني في إيران الثورة الإسلامية الحليف الأكبر للعرب اليوم في مواجهة التهديدات الأجنبية المتزايدة، وفي طليعتها التهديد الإسرائيلي المعزز من الولايات المتحدة الأميركية والغرب عموماً.
وللدلالة على هذين الرأيين وتأكيد صحتهما، يملك كل فريق منظومة كاملة من الأحداث والوقائع والحجج العقلية التي تسند أطروحته وتدعمها. فأصحاب الموقف الأول يشيرون اليوم إلى مجموعة من المخاطر المترابطة التي تمثلها إيران بالنسبة إلى العرب. أولها وأهمها تلك التي يحملها تسلح إيران أو احتمال تسلحها بالقنبلة النووية على أمن الدول العربية، وخاصة في الخليج الذي يقع على مقربة من إيران، سواء أكان ذلك نتيجة استخدام إيران السلاح في مواجهات محتملة مع الولايات المتحدة أو إسرائيل، أو نتيجة التلوث البيئي الذي يمكن أن ينجم عن عطب ما في التجهيزات الذرية كما حصل في السابق في بقاع أخرى من العالم. ومن هذه المخاطر أيضاً، بل التهديدات المباشرة والدائمة، التدخل الواسع لإيران في شؤون العالم العربي، وتسليحها وتمويلها ودعمها السياسي لمجموعات عديدة مسلحة، تستخدمها في تحقيق أغراضها القومية وزعزعة استقرار الدول العربية والتلاعب في داخلها وتأليب جماعات فيها على الجماعات الأخرى. وهم يشيرون لتأكيد ذلك إلى دور إيران وسياستها في العراق، حيث لها دور نشيط وفاعل في دعم الأحزاب والتكتلات السياسية القريبة منهم، ودعم أنصارهم بل التدخل بحرس الثورة أنفسهم في البلاد. ويشيرون إلى ما تقدمه إيران لحزب الله في لبنان ولحماس في فلسطين وللحوثيين في اليمن. ما يكشف عن مشاريع حروب ونزاعات داخلية معلنة تقع ضحيتها الأقطار العربية.
ومن هذه المخاطر ما يتخذ سمة دينية؛ إذ يركز البعض على الدور الذي أدته إيران ولا تزال تؤديه في تعبئة المشاعر الطائفية وفتح باب النزاع بين أصحاب المذاهب الإسلامية السنية والشيعية. وتتهم إيران باتباع سياسة تشييع رسمي ومنظم مدعم بالأموال والخبراء والمرشدين الروحيين في العديد من البلدان العربية، ما أثار حفيظة العديد من رجال الدين السُّنة النافذين، وعلى رأسهم الشيح يوسف القرضاوي، ودفع بعض الحكومات إلى قطع تقييد النشاطات الشيعية أو حتى قطع العلاقات مع إيران.
لكن بعكس ما توحي به المظاهر، لم يرتبط الشعور بالتهديد الإيراني في الأقطار العربية بسعي طهران إلى الحصول على التقنية النووية أو بالخوف من احتمال حصولها على التقنية النووية العسكرية. لقد برز قبل ذلك بكثير، مع اندلاع الثورة الإسلامية وما نجم عنها من تبني إيران سياسة الصراع مع نفوذ الولايات المتحدة والغرب عموماً في المنطقة المشرقية، وتزعمها في هذا السياق نفسه حركات الاحتجاج والتمرد السياسية المتوشحة بالإسلام أو التي تبني شرعيتها عليه. وما يعنيه هذا من انتزاعها الشرعية الرمزية للثورة على الأوضاع القائمة التي يربط الرأي العام العربي بينها وبين الخضوع للغرب أو التبعية له، من النظم العربية، وتمكنها من الضغط من خلال الأحزاب والحركات الإسلامية على الدول العربية، وربما تهديدها. وهذا الإدراك للخطر السياسي المباشر الناجم عن بناء جمهورية إيران الجديدة على أسس الشرعية الإسلامية، وتماهيها المحتمل مع حركات المعارضة العربية الآخذة طابعاً إسلامياً، هو الذي يقف وراء اندلاع الحرب العراقية ـــــ الإيرانية التي أخفت في الواقع العميق حرباً إيرانية ـــــ عربية بالوكالة. وفي سياق هذه الحرب، ظهر اسم العراق بوابةً للعالم العربي، ينبغي الحفاظ عليها وتدعيمها في وجه المد الإيراني المنتظر.
ومما عزز من هذا الشعور استمرار النظام الإيراني الجديد باحتلال الجزر الإماراتية الثلاث ورفضه عروض الحوار والتفاوض بشأنها، وحرص إيران على تعزيز نفوذها الثقافي والديني في العالم العربي وتمويلها على نحو مباشر أو غير مباشر جماعات عربية معارضة أو في صراع مع الحكومات القائمة، ما يمكن تفسيره من هذه الحكومات بأنّه تدخل مستمر في الشؤون الداخلية وتشجيع على زعزعة الاستقرار وتهديد وحدة المجتمعات العربية الدينية والمذهبية.
فملخص السياسة الإيرانية للجمهورية الإسلامية لا يتعدى أن يكون توسيع دائرة نفوذ طهران في المنطقة واختراقها الدول العربية وسعيها إلى الحصول على أدوات تستخدمها لتحقيق هذا النفوذ وتوسيعه، أملاً في استخدامه لتحقيق مصالحها القومية الخاصة. وفي مقدمة هذه المصالح اليوم انتزاع الاعتراف من التكتل الغربي المسيطر على النظام الدولي بدورها الإقليمي الرئيسي والقائد، ومشروعية برنامج التخصيب النووي والسيطرة على التقنية النووية الذي أنجزت خطوات واسعة فيه. وليس استخدامها للإسلام ودعم القضايا العربية المشروعة، وفي مقدمها قضية فلسطين، سوى وسيلة لتحقيق هذه المصالح وإضفاء الشرعية عليها.
في المقابل يعتقد أصحاب الموقف الثاني المناقض أنّ إيران الجمهورية الإسلامية هدية أرسلها الله للعرب للوقوف معهم في محنتهم التاريخية، التي تتجسد في تسلط قوى إسرائيل والولايات المتحدة عليهم، وتقهقر قياداتهم وتراجعها عن سياساتها الوطنية. وهي من أهم مصادر القوة التي أمكن أن يستند إليها العرب اليوم في استمرار مواجهتهم لإسرائيل والمشاريع العدوانية الأمريكية والغربية. ويظهر موقف إيران الجديدة من الغرب في نظر هؤلاء كما لو كان تجديداً واستمراراً معاً للموقف العربي التاريخي النازع للاستقلال الناجز عن الغرب ومقاومة مشاريعه الاستعمارية في المنطقة منذ عقود طويلة، الذي تراجع كثيراً بعد انهيار الحركة القومية وغياب القيادة الناصرية. وفي هذه الحالة لا يمثل تشجيع الجماعات العربية وتقديم السلاح لها من إيران تدخلاً في الشؤون الداخلية وانتهاكاً لسيادة الدول العربية كما يقول الفريق الأول، لكن بالعكس يشير إلى تعزيز المقاومة ويقدم خدمة كبرى للمصالح القومية العربية في مواجهة مشاريع التسليم والاستسلام والقبول بالقسمة الصهيونية. ويمكن القول إنّه باستثناء النظام السوري الذي يقيم تحالفاً استراتيجياً مع إيران الإسلامية منذ أكثر من ثلاثة عقود، لا يكاد الموقف الإيجابي من إيران يضم سوى مجموعات مختلفة من النخب السياسية المعارضة الإسلاموية والقومية واليسارية، وقطاعات واسعة من الرأي العام الشعبي.
يعكس هذا التناقض في المواقف درجة الاستقطاب في المجتمعات العربية نفسها بشأن محاور السياسة الخارجية والداخلية. ويعكس الانقسام القائم داخلها في الموقف من الخيارات الاستراتيجية الرئيسية والإدراك المتناقض أيضاً لحقيقة التهديدات القائمة والمحتملة بين الحكومات وقواعدها الاجتماعية من جهة والجزء الأكبر من الرأي العام الشعبي من جهة ثانية.
الرؤيتان في نظري قاصرتان لأنّهما اجتزائيتين، لا تطرحان موضوع السياسة الإيرانية أو خياراتها الاستراتيجية وآثارها الإقليمية بجميع جوانبه وبصورة موضوعية، بل تنظران إلى السياسات الإيرانية في ضوء صراعاتهم الخاصة. وهذا أمر طبيعي بالنسبة إلى الفاعلين السياسيين المنخرطين في النزاع، الذين لا يرون الخيارات الاستراتيجية للفاعلين الآخرين ويقدرون نتائجها إلا من منظورهم الخاص المرتبط بموقفهم ومكانهم في الصراع الدائر ورهاناتهم الخاصة أيضاً. فليس من الممكن لمن يتحالف مع إيران أو يراهن على التحالف معها في سبيل مواجهة إسرائيل أن يرى التهديدات المرتبطة بالخيارات الاستراتيجية الإيرانية ذاتها التي يراها من يجد نفسه، ضمن التحالفات والنزاعات المحلية والإقليمية، في الطرف الآخر من الصراع. ما يعني أنّ إدراك التهديدات لا يمكن أن ينفصل عن الموقع الذي يحتله الفاعل الدولي من جهة. وفي النهاية لا يمكن الفصل بين إدراك التهديدات والخيارات الاستراتيجية الخاصة بالفاعل ذاته.
والقصد أنّ الانطباعات السائدة عن حجم التهديدات التي تمثلها الخيارات الاستراتيجية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في العالم العربي تختلف من فاعل لآخر، بين الدول العربية وداخل الدول أيضاً بين الفاعلين الاجتماعيين. فهي ثمرة تركيبات إيديولوجية ضرورية لخوض الصراع الذي يسود في المنطقة المشرقية بأكملها في سياق الأزمة الشاملة التي تشهدها ومحاولات الأطراف إعادة بناء نظمها الوطنية والإقليمية على أسس جديدة ومن منظور المصالح الاستراتيجية الجاصة أيضاً. وهي ليست قائمة على تحليلات علمية وموضوعية لتقدير حجم التهديدات بمقدار ما هي تعبير عن هموم سياسية خاصة باستقرار كل من الفاعلين أو تعزيز مواقفهم. فتقدير المخاطر لا ينبع هنا من تحليل استراتيجي، بل يمثّل جزءاً لا يتجزأ من الموقف السياسي، ويعبر عن الطريقة التي يسعى كلّ طرف من خلالها إلى استغلال الخيارات الاستراتيجية الإيرانية، حسب رؤيته وأهدافه وحاجاته، لتعزيز موقفه في هذا الصراع الدائر. صراع ليس على تحديد طبيعة العلاقات ونوعية التوازنات التي ستقوم في الإقليم فحسب، بل على الصعيد الدولي وداخل المجتمعات العربية ذاتها. وبهذا المعنى لا يمثّل الموقف من إيران الإسلامية سوى كاشف إضافي، ومبلور قوي للانقسام العربي العميق والمتنامي في خصوص تقرير الاختيارات الاستراتيجية، الوطنية والسياسية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات العربية ذاتها. وهذا يعني أنّنا نحن العرب، لا نرى إيران إلا من خلال صراعاتنا الداخلية، ولا نأخذ منها أو نرفض منها سوى ما نعتقد أنّه مفيد لنا في هذه الصراعات أو مضر بها.
ومن الطبيعي ألا يكون أثر هذه الرؤية السياسية، بل السياسوية، التجزيئية والهادفة إلى سياسات إيران، تهديداتها وفوائدها، سوى تعزيز الانقسام العربي وتفاقم التوترات التي يعيشها العالم العربي في ميدان نشاطه المختلفة، السياسية والاقتصادية والاستراتيجية والدينية والمذهبية. وبالتالي إلى المزيد من الإضعاف للموقف العربي العام، أو للأمن العربي أيضاً، بدل أن تُسهم خيارات إيران الاستراتيجية، وتبدل دورها الإقليمي ربما من النقيض إلى النقيض، في تحسين الموقف العربي في النزاعات التي يخوضها العرب مع إسرائيل وقوى الهيمنة الدولية في الشرق الأوسط.
فكما تمنعنا النظرة التي تشيطن إيران الإسلامية من الاستفادة من نتائج انقلاب السياسة الإيرانية الشاهنشاهية لغير مصلحة أعدائنا، أي من استغلال تناقض إيران مع الغرب في تحسين شروط مواجهتنا للتهديدات الإسرائيلية، تحرمنا النظرة الدعائية التي تزين سياسات إيران وتطهرها من الأغراض القومية الإيرانية، من التعامل العقلاني والراشد مع التحولات الإقليمية، أي من إدراك أهمية العمل على بلورة اجندة أمنية وسياسية عربية مستقلة تعزز وحدة العالم العربي وقدراته المقاومية.
بل إنّني أذهب أبعد من ذلك للقول بأنّ نظرة الشيطنة لإيران لا ترى التهديدات التي يمكن أن تصدر عن إيران الإسلامية حيث هي موجودة بالفعل. تماماً كما النظرة الدعائية والإعجابية بسياسات إيران لا ترى المنافع والمكاسب التي يمكن أن تعزز الأجندة العربية الأمنية والاستراتيجية حيث هي موجودة بالفعل أيضاً.
وإذا أردنا أن نتجاوز النظرة الجزئية لإيران، من حيث مصدر التهديدات الأكبر بالنسبة إلى بعضنا ومصدر الدعم الأخلص للمقاومة العربية لإسرائيل وحماتها بالنسبة إلى البعض الآخر، وبالتالي بناء رؤية علمية لدور إيران الإسلامية في المنطقة الشرق أوسطية، ومن وجهة المصالح العربية عموماً، ينبغي لنا أن نتجاوز النظرات الجزئية المرتبطة بالرهانات الخاصة. ويجب أن نرى إيران من منظور التغيير الذي أحدثته أو تحدثه تحولاتها الداخلية في البيئة الإقليمية، وما جره ذلك من تغيرات سلبية وإيجابية. وهذا بصرف النظر عن إرادة طهران نفسها أو ماذا تريده ولا تريده من البلدان العربية والحركات التي تدعمها في هذه البلدان. وإذا أردنا أن ندقق في علاقاتنا مع إيران، علينا قبل كل شيء آخر أن ننظر إلى إيران بوصفها قوة إقليمية صاعدة، وأن نرى في سياساتها وخياراتها الاستراتيجية تعبيراً عن مصالح قومية قبل أي شيء آخر. وهذا هو مبدأ تحليل أي سياسة قطرية. إيران ليست جمعية خيرية تعمل لمصلحة العرب والفلسطينيين واللبنانيين. وهي ليست دولة استعمارية، تحركها الأطماع المادية والوقتية، وليست قادرة على النظر العقلاني في علاقاتها الحاضرة والطويلة المدى مع إقليمها وجوارها، وتقدير ما يمكن أن تكسبه وما يمكن أن تخسره من تجاوزها حدود منطق العلاقات الدولية.
في هذه الحالة لن يكون السؤال في تحليل العلاقات العربية الإيرانية: هل تتفق مصالح إيران مع مصالح العرب القومية أم لا تتفق؟ بل، أين تتقاطع المصالح القومية الإيرانية مع المصالح القومية العربية، وأين تبتعد عنها؟ وهو مقدمة لسؤال أهم، إذا كنا نريد فعلاً خدمة المصالح القومية العربية، هو: كيف يمكن التقريب بينهما، أي كيف نجعل العلاقة مع إيران علاقة إيجابية تفيدنا في تحقيق مصالحنا الوطنية؟ الهدف من التحليل ليس معرفة حسن سياسة إيران أو سوئها، لكن بناء سياسة عربية حسنة وناجعة انطلاقاً من تحليل علاقات القوى الإقليمية والتهديدات التي يمثّلها التنافس الدولي أيضاً على السيطرة على الإقليم أو اقتسام المصالح والنفوذ فيه. فالسياسة ليست إدانة وشجباً أو تأييداً وتصديقاً، بل خلق، أي تغيير لطبيعة العلاقات القائمة وتحويلها من علاقات سلبية إلى علاقات إيجابية تخدم الأهداف التي نسعى إلى تحقيقها. وينبغي أن يكون غرضها دائماً خلق مصالح مشتركة بين الشعوب، والعمل على إزالة كل ما يدفع إلى الصدام في ما بينها أو تحييد بعضها للبعض الآخر.
في هذه الحالة لن نرى في إيران تهديدات فحسب، ولا مكاسب استراتيجية أو سياسية قائمة أو محتملة فحسب أيضاً، بل سننظر إليها، وإلى صعودها في الإقليم كتحدٍّ حامل لمكاسب سياسية واستراتيجية، وفي الوقت نفسه لتهديدات ومخاطر فعلية. وعلينا، لا على إيران تقع مهمة التقليل ما أمكن من الآثار السلبية لصعود طهران والزيادة ما أمكن أيضاً من فوائده على قضايانا ومصالحنا العربية، وهو ما يمثّل معنى ببلورتنا لسياسة عربية تجاه إيران أو من إيران. وهو ما لا نملكه بعد، وما لا يزال يجعل منا مؤيدين أو منددين بالخيارات الاستراتيجية الإيرانية فحسب.

* مفكر سوري

العلاقات الدولية والإقليمية لطهران وتأثير اتها على الأمن القومي العربي



نيفين مسعد *
حدّد القائمون على ندوة «إيران والعرب» مهمات الباحثين المشاركين في المحور الذي يحمل عنوان «الأمن القومي العربي والبعد الدولي في العلاقة مع إيران»، بدراسة نقطتين اثنتين، هما: ما إذا كان ثمة تهديد من إيران للأمن القومي العربي، وما هي أدوار القوى الدولية الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا والصين والقوى الإقليمية كتركيا والهند وتأثيراتها على علاقة العرب بإيران. ومع أنّ القراءة الأولى لمضمون هذا المحور تشير إلى موضوعين مختلفين، هما تهديد إيران للأمن القومي العربي، وعلاقات إيران الدولية والإقليمية وتأثيراتها على علاقاتها العربية، ثمّة ترابط وثيق بين الموضوعين. ذلك أنّ ما قد ينشأ من تنسيق بين إيران والقوى المذكورة قد يأتي في جانب منه على حساب المصالح العربية. والأمر نفسه يصح، وبنحو أوضح، إذا وقع صدام بين إيران وواحدة أو أكثر من تلك القوى في ظل ما هو معلوم من عوامل الجوار الجغرافي والتشابك التاريخي والديموغرافي مع العرب، فضلاً عن عامل التمدّد السياسي والأمني والاقتصادي لإيران في عدد من الدول العربية. هذه واحدة.
النقطة الأخرى أنّ المتغير الإسرائيلي هو متغير حاكم لتطور علاقة إيران بالقوى الدولية والإقليمية المذكورة، وبالتالي بعلاقاتها العربية. لذلك فإنّه، أي المتغير الإسرائيلي، وإن لم يظهر في تحديد أبعاد هذا المحور من محاور الندوة، إلا أنّ من المفهوم أنّ قضية محورية مثل قضية تسلح إيران بمساعدة روسيا والصين وكوريا الشمالية، أو تطوير البرنامج النووي الإيراني بمساعدة روسيا تتأثر إلى حدّ بعيد بالضغوط التي تمارسها إسرائيل مباشرة وعبر الولايات المتحدة. وهذا بدوره يتحكم في توازن القوى في الشرق الأوسط وفي قضايا ضبط التسلح (أو التسابق عليه) لدول المنطقة.
وفي ضوء الفهم السابق لمضمون هذا المحور البحثي من محاور الندوة، يمكن تقسيم الورقة إلى قسمين رئيسين على النحو الآتي:
أولاً: تفاعلات إيران الدوليّة والإقليميّة
في الخطة العشرينية التي ارتبطت بوصول الرئيس محمود أحمدي نجاد للسلطة، التي استهدفت أن تكون إيران بحلول عام 2025 «في المركز الأول اقتصادياً وعلمياً وتقنياً على الصعيد الإقليمي»، حُدّد مفهوم هذا الإقليم بأنّه منطقة جنوب غرب آسيا التي تشمل كلّاً من آسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط ودول الجوار. وعندما ناقشَت مقالة نشرتها صحيفة «كيهان»، الناطقة باسم مرشد الثورة الإيرانية، الخطة المذكورة، أشارت إلى أنّ الأولوية الأولى لإيران في تلك المنطقة هي للخليج (الذي وصفته بالفارسي) لأسباب تتعلق بالنفط وبالموقع الاستراتيجي، وبأنّ أغلبية سكان الدول المطلّة عليه تتحدث بالفارسية وتدين بالمذهبية الشيعية. ورأت أنّ هذا الأمر من شأنه «أن يعمّق من نفوذ إيران في المنطقة»، وخصوصاً أنّ «نجاح نموذج الديموقراطية الدينية بوصفه نموذجاً محليّاً ودينيّاً في العراق سيكون مبشراً بنفوذ معنوي متزايد لإيران في هذا النظام».
أما في ما يخص الشرق الأوسط (الذي وصفته المقالة بالعربي) فقد جعلته يأتي في الأولوية الثالثة في إطار منطقة جنوب غرب آسيا بسبب السياسة التوسعية الصهيونية وتهديد مصالح إيران، وذلك بسبب «الحزام الذهبي لإيران والعراق وسوريا ولبنان، وهو في الواقع نوع من الائتلاف المذهبي السياسي والاقتصادي والاستراتيجي»، ولأنّ دعم إيران للبنان وفلسطين يزيد من نفوذ إيران في المنطقة، وأخيراً لأنّ قضايا الإرهاب والتسلح أدّت إلى احتدام التنافس الإقليمي.
مثل هذا التفوق المطلوب لإيران بعد خمسة عشر عاماً من الآن حسب الوثيقة، والمؤسس على قاعدة قومية مذهبية وفق مقالة كيهان، يعني أن تشتبك إيران مع الوطن العربي عبر دائرتين أساسيتين: دائرة الخليج، ودائرة الشرق الأوسط. لكن الدائرتين المذكورتين تتقاطعان مع دوائر أخرى أوسع، وتستدعيان من أجل التأثير فيهما دخول إيران في شبكة من العلاقات متفاوتة الأهمية والقوة، الأمر الذي يسمح بتسجيل مجموعة الملاحظات الآتية:
1 ـــــ تمثّل الولايات المتحدة المتغير الرئيس المؤثر في علاقة إيران بعديد من القوى الدولية كالصين وروسيا، والإقليمية كالهند وتركيا وأفغانستان وباكستان وجمهوريات وسط آسيا.
2 ـــــ هناك توظيف متبادل في ما يخص القضية الإيرانية بين الولايات المتحدة والقوى الإقليمية والدولية المشار إليها. وهذا التوظيف يتمثّل في استغلال الولايات المتحدة بعض عناصر التناقض في مصالح إيران مع مصالح بعض تلك القوى بهدف استنفار الأخيرة ضد الجمهورية الإسلامية. وعلى الجانب الآخر فإنّ القوى المذكورة لا تتورع عن اتخاذ مواقف تتميز بدرجة معيّنة من الاستقلالية حيال إيران للضغط على الولايات المتحدة في ساحات أخرى وقضايا مختلفة.
في إطار مثل هذا التوظيف المتبادل، يمكن أن نفهم ما يبدو لغير المتعمق من تناقض في السياسة الروسية تجاه قضايا الملفّ النووي الإيراني وتسليم صفقات الأسلحة المتعاقد عليها لإيران والدور الإيراني في وسط آسيا، وقريب من ذلك تفاوت موقف الصين ما بين الإقرار بحق إيران في الطاقة النووية السلمية وبين تصويتها بالإيجاب على حزَم العقوبات المتتالية. كذلك نفهم حاجة دولة مثل الهند إلى الانفتاح على إيران لضبط نشاط القاعدة في أفغانستان وباكستان، وخشيتها في الوقت نفسه من أن يضعها سلاح نووي إيراني في المستقبل بين شقّي رحى بينما تتنامى فيه التوترات بين الهندوس والمسلمين. ونفهم كيف يمكن دولة مثل تركيا أن تؤدي دوراً أساسياً في التوصل إلى اتفاق مع إيران والبرازيل على تخصيب اليورانيوم في شهر أيار / مايو الماضي ثم بعد ستة أشهر من هذا التاريخ تقبل نشر الدرع الصاروخية على أرضها اتقاءً لأي هجوم صاروخي من أي مصدر كان، بما في ذلك إسرائيل.
3 ـــــ على الرغم مما يبدو من أنّ الملف النووي الإيراني هو جوهر التفاعل بين الجمهورية الإسلامية والولايات المتحدة بحيث تتدخل للتأثير فيه لدى قوى عديدة، فإنّ هذا الاستنتاج السابق لا يقدّم إلا تفسيراً جزئياً للواقع. أما الجزء الآخر من التفسير فهو يرتبط بالتوجهات الخارجية للنظام الإيراني حيال بعض القضايا بالغة الأهمية بالنسبة إلى الولايات المتحدة ومنها: القضية العراقية، الموقف من حركات المقاومة الإسلامية لإسرائيل، السياسة الإيرانية حيال التطورات على الساحتين الأفغانية والباكستانية.
لقد قبلت الولايات المتحدة أن يشرع نظام الشاه في بناء مفاعل بوشهر النووي لأنّه كان يؤدي وظيفة شرطي الخليج. كما أنّها بالطبع تحرص على تكريس التفوّق النووي الإسرائيلي لردع النظم «المارقة» على مستوى الشرق الأوسط، وتغضّ الطرف ولو على مضض عن القوة النووية للهند وبدرجة أقل لباكستان. وفي كلّ تلك الحالات لم تُرفع شعارات تحذّر من سباق التسلح، أو من احتمال وصول قوى الأصولية الإسلامية المتشددة إلى السلاح النووي. لكن عندما شرعت الجمهورية الإسلامية في استئناف العمل في بناء مفاعل بوشهر النووي مع ما هو معلوم من التناقض الذي نشأ بعد الثورة بين المصالح الإيرانية والمصالح الأميركية، آن لهذه الشعارات أن تخرج إلى العلن.
4 ـــــ الملاحظة الأخيرة في القسم الأول من الورقة تتصل بأنّه من غير الصواب افتراض، رغم كل ما قيل عن محورية الدور الأميركي في التأثير السلبي على علاقات إيران الإقليمية والدولية، وجود عداء أبدي بين الطرفين الأميركي والإيراني. المتابع لتطور العلاقات الأميركية ـــــ الإيرانية يجد أنّها مرّت بعدة مراحل منذ عام 1979. انتقلت السياسة الأميركية على سبيل المثال منذ مطلع التسعينيات إزاء إيران من الاحتواء المزدوج لها ولكوريا الشمالية والعراق، إلى محاولة إسقاط النظام على غرار ما حدث فى العراق، إلى إشراك إيران جزئياً في التعامل مع قضايا المنطقة وبالذات القضيتين العراقية والأفغانية، إلى الجمع بين أكثر من بديل من البدائل السياسية السابقة. ومعلوم أنّه في أثناء حرب الخليج الأولى كانت الولايات المتحدة وسيطاً في صفقة سلاح لإيران، كما أنّ دخولها الحرب ضدها برفع الأعلام على السفن الكويتية كان بداية النهاية لتغيير مسار المعارك الحربية لغير صالح إيران.
ثانياً: أثر تفاعلات إيران الدوليّة والإقليميّة على الأمن القوميّ العربي
يكشف العرض السابق أنّ النظام العربي يمثّل ساحة أساسية من ساحات التجاذب بين إيران والقوى الدولية والإقليميّة المختلفة. وهو ما لفتت إليه النظر المقالة المشار إليها فى صحيفة كيهان وما يشهد به واقع الحال. وفي هذا الخصوص يمكن تسجيل مجموعة من الملاحظات:
1 ـــــ هناك مجموعة كبيرة من التطورات التي ألمّت بالنظام العربي وأدّت إلى سهولة اختراقه من الخارج. أبرزها حرب الخليج الأولى وتوزع الدول العربية فيها ما بين تأييد إيران ودعم العراق، واحتلال الكويت بما أدى إليه من تكثيف الوجود الأجنبي العسكري في الخليج وإخراج العراق من معادلة القوة في حدود الأمد المنظور. إلى جانب ذلك، احتلال العراق وما أدى إليه من استباحته هو سيادته وتحويله إلى ميدان للتنافس الأميركي ـــــ الإيراني، وعجز النظام العربي عن إدارة الصراع مع إسرائيل وعن رأب الصدع بين كل من السلطة الوطنية وحركة حماس، الأمر الذي لم يسمح فقط لأطراف إقليمية كتركيا وإيران بالدخول على الخط، بل أيضاً بتكوين جبهة منهما تنضم إليها قوى دولية تحررية تقع في قلب القارة الأميركية نفسها كما هو الحال مع فنزويلا على سبيل المثال.
2 ـــــ أنتج هذا الاختراق سلسلة من التفاهمات والمصادمات بين مصالح إيران والقوى الإقليمية والدولية أثّر بعضها على الأمن القومي العربي، وبعضها لا يزال أثره قيد التشكيل والتكوين. ومن قبيل ذلك التنسيق الأميركي ـــــ الإيراني في احتلال العراق وإطاحة نظام صدام حسين، وفي دفع العملية السياسية. ومن آخر تجليّاتها الاتفاق على شخص نوري المالكي رئيساً للوزراء مع أنّ إياد علاوي، إضافة إلى كونه صاحب أكبر عدد من أصوات الناخبين، له طرح وطني يسمو على الطائفية رغم علاقاته الوثيقة بالولايات المتحدة.
ومثلما يأتي التنسيق الأميركي ـــــ الإيراني في العراق على حساب سيادته ووحدته، فإنّ صراع الطرفين يأتي على حساب استقراره. وفي هذا الإطار يشار إلى دور إيران في دمج الميليشيات المسلّحة في قوى الأمن وضلوع تلك الميليشيات في العديد من أعمال العنف بهدف رفع تكلفة الوجود العسكري الأميركي، علماً بأنّ أكثر تلك الأعمال يتخذ طابعاً عشوائياً وطائفياً. كذلك استهداف إيران بضربة عسكرية إسرائيلية لا يؤدي بالقطع إلى رد فعل إيراني عنيف في العراق وفي ساحات أخرى.
وثمة مثال آخر يتصل بالعلاقة الإيرانية ـــــ التركية وأثرها على الأمن القومي العربي. فالتشعب والتطور في أبعاد تلك العلاقة لا يحجبان التناقض القائم بين مصالحهما في ما يتصل بالملفات العربية. تركيا مثلاً، تؤيد نهج التفاوض مع إسرائيل وتحتفظ بعلاقة مع كل من السلطة الوطنية وحركة المقاومة الإسلامية، فيما ترفض إيران نهج التسوية. كما أنّ إيران تركّز في إدارة الملف اللبناني على قوى الثامن من آذار، فيما تنفتح تركيا على قوى الثامن والرابع عشر من آذار. وبينما تعمد إيران إلى إضعاف المكوّن العربي للهوية العراقية من خلال دعم تحالف شيعي ـــــ كردي مؤيد لها، لا تمثل عروبة العراق تحدياً لتركيا. وفي كلّ الأحوال فإنّ هذا يؤدي إلى قسمة العرب إلى موقفين أحدهما أقرب للموقف التركي والآخر أقرب للموقف الإيراني.
وهكذا، في غياب الإرادة والفعل العربيين، سوف يظل التنسيق بين إيران والقوى ذات الصلة، وكذلك خلافها معهم، عاملاً من عوامل تهديد الأمن القومي العربي وعلى حساب المصالح العربية.
3 ـــــ تقود الملاحظة السابقة إلى ضرورة أن ينشأ حوار بين العرب للاتفاق على مجموعة من المبادئ الرئيسة التي يستند إليها مفهوم الأمن القومي العربي، والتي من المهم أن تكون حاضرة في علاقتهم مع إيران وغيرها من القوى الإقليمية والدولية، ومحددة لمسار تلك العلاقة وتطورها.
ومن المنتظر أن يكون ردّ الفعل الفوري على هذا الطلب هو الإشارة إلى صعوبة التنسيق بين الدول العربية، وتعذّر اتفاقها على أسس الأمن القومي العربي. ولا أحد ينكر هذه الصعوبة، لكنّ الحوار العربي ـــــ العربي لم يعد رفاهية بعد الانفصال المنتظر لجنوب السودان، وتشديد رئيس إقليم كردستان على حقّ الأكراد فى تقرير مصيرهم، وشبح الحرب الأهلية المخيم على لبنان، ونذر انفلات العنف في اليمن، والتطورات المتعلقة بقضية الصحراء الغربية، وغموض مستقبل النظام في مصر. ففي مواجهة تحديات بهذا الحجم لا بد من تفعيل مبدأ تجميد التناقضات الثانوية للتفرغ إلى إدارة التناقض الرئيس.
4 ـــــ لقد سبق للأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى أن اقترح في قمة سرت العادية في آذار / مارس 2010 رابطة لدول الجوار العربية تبدأ بتركيا وتشاد، وتُخضع ضم إيران للتشاور وترفض إدماج إسرائيل. وقد نوقشت الفكرة في قمة سرت الاستثنائية في تشرين الأول / أكتوبر 2010 من دون التوصل إلى حل. لكن هذه الفكرة لا تزال تحتاج إلى مزيد من البحث والتطوير والإنضاج، وتحتاج إلى التمهيد بتنقية الأجواء العربية والوعي بأنّ عامل الزمن يعمل ضد مصلحة الدولة القطرية نفسها، دع عنك مسألة المصلحة العربية ككل.

* كاتبة مصرية