تزورنا سهى بشارة مع كتابها الجديد، «أحلم بزنزانة من كرز»، الصادر عن «دار الساقي» كأنّنا أسرى. فكلماتها التي تحاول التقاط أيام الأسر (1988 ـــــ 1998) وتفاصيلها وعاداتها ووجوهها وأسمائها، طالعة من نفسٍ حرّة متصالحة مع تجربتها وواقعها. هكذا، تقدّم سهى كتاباً لا ليُقرأ وحسب، ولا لتُحَبّ نصوصه الحرّة وحسب، ولا لتَروي هي ما حصل معها ومع رفيقاتها وكيف كنَّ يعشن ويتحدّينَ بصمتٍ السجنَ والسجّانَ والعزلَ والمللْ، كأنّها تقدّم إلينا اقتراحاً كيف هو العيش في السجن، أو بالأحرى، كيف هي الأشياء الصغيرة والتفاصيل البسيطة والاختراعات السريّة الأوليّة، التي تعيد الإنسان إلى إنسانيته وتجعله حرّاً حتى ولو في السجن. شعرت وأنا أقرأ تلك العبارات الرشيقة المكتوبة كمَن يقفز فوق الصخور عابراً النهر، وأنا أحتفي مع الصور بمشغولات سهى ورفيقاتها، بأنّ سهى تفتح أمامنا ألبوم حياة نخسرها ونهملها. لا تتحسّر مطلقاً على السجن ولا على عمر مضى، هي حرّة وقد بات الزمن بالنسبة إليها غير ما هو بالنسبة إلينا، نحن المشغولين بأمورٍ أخرى خارج السجن الذي تحكي عنه.تطلّ علينا سهى، بابتسامتها المعهودة، الطيّبة البريئة، كأنْ لتهزأ بما نعيشه. تقول إنّ لديها حياةً وقد استعادتها بعيداً منّا، لأنّها سعت إلى ذلك ولأنّنا ابتعدنا كثيراً عن حياتنا. تضعنا، عبر كتابها، إزاء حياتنا. لعلّها لا تقصد ذلك، هي «تضيّفنا» حياتها وأسماء رفيقاتها المعتقلات وأشياءهنّ الصغيرة. وبؤس حياتنا هو ما يقيم تلك المسافة بين ما نحياه وما هي الحياة... حتى في السجن. وأجمل ما في الكتاب أنه لا يدّعي النضال السياسي. ثمّة نضالٌ إنسانيّ صحيح، وعلّته سهى ورفيقاتها المعتقلات. سهى ورفيقاتها لكونهنّ نساءً جعلنَ المعتقل مكاناً لبدء الحياة، أو لعودة الحياة إلى أوّليّتها، إلى بدايتها. فالرجال، أو الذكور، يأخذون المعتقل إلى السياسة أو إلى قيمها وأيديولوجيّاتها. وها هو الكتاب يبوح بالفرق، لا مديحَ فيه للمعتقل ولا للبطولة، ولا ذكر للسياسة كممارسة أو «فنّ»، وقد اشتغلته سهى بحرية وتواضع وأناقة. وتجدها تحكي الأشياء كما هي، من دون تفسير أو ادعاء، تارةً تروي وأخرى تستسلم للشِعر والرومنسيّة التي تجعلها تحلم بزنزانة من كرز، كأنّ الكرز يحيل الزنزانة شيئاً آخر غير ما هي حقيقةً. كلمات عارية، عادية، تقطف المعنى واللحظة وتقدّمها من دون أيّ سعي إلى أسطرةِ تلك الحياة أو تغليفها حتى بالأدب. فنصوص الكتاب ومشغولاته مخلصة لتلك الحياة التي تستعيدها أو تصوغها سهى ورفيقاتها. وهي حياةٌ بدائيّة مشدودة إلى الخارج بهمومه الشخصيّة والإنسانيّة. والرحلة مع سهى هي دخول إلى حياةِ المعتقلات ويومياتهنّ وأحلامهنّ والعلاقات التي نسجنها في خفية من السجّان، وهذا أرقى ما في الكتاب. وتستطيع سهى التقاط تلك الأبعاد بشفافيّة مَن عاشها وانتمى إليها أكثر ممّا هي ببراعة كاتب يتناول الموضوع من الخارج.
تصوغ سهى (وكوزيت إبراهيم) نصوصها وكتابها عموماً بتواضع وانتماء كما كانت تفعل في المعتقل مع تلك المشغولات التي جمع الكتاب بعضها صوراً تقول ما هو العالم الذي أرادته هي ورفيقاتها. هكذا، تعود سهى، ومعها القارئ، إلى تلك الزوايا وأسرارها الشخصيّة والجماعيّة. رحلةٌ حرّة، مُفلْتَرة، تحضر فيها الحياة والأشياء والأشخاص من دون مصادرة أيّ منها ومنهم في سياق سرديّ أو أيديولوجيا، حتى الوطنية التي انطلقت سهى بشارة منها لتنفيذ قرار إعدام قائد الميليشيات المتعاملة مع الاحتلال لا تحضر كتعبير فجّ أو مكرور. حتى كوزيت إبراهيم، رفيقة سهى في الكتاب، سرعان ما تستقيل من الكتابة عن تجربتها في المعتقل، ويتيح لها الكتاب أن تتحرر وتعود إلى حيث تشاء.
الكتاب بريء من أيّ إسقاط وشعار. هو صوتٌ إنسانيّ خافت يحكي تلك الحياة ويتذكر أولئك الأشخاص وذاك المكان الذي تزوره سهى مبتسمةً وكأنه رحِمٌ لحياة سعيدة جميلة، من دون عبء الرغبة في التحرّر منه والتخلّص من ذكرياته وكوابيسه. ولم تكن سهى قادرة على ذلك لولا مصالحتها مع نفسها. هذا ما يجعل الكتاب نقيّاً من أيّ دروس أو حِكَم. هو ألبومٌ أنيق شفّاف معبّر يترك القارئ يعيش ويرى حياةً لا شعارات، وإنساناً يقاوم بوجوده ويتحدّى بعوالمه الخاصة التي لا يربكها انتهاء حرب ولا انهيار الاتحاد السوفياتي.