علينا أخذ سياسات واشنطن ضمن السياق التاريخي، وعدم نسيان طبيعتها حيث خاضت عشرات الحروب العدوانية، منذ الحرب العالمية الأولى، بل وحتى قبل ذلك. أما إعلانها، عقب الحرب العالمية الأولى، تمسكها بمبدأ حق الأمم المستعمَرة في تقرير المصير فلم تتمسك به ولو للحظة لأن هدف طرحه كان الضغط على حلفائها في لندن وباريس لقضم قسم من «كعكة النصر» حيث نجحت في ذلك.
أما مشروع واشنطن القائم على التحالف مع «الإسلام السياسي» الذي أعلنه الرئيس أوباما وترجمه في زيارة تركيا ومصر والسعودية فلم يكن أكثر من عملية علاقات عامة. فالتحالف بين واشنطن وأكثر فروع الإسلام السياسي تطرفاً، أي الوهابية التكفيرية، ليس بالأمر الجديد حيث تسلمت إدارته من لندن إبان فترة حكم الرئيس روزفلت.
أما الحلف الإسلامي فليس بالأمر الجديد. فبعدما فقد الرئيس الأميركي آيزنهاور الأمل في كسب الحركة القومية العربية إلى جانب الغرب وسياساته، وكل ذلك بسبب القضية الفلسطينية، انتقلت واشنطن إلى التحالف العلني مع أكثر أنظمة العرب تخلّفاً، أي مع الرياض. وللتذكير، فإن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وقف بحزم ضد الحلف الإسلامي الذي دعا إليه ملك السعودية المغدور فيصل، ورأى فيه تجمّعاً للرجعية وذراع الهيمنة الاستعمارية على مقدراتنا.
لذا، فإن تصاعد هيمنة الإسلام السياسي، الذي لا يملك أي برنامج سوى رفض الآخر وإلغائه، ليس بالأمر الجديد. وكذلك تحالف واشنطن معه، واستخدامه لتحصيل أهدافها.
واشنطن معروفة بأنها تستخدم مختلف القوى لتنفيذ مخططات لها، ثم ترمي بهم؛ فعلت ذلك مثلاً مع الحركات الكردية في العراق، ومع تيار البرزاني تحديداً، أكثر من مرة.
صحيح أن واشنطن مهتمة بالالتفات إلى شرق آسيا لمواجهة الصعود الصيني، وهنا يأتي دور عامل «الإسلام السياسي» واستخدامه لخوض حروبها نيابة عنها. فلنتذكر قوة «الإسلام السياسي» في جنوب شرق آسيا، وتحديداً في أندونيسيا وماليزيا حليفتي واشنطن التاريخيتين، حيث يمر مضيق ملقا والذي هو الممر البحري والوحيد والإجباري للصين. وضمن هذه الحقائق، ننظر إلى قيام الصين بتأسيس جزر اصطناعية عسكرية في بحر الصين الجنوبي وقاعدة بحرية عسكرية في باكستان. الهدف هو الاستعداد للمعركة المقبلة، إن جنّت واشنطن عسكرياً؛ لنتذكر أيضاً أن ترومان، والجنرال آيزنهاور من بعده، كان يود خوض مغامرة حرب نووية على الاتحاد السوفياتي، لكنه عدل عن ذلك بعدما أظهرت نتائج الدراسة التي طلب إعدادها أن الدمار بين المعسكرين سيكون شاملاً. ومن المفيد أيضاً التذكير بأن واشنطن اقترحت على موسكو، إبان الحرب الباردة، حصر أي صراع نووي بينهما في القارة الأوروبية.
كما ننظر ضمن هذا السياق ضبط واشنطن الجيش التركي ومنعه من التدخل في الحياة السياسية، عكس ما فعلت عامي 1980 و1997. إن تدخلها لمصلحة «الإسلام السياسي» بقيادة الرئيس رجب طيب إردوغان جزء لا يتجزأ من سياساتها في المنطقة، وازدادت أهميته بعد فشلها الذريع في أفغانستان والعراق. كما أننا ننظر إلى إنهائها الصراع النووي مع إيران ضمن تلك السياسة. فالهدف، ضمن أمور أخرى، رفع منسوب الرعب بين أعراب دول الخليج الفارسي بعد تحرر طهران من الحصار الاقتصادي الخانق، وزيادة مبيعات الأسلحة إليها، لقتل الأبرياء في اليمن وليبيا والعراق وسوريا، وفي الوقت نفسه تقوية الاتجاهات المفضِّلة للغرب على موسكو وبكين ضمن المؤسسة الحاكمة في إيران.
إن وقوف واشنطن وراء عدوان تكفيريي الخليج على اليمن، وانحيازها السافر إلى جانب أنقرة، مهد تنظيم الدولة وغيره، بخصوص كمين إسقاط القاذفة الروسية والمشاركة في نهب نفط العراق وسوريا وتهريبه حتى إلى العدو الصهيوني، يقدمان إثباتات إضافية على مدى انغماس واشنطن في الفوضى السائدة في بلادنا. وإلا فكيف يمكن فهم أن تركيا حزب العدالة والتنمية الطرف الوحيد الذي تفاوض معه تنظيم الدولة! كما قيل الكثير في أن تنظيم الدولة يلاحق أي فرصة للاشتباك مع القوات الأميركية، لكنه ما إن وصل إلى نقطة تماس على الحدود الأردنية، حتى استدار وعمل على احتلال تدمر، تحت أعين القوات الأميركية.
لنعترف بأن ثمة مبالغة كبيرة في قوة التنظيم ناتجة أيضاً من التغطية الإعلامية. أما وحشيته فلا تختلف عن مثيلتها لدى الوهابي، أبيه الروحي، الذي أعمل سيفه في رقاب أبناء جزيرة العرب، ولا يختلف في تخلفه وجهله أيضاً عن نظام الإمام في اليمن وفي عُمان إبان حكم والد السلطان الحالي.
لا جديد تحت الشمس.
إن معركتنا مع القوى الظلامية طويلة ومعقدة، ولذا وجب الاستعداد لها بأقصى درجات الحرص والحرفية والانفتاح على كل الاجتهادات والاستماع إلى كل الآراء الوطنية والاجتهادات. الجزء الأساس من أسلحتنا كسب الجماهير ومصارحتها بكل الحقائق والعناية بأمورها وحاجاتها، حيث أنهكتها الحروب ومختلف أنواع الفساد.