تونس | حسم الرئيس التونسي، قيس سعيد، الجدل حول النظام الانتخابي الذي يتبنّاه، بإصداره مرسوماً جديداً بهذا الخصوص، يقيّد إلى حدّ بعيد عملية الترشّح، ويمنح الناخبين سلطة أقوى من المنتخَبين، ويهشّم حضور الأحزاب ودورها. وعلى رغم أن نظام الاقتراع الفردي شائع في دول عدة، إلّا أنه بنسخته التونسية جاء فريداً من نوعه، شأنه شأن الكثير من الخطوات التي أقدم عليها سعيد، وآخرها دستوره الذي نال التأييد في الاستفتاء الأحدث. وإذ يبدو نظام سعيد الانتخابي، المعلوم منذ زمن، قابلاً للطعن من جوانب عدة، فإن القوى المعارضة اكتفت إلى ما قبل إقراره بالتشكيك في أهليّة صاحبه العقلية، بينما كان الأخير يحثّ الخُطى في خطْب ودّ الجمهور
حدّد الرئيس التونسي، قيس سعيد، تاريخ الـ17 من كانون الأول المقبل، موعداً للانتخابات التشريعية، التي ستُجرى على أساس مرسوم انتخابي جديد. وينصّ هذا المرسوم على تقسيمٍ مختلف للدوائر الانتخابية؛ إذ لم تَعُد المحافظات الكبرى مقسَّمة إلى دائرتَين انتخابيتَين، بمجمل 33 دائرة موزّعة على 217 مقعداً، بل باتت هناك 161 دائرة، لكلّ منها مقعدها الخاص في البرلمان. وسيتطلّب الوصول إلى المقعد تحصيل «50+1» من غالبية أصوات الناخبين، بالتالي لن يكون الفوز آلياً  للحاصل على أعلى عدد من الأصوات، إلّا إذا ما أُجريت جولة ثانية، ولم ينل فيها أيّ مرشّح الغالبية المطلقة. أمّا بخصوص الحقّ في الترشّح، فقد رُبط بحصول الشخص المعنيّ على تزكية 400 شخص من سكّان منطقته، على أن يكون نصفهم من النساء ورُبعهم من الشباب، وهو شرطٌ، وإنْ كانت غايته إشراك الناخبين في اختيار المرشّحين وتقليص عدد هؤلاء الأخيرين، إلّا أنه يبقى تعجيزياً. وحتى لو تمكّن أحدهم من تحقيقه، فسيكون عليه تقديم عدد كبير من الوثائق، من بينها بطاقة خلوّ من السوابق العدلية القصدية، وأخرى تثبت سداد الأداءات والجباية، فيما حُصر الترشيح في الداخل بالتونسيين، على أن يحقّ لمزدوَجي الجنسية الترشّح لدوائر الخارج إذا كانوا من المقيمين فيها.
هكذا، عقّد سعيد شروط الترشّح، في ما لا يمكن نفي صفة التحسين عنه، خصوصاً أن بعض ما أقرّه كانت منظّمات المجتمع المدني دأبت على المطالبة به، بعد أن انتُخب في البرلمانات السابقة مُدانون بجرائم شرف واختلاس، ومتهرّبون جبائيون وحتى مُهرّبون شهيرون، وأيضاً مُحرّضون على الإرهاب. كذلك، أحدث سعيد انقلاباً في العلاقة بين الناخب والمنتخَب، مكرّساً ما يَعتبره ضمانة لنزاهة النائب وإخلاصه، عبر تنصيصه على إمكانية سحْب الثقة منه في أيّ وقت، وهو ما ظلّ الرئيس يدعو إليه طيلة سنوات، ولاقى استحساناً شعبياً بالفعل. واللافت أن سعيد تقصّد أن لا تكون تعديلاته في شكل مرسوم جديد بالكامل، بل أن تأتي بصورة تنقيح للقانون الانتخابي الصادر عام 2014، في محاولة للقول إنه يصلح ما جاءت به المنظومة السابقة، ولا يبتدع شيئاً خاصاً به، بالتالي لا مصلحة خاصة له في ذلك.
على جرْي عادته، يستثمر سعيد في الفجوات التي خلّفتها منظومة الحُكم السابقة


في المقابل، يثير ما أقدم عليه سعيد انتقادات عدّة، من بينها أن الناخبين قد لا يتوافر لديهم الوعي الكافي لتزكية المترشّحين وفق معايير موضوعية، وقد يُقدمون على الاختيار على أساس نظرة قبلية أو انطلاقاً من معطيات ذاتية بحتة، بالتالي فإن ربط الترشّح بشروط مجحفة سيجعل البرلمان مشتّتاً ومتنافراً وبعيداً من الاستقرار. ويضيف المنتقدون أن النظام الذي يكرّس سلطوية للناخب على المترشّح والنائب، سيؤدّي إلى هشاشة المؤسّسة التشريعية المهدَّدة بالشلل في حال تواتُر سحب الثقة من النواب. وبخصوص الأحزاب، لم يحتجْ سعيد إلى إلغائها ليحرمها من ولوج البرلمان، بل هو سيجبرها، بموجب النظام الجديد، على الالتحاق بالشخصيات الاعتبارية لتترشّح على قوائمها. كما أن سعيد نسف نظام الاقتراع القائم على القوائم وأكبر البقايا، والذي ضمِن لـ«النهضة» تفوّقاً متواصلاً في الحاصل الانتخابي، لم يتأثّر حتى في أكثر الأوقات التي شهدت فيها شعبيّتها تراجعاً، بما أتاح لها المحافظة على ميزة امتلاك الكتلة الأكبر في البرلمان في ثلاثة مواعيد متواصلة، على رغم تقلُّص حجمها من 89 مقعداً في 2011، إلى 68 في انتخابات 2014، إلى 53 في انتخابات 2019. ويعتقد مُناوئو منظومة الحُكم السابقة أن البرلمانات الماضية لم تصدّر تمثيلاً حقيقياً للأحزاب السياسية، بالنظر إلى أن توفير قائمة انتخابية من عشرة أسماء في 33 دائرة، عجزت عنه حتى «النهضة» نفسها، ما جعلها وبقية الأطراف السياسية تفتح الباب للانتهازيين من الطامعين في الحصانة الانتخابية، أو حتى لِمَن شكّلوا لاحقاً "كتلة نيابية صامتة" - كما تعارف على تسميتها الإعلام التونسي -، بعدما انتموا في اللحظات الأخيرة إلى الأحزاب وتَرشّحوا وفازوا على قائماتها، ولكنها أَلزمتهم الصمت والاكتفاء بالتصويت كجزء من العقد المعنوي المبرم في ما بين الطرفَين، تفادياً لتصريحاتهم التي قد لا تنضبط بمواقف الأحزاب.
هكذا، وعلى جرْي عادته، يستثمر سعيد في الفجوات التي خلّفتها منظومة الحُكم السابقة، والمغضوب عليها شعبياً، من أجل التقدّم بمشروعه، مُراهِناً على أن من سيَخرج اليوم ليدافع عن أكبر البقايا والكتل الصامتة والسياحة الحزبية و"ميركاتو" البرلمان وسوق الأصوات، سيكون هدفاً لسهام الجمهور، الذي بدا، من خلال النشوة التي عمّت مواقع التواصل الاجتماعي، احتفاؤه واضحاً بتحجيم دور الأحزاب. ولعلّ ما ساعد سعيد على الوصول إلى تلك النتيجة، هو أن الأحزاب اكتفت بالركون إلى المقاطعة، فضلاً عن استغلال المنابر المتاحة لها للتشكيك في أهلية الرجل العقلية، فيما لم تستبق إعلان الرئيس نظامه الانتخابي بحملة نقد مركّز له، بما يساعد الجمهور على تشكيل رأي موضوعي حوله، على رغم أن البناء القاعدي الذي يتبنّاه سعيد معلوم منذ كان الأخير أستاذاً في الجامعة، وهو القائم على مبدأ الوكالة وتزكية القاطنين في الدائرة الانتخابية.