يبدو أن إصرار المبعوث الأممي، عبدالله باتيلي، على إنجاح مبادرته التي طرحها أمام مجلس الأمن الدولي نهاية شباط الماضي، دفع الأطراف المحلّيين الفاعلين إلى محاولة استدراك أيّ خطوة مناهضة لمصالحهم، عبر استعجال تشكيل لجنة للاتفاق على قاعدة دستورية يمكن على أساسها إجراء الانتخابات. استعجالٌ حمَل باتيلي على تليين موقفه، وإفساح المجال أمام تلك اللجنة المنتظَر تشكيلها من مجلسَي النواب و«الدولة» للقيام بمهمّتها، في وقت يسجَّل فيه تقدّم إضافي على المسار العسكري، مع تشكيل «القوّة المشتركة» التي يؤمل أن تشكّل النواة الأولى للجيش الموحّد
مسنوداً بدعم كبير من مجلس الأمن الدولي، يبدو المبعوث الأممي إلى ليبيا، عبدالله باتيلي، مُصمّماً على إنجاح مُبادرته الرامية إلى إنجاز انتخابات تشريعية ورئاسية في البلاد قبل نهاية العام الحالي، بوصفها السبيل «الوحيد» لإخراج ليبيا من أزمتها السياسية والأمنية التي تتخبّط فيها منذ سنوات. وكان باتيلي قدّم مبادرته تلك خلال إحاطته الأخيرة أمام المجلس نهاية شباط الماضي، قافزاً فوق الأجسام السياسية القائمة - وهو ما أثار تحفّظاً مصرياً وروسياً -، ولا سيّما مجلسَي النواب و«الدولة»، ومُوجّهاً إليها انتقادات لاذعة وصلت إلى حدّ وصْفها بأنها «فقدت شرعيّتها»، جرّاء فشلها في التوافق على قاعدة دستورية للانتخابات. وارتكز مقترح المبعوث الأممي، بشكل رئيس، على تشكيل ما سمّاه «لجنة تسيير رفيعة المستوى للانتخابات في ليبيا» من ممثّلين عن المؤسّسات السياسية وأبرز الشخصيات السياسية وزعماء القبائل ومنظّمات المجتمع المدني والأطراف الأمنية الفاعلة، حتى تضطلع بـ«تيسير اعتماد إطار قانوني وجدول زمني ملزِم لإجراء الانتخابات في عام 2023». غير أن توافُق المجلسَين، أخيراً، على القاعدة الدستورية، وبدءهما العمل على تشكيل لجنة ستضمّ ستّة نواب من كلّ منهما للتوافق على صياغة القانون الانتخابي، دفَعا باتيلي، الأسبوع الماضي، إلى التراجع جزئياً عن مبادرته، وتحديداً في ما يخصُّ «لجنة التسيير»، مانحاً «لجنة 6+6» مهلة حتى حزيران المُقبل، من أجل الانتهاء من كلّ ما يتّصل بالجانب التشريعي والقانوني للانتخابات.
وفي انتظار تشكيل لجنة صياغة القانون الانتخابي، يبدو المسار العسكري هو الأكثر رسوخاً من بين كلّ مسارات حلحلة الأزمة، إذ جرى الاتّفاق، خلال الأسبوع المنقضي في تونس، بين رئيسَي الأركان عبد الرزّاق الناظوري (شرق) ومحمد الحدّاد (غرب)، برعاية باتيلي، على تشكيل «القوّة المشتركة» التي ستكون بمثابة نواة أوّلية تَجمع قوّات عسكرية من مختلف مناطق البلاد. ووفق المعلومات، فإن هذه القوّة، التي ستكون الخطوة الفعلية الأولى نحو توحيد الجيش، ستضمُّ عشرة آلاف عنصر من مختلف التشكيلات التابعة لقيادتَي الأركان، ومهمّتها تأمين الانتخابات وحماية الحدود الجنوبية في وجه ظاهرتَي التهريب والتجارة بالبشر. وفي هذا الإطار، أوضحت وكالة «نوفا» الإيطالية أن «الفكرة المبدئية تقوم على إنشاء ثلاث كتائب عسكرية من الغرب والشرق والجنوب، تكون مهمّتها التدخّل في المنطقة الجنوبية»، مضيفةً أن «قائد هذه المجموعة سيكون مسؤولاً أمام الحدّاد والناظوري». وتأتي تلك الخطوة تتويجاً لمسار طويل من عمل اللجنة العسكرية «5+5»، التي تضمّ ضبّاطاً رفيعي المستوى من قيادتَي الأركان، وتمارس مهامها من مدينة سرت وسط البلاد تحت رعاية أممية، وتهدف أساساً إلى توحيد المؤسّسة العسكرية، وتأمين وقف إطلاق النار، وإخراج المقاتلين الأجانب من البلاد. كما تأتي كنتيجة مباشرة للقاءات بين الناظوري والحدّاد استمرّت منذ أشهر، وكسرت حدّة الاستقطاب بين طرفَي النزاع.
لا يُمكن إجراء الانتخابات من دون توحيد الأجسام الأمنية والعسكرية كافة


وتشقّ ليبيا انقساماتٌ عسكرية عميقة؛ حيث تنشطر البلاد ما بين قوّتَين رئيسيتَين، واحدة في الشرق والجنوب تتبع اللواء المتقاعد خليفة حفتر، وأخرى في الغرب تتبع حكومة عبد الحكومة الدبيبة. وفيما تنضوي معظم التشكيلات المسلّحة في الشرق تحت سلطة ما يسمّى «الجيش الوطني الليبي» الذي نجح، إلى حدّ كبير، في السيطرة على السلاح واحتكاره، فإن الوضع يبدو مختلفاً في الغرب؛ حيث إلى جانب عددها الكبير وانقسامها على أسس جَهوية وإيديولوجية، فإن الفصائل تتفرّق أيضاً في تبعيّتها للسلطة التنفيذية، بين مَن يرفض الانضواء تحت لواء حكومة الدبيبة، ومَن يعلن صراحة تبعيّته لحكومة غريمه فتحي باشاغا، وحتى لحفتر. ويُعدّ هذا الانقسام أحد أبرز وجود الأزمة الليبية، وعاملاً رئيساً من عوامل تغذيتها، والمطبّ الأكثر صعوبة في وجه الاستقرار السياسي. وقد جعل الترابط العضوي بينه وبين حالة الفوضى الأمنية، وما تنتجهُ من عجْز عن بناء المؤسّسات وفرْض القانون، من العمل على إيجاد تسويات عملية لمشكلة إدماج المقاتلين في مؤسّسات نظامية وخاضعة لسلطة الدّولة والقانون، مهمّة رئيسة أمام الساعين في حلّ الأزمة. ولذا، شكّل مسار «5+5»، المنبثق عن حوار برلين، أحد أهمّ أضلع التسوية النهائية المنشودة. وبدأ هذا المسار تحت قيادة المبعوثة الأممية السابقة، ستيفاني وليامز، منذ تشرين الأوّل 2020، تاريخ أوّل اجتماع للجنة، التي واصلت لقاءاتها طيلة قرابة عامَين ونصف عام داخل ليبيا وخارجها، ونجحت في خفْض حدّة التوتّر بين الأطراف المتنازعة، وتحقيق وقْف فعلي لإطلاق النار، وتأمين الطريق الرئيس بين شرق البلاد وغربها، وحتى تسيير دوريات مشتركة لتأمين بعض المرافق الاقتصادية وخطوط النفط وإمدادات المياه من الجنوب الصحراوي نحو الشمال. غير أن عملها لا يزال متعثّراً في الجانب المتعلّق بدمج المقاتلين وملفّ إخراج المرتزقة الأجانب، والذي يبدو مُتجاوزاً لقدرتها الذاتية بحكم التصاقه بالترتيبات الدولية أساساً، وبإرادة الفاعلين الخارجيين.
مع ذلك، وأمام العجز عن فرْض أيّ مشروع سياسي وسط الفوضى الأمنية وانتشار الميليشيات والسلاح، ظَلّ التركيز الأممي على هذا المسار العسكري أساسياً، وخصوصاً أنه لا يُمكن إجراء الانتخابات من دون توحيد الأجسام الأمنية والعسكرية كافة وضبْطها تحت سلطة القانون والمؤسّسات السياسية. وبخلاف دورها المنتظَر في تأمين العملية الانتخابية المأمول إجراؤها قبل نهاية العام الحالي، فإن «القوّة المشتركة»، المدعومة من «المجلس الرئاسي» ومختلف الفاعلين المحلّيين نظراً إلى انبثاقها من اللجنة العسكرية التي تحظى بتوافق واسع، تُمثّل تجربة عمليّة أولى لمشروع توحيد المؤسّسة العسكرية، التي ظلّت تعاني الانقسام منذ عام 2011، شأنها شأن مختلف المؤسّسات الرئيسة في البلاد، كالمصرف المركزي ومؤسّسة النفط، فضلاً عن دورها في التأسيس لمسار فعلي وصلب نحو إجراء الانتخابات.