ليس حقّ الدفاع عن النفس حقاً قانونياً فقط، ولا هو فوق هذا حقاً تُبيحه كلّ الأديان وحسب. ذلك أنّ عالَم الحيوان الذي لا يعرف ديناً ولا قانوناً مكتوباً، يحكمه قانون الدفاع الطبيعي عن النفس من دون نصوص ولا أديان ولا تشاور وطاولات حوار مستديرة.
مبدأ حق الدفاع عن النفس، استناداً إلى غريزة صراع البقاء، صحيح في سلوك النمل ومجتمعاته وأفراده، وصحيح في كلّ ما دونه وما فوقه، في تراتب فصائل الكائنات الحية.

فكل حياة تحتاج إلى حق طبيعي هو حق الدفاع عن النفس، حين يشعر المرء أو المجتمع بأنّ خطراً ما يُحدق به. ولا تجد في كلّ الحياة الطبيعية حيواناً ولا عاقلاً، يرضى بالخطر ولا يحاول ردّه ومواجهته، أو لا يحاول الهروب منه ومن عواقبه، أكان الكائن الحي المعرض للخطر فرداً معزولاً في برية أم ضمن مجتمع من أقرانه.
إنّ القانون القائل بحق الدفاع عن النفس سابق لكل قانون، وباقٍ بعد زوال كلّ القوانين. والترتيب الصحيح لتوالي السبب والنتيجة، هو أنّ قانون الدفاع عن النفس سابق للقوانين الوضعية التي تأسّست على أساسه، واستُوحِيَت منه وكرّسته في النصوص. فمن يَقتل شخصاً قَصَدَه بنيّة القتل، لا يُحاسَب بجريمة، بل يُبرّأ. ولا يستقيم القول لمن يتعرض لخطر مجرم قاتل جاءه ناوياً القتل: «تمَهّل! انتظر الدولة، ريثما تأتي لتنظر في الأمر وترتّب الدفاع عنك!».
وحين تتعرّض بلادٌ ما لخطر خارجي، يُفترض، في علم الاجتماع، أن تكون الدولة محتاطة، وأن تنظم أعمال الدفاع ومقاومة العدوان، ذلك واجبها ووظيفتها، فإذا أخفقت الدولة في هذا أو تقاعست، أو عارضت العمل المقاوم، فليس في الدنيا ما يمكن أن يمنع المواطن المعرّض للخطر من تنظيم دفاعه عن النفس، منفرداً أو مسهماً مع جماعة تتفق معه في الرغبة في المقاومة، حتى لو كانت كثرة مواطنيه ترى العكس. حق الدفاع ليس مسألة ديموقراطية، إنّه حق فردي وجماعي لا يبطل ولا يزول برأي أو وجهة نظر.
ذلك مبدأ فلسفي يتخطى السياسة والظروف الخاصة، فهو مطلق وعام، ولا يحتمل استثناءً. قال به جون لوك وجان جاك روسو وكلّ فلاسفة الاجتماع. ولن تجد في كلّ كتب الفلسفة قديماً وحديثاً، مبدأً يحرم أيّ كائن حي حق الدفاع عن الذات، في أيّ ظرف ومكان وزمان. ولعل هذا الحق، بعمومه وإطلاقه، أساس من أهم أسس القانون الوضعي والقوانين الدولية الحديثة.

المقاومة بلا إذن

حين نشبت الحرب العالمية الثانية واجتاحت ألمانيا النازية فرنسا، استسلمت حكومة الماريشال فيليب بيتان، وتعاون مع الاحتلال رئيس وزرائه بيار لافال، لكن لم يستطع أحد ما أن يمنع اصطفاف المقاومين في حركة، كانت لها الغلبة في النهاية. فلما انتهت الحرب، وانسحبت ألمانيا منهزمة، لم تسلّم المقاومة التي كان يقودها الجنرال شارل ديغول، سلاحها للحكومة المتهاوية التي «تعاونت»، ولم يطلب أحد من المقاومة أن تسلّم سلاحها، بل إنّها استولت على الحكم، مع أنّها لم تكن منتخبة.
وقد أثبتت الواقعة، ووقائع غيرها، مثل تسلُّم زعيم المقاومة في يوغوسلافيا جوزف بروز تيتو الحكم في الاتحاد اليوغوسلافي، أنّ شرعية المقاومة والدفاع عن الذات أعلى مرتبةً في سلَّم قيم الشرعية، من شرعية الحاكم، ولو كان منتخباً.
وحين اجتاحت إسرائيل الجنوب ثم مناطق أخرى من لبنان، سنة 1978 ثم سنة 1982، أجمعت الفصائل السياسية كلّها، المتصارعة في ما بينها، على أنّ الدولة عجزت عن أداء واجب الدفاع. لكنّ البعض ارتأى أن يعالج الأمر بالالتحاق بالاحتلال متعاوناً، فيما ارتأى بعضٌ آخر أن يقاوم.
وحين انكفأت إسرائيل سنة 2000، وهرولت قواتها المحتلة منسحبة من الجنوب، أجمعت كلّ الفصائل السياسية، المعادية لإسرائيل والأقل معاداةً لها، على أنّ وقوف الدولة عاجزة (على الأقل) في وجه الاحتلال، هو الأساس المنطقي الذي أملى عليها سلوكها الذي سلكته، حين ذهب المتعاونون إلى التعاون، وذهب المقاومون إلى المقاومة. لكنّ أحداً لم يناقش نظرياً في حق الدفاع، على الرغم من تناقض أسلوبَي ممارسة هذا «الحق»، ولم يقل أحد إنّ ممارسة هذا الحق في الدفاع عن النفس، كان بتصريح من الدولة بالطبع، أو يحتاج إلى تصريح منها.
وهل كانت مقاومة الأميركيين لبريطانيا، وهي مقاومة قادها جورج واشنطن، بتصريح من الدولة البريطانية المستعمِرة؟ وهل كانت مقاومة سيمون بوليفار في أميركا الجنوبية، للدولة الإسبانية المستعمِرة بتصريح من حكومة مدريد؟ وهل طلب الفيِِتكونغ تصريحاً من حكومة سايغون حين بدأوا مقاومة الاحتلال الأميركي لفيتنام؟

كيف ينظَّم الدفاع؟

إذا اتفقنا على أنّ حق الدفاع عن النفس حق فردي وجماعي لا يمكن نزع شرعيته في أيّ حال ومكان وزمان، وأنّه فوق القوانين الوضعية والشرائع الدولية، وقبلها وبعدها، بل إنّه في أساس هذه القوانين، يبقى سؤال مهم، هو: كيف الدفاع، وكيف ينظَّم؟
إنّ المبدأ المنطقي الأساس الذي يحكم أسلوب الدفاع عن الذات في المجتمعات البشرية، هو جدواه، فكل نظام دفاعي يثبت فشله، مرشح للإبدال والتعديل والإصلاح، حتى يُثبت البديل جدواه في حماية الفرد أو المجتمع الذي يعتمده. ما هي عوامل فشل النظام الدفاعي اللبناني الرسمي، التي أدت إلى تولي المجموعات اللبنانية في زمن ما، دفاعاً ذاتياً، غير رسمي؟
أولاً هناك عدم الإجماع. وكان لهذا الأمر أثره البالغ في سياسة الدولة ذات الطابع الطائفي، إذ كان الإجماع على وضع سياسة حيال إسرائيل متعذراً، حين كان فريق أساسي لبناني يجاهر بمبدأ: قوة لبنان في ضعفه، أيّ إنّ الدفاع كان لا بد من أن يكتفي بالعمل الدبلوماسي، فهو أجدى. وبالتالي كان وضع سياسة دفاعية حقيقية تواجه المشاريع الإسرائيلية التوسعية المعلنة وغير المعلنة، والطمع بمياه لبنان، أمراً غير ممكن، بل ربما كان خطِراً.
ثانياً، حتى لو تسنّى الإجماع في مراحل التاريخ اللبناني، بين الاستقلال سنة 1943والفتنة سنة 1975، على وضع سياسة دفاعية، فما كان يمكن لهذه السياسة الدفاعية أن تكون مجدية. ذلك بسبب الخريطة السياسة الطائفية التي شاءت ألا يبقى سرٌ مصوناً في لبنان، ولا سيما في أمر يهم إسرائيل التي أبدت دأباً وإدماناً على التسلل إلى أي سرّ عربي في مستوى استراتيجي. وليس في الدنيا ولا في التاريخ سياسة دفاعية مجدية، من غير أسرارٍ لا بد من أن تبقى أسراراً.

أسلوب الحرب الغربي والمقاومة

ثالثاً، يقول خبيرٌ عسكريٌ واستراتيجيٌ أميركي، هو أندرو بيسِفتش (Andrew Bacevich)، إنّ العرب والمسلمين ثابروا في القرنين الماضيين على اتّباع سياسة دفاعية في مواجهة الغرب. سياسة آلت إلى الفشل، لإصرار واضعيها على اتّباع الأساليب الغربية في الحرب: دبابة في وجه دبابة، ومدفع مقابل مدفع، وطائرة أمام طائرة. وإنّ تقدم الغرب في التكنولوجيا الصناعية كان كفيلاً بجعل أي سياسة دفاعية عربية ضمن هذه الصيغة، غير ذات جدوى. ويضيف بيسِفتش في مقالة بالغة العمق، نُشرت سنة 2006 (1)، وكان عنوانها: «توقَّفَ المسلمون عن القتال بالأسلوب الغربي... وبدأوا يكسبون!»، إنّ العرب والمسلمين اعتمدوا خطة المقاتل المقاوم، بدل الجيوش النظامية. وعزا بيسِفتش، وهو عسكري أميركي كبير متقاعد وأستاذ جامعي في علم الاستراتيجيا، الهزائم الأميركية والإسرائيلية في السنوات الأخيرة، من أفغانستان حتى الصومال، مروراً بالعراق ولبنان، إلى هذا التبدّل في السياسة الدفاعية العربية والإسلامية، غير الرسمية.
يقول بيسِفتش إذاً لكلّ عربي يطالب بوقف أسلوب المقاومة المعتمد منذ بضع سنوات، في مواجهة إسرائيل، وتنظيم الدفاع في وجهها على أساس الأسلوب الرسمي القديم: «أنت على خطأ، فإذا كنت تريد فعلاً سياسة دفاعية، فعليك بتلك التي أثبتت جدواها، والإقلاع عن تلك التي أثبتت فشلها، في قرنين كاملين من المواجهة الغربية مع العرب والمسلمين».

إلى متى سلاح المقاومة؟

إذا اعتمد لبنان سياسة دفاعية تنسّق بين الجيش والمقاومة، وهي صيغة لا شك في أنّها آتت أُكُلاً دسمة سنة 2006، ولا تزال تنتصب رادعاً جدياً في وجه إدمان إسرائيل العربدة، فإلى متى تبقى هذه السياسة معتمدة، وهل تبقى إلى الأبد؟
إنّ في المثال السويسري درساً حقيقياً في هذا الشأن. فسويسرا دولة محايدة منذ قرون، وقد عصفت بجوارها حربان عالميتان في القرن العشرين، ومرّت عند تخومها جيوش نابليون بونابرت والنمسا في القرن التاسع عشر. ثم مرت بقربها جيوش بِسمارك لغزو فرنسا في حروب ضروس، ولم يمسسها أيّ سوء. ومع ذلك فسويسرا لم تكتفِ بحيادها، لتقول إنّ قوتها في ضعفها، بل إنّ لديها أحد أكفأ جيوش العالم، على ما نقرأ. ففي السياسة الجادة، ليست الخُطَب الدعائية الفارغة هي التي تضمن السلام والدفاع، بل القوة، والضعف هو الذي يغري بالعدوان.
لذا فلبنان بحاجة استراتيجية إلى بقاء المقاومة وسلاحها، مع كلّ التكتم والأسرار العسكرية المحيطة بها، حتى تثبت الأيام عدم جدوى هذا النمط من الدفاع، فيحين عندئذ البحث من أجل اعتماد أسلوب آخر. وإلّا فإنّ القول بنزع سلاح المقاومة، التي أثبتت جدواها حتى الآن، يساوي القول بإباحة لبنان لإسرائيل، على نحو ما كان منذ 1948 حتى نبتت أنياب للمقاومة.
ولبنان بحاجة إلى صيغة مجدية للدفاع، بوجود إسرائيل وبعدم وجودها، لكنّنا نقول بضرورة هذه الصيغة حتى زوال إسرائيل على الأقل، أو فلنقل نظرياً: حتى زوال الخطر الإسرائيلي. فنحن لا نؤمن بأنّ الخطر الإسرائيلي سيزول، ما دامت إسرائيل نفسها موجودة. فلا خطة شمعون بيريز، الشرق الأوسط الجديد، ولا استراتيجية بنيامين نتنياهو التي وُضعت له سنة 1996، بداية نظيفة (A Clean Break)، توحيان أنّ زوال الخطر الإسرائيلي ممكن في زمن قريب.
أما القول بتسليم سلاح المقاومة حين يستعيد لبنان مزارع شبعا، أو حين تتوقف طلعات الطيران الإسرائيلي، فقول استغباء للسامع. إذ من يضمن للقائل إنّ إسرائيل أقلعت عن مشاريعها المعلنة وغير المعلنة حيال لبنان بعد انسحابها من شبعا، ومن يضمن حين تتوقف الغارات الجوية اليوم أن لا تُستأنَف غداً؟
وأما القول بإلحاق المقاومة عضوياً بأجهزة الدولة، فيساوي القول بكشف أسرار المقاومة العسكرية، وتقديمها بثمن بخس إلى العدو الإسرائيلي. فنحن نعرف السبيكة اللبنانية وكيف يعمل النظام الطائفي وحساسياته وقدرته العجيبة على حماية الفرد، ولو في أسوأ ما يمكن أن يرتكبه من معاصٍ وطنية: الخيانة العظمى. وليس اكتشاف تسلُّل استخبارات العدو إلى نظام الاتصالات اللبناني مشجّعاً على هذا الأمر على الإطلاق. إنّ إلحاح بعض معارضي سلاح المقاومة في لبنان على وجوب تسليمه للدولة، يقوّي دعوى مؤيدي بقاء هذا السلاح في أيدي المقاومين، ولا سيما حين يكون في صفوفهم، بل على رأسهم، بعض من اعترفوا في كتب وتصريحات تلفزيونية، بأنهم «اضطُرُّوا» إلى التعاون مع إسرائيل. وفي ميزان السياسة، كلّما ألحّوا خدموا قضية خصومهم السياسيين، لأنّ حملهم لواء هذه المسألة لا يترك مجالاً للشك في غرض الإلحاح.
(1) مجلة The American Conservative،
11 أيلول 2006
* كاتب لبناني