طرابلس | يمكن توصيف ما شهدته ليبيا، السبت، على أنه مناورة عسكرية محدودة، لم تكن نسبة نجاحها المتوقّعة تتجاوز الـ50%، لكن تنفيذها جاء بموافقة عربية وخليجية نالتها الأطراف الداعمة لرئيس الحكومة المكلَّفة من البرلمان، فتحي باشاغا، وعبر الميليشيات التابعة للعسكري المتقاعد، خليفة حفتر، من دون الزجّ بشكل مباشر باسم «الجيش الليبي» الذي يقوده الأخير. والظاهر أن هذه الموافقة مردّها محاولة إعادة تحريك مياه الأزمة التي دخلت مرحلة الجمود، في ظلّ غياب أيّ رؤية للحلّ السياسي، على رغم تعدُّد المسارات المتوازية التي نشأت خلال الأشهر الماضية مع تعذُّر إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 24 كانون الأول الماضي، كما كان مقرَّراً. وعلى العكس من تعهّداته السابقة، فإن باشاغا، المدعوم من القاهرة وأطراف خليجية إلى جانب دعم داخلي من حفتر ورئيس البرلمان عقيلة صالح، قرّر خوض مغامرة الدخول إلى العاصمة طرابلس عسكرياً، بعد أسابيع من ممارسة حكومته أعمالها في سرت على خلفية رفض رئيس الحكومة المنتهية ولايته، عبد الحميد الدبيبة، تسليم مهامه إلّا لسلطة منتخَبة.ويُعدّ هذا الوضع الدستوري والقانوني المرتبك، والذي أسّس لحكومتين كلّ منهما لها داعموها داخلياً وخارجياً، هو السبب الرئيس وراء استمرار الأزمة، بخاصّة في ظلّ انقسام السيطرة بين حكومتين، واقتصار الموقف الأممي على عدم التحيّز لأيٍّ من الطرفين، وسط تكرار الدعوات إلى «ضبط النفس»، فيما ساهم دعم غالبيّة «الحلفاء العرب» لباشاغا، ودعم إيطاليا والجزائر للدبيبة مع أطراف أخرى، في خلْق حالة من التوازن النسبي بين الحكومتين. وعلى رغم أن حكومة الدبيبة فقدت السيطرة على غالبية المدن الليبية، لكنّها لا تزال تمتلك القوّة والتأثير في طرابلس، فيما تسيطر حكومة باشاغا على المساحة الأكبر، لكنّها لم تتمكّن من دخول العاصمة إلّا بعد منتصف الليل لساعات قليلة، قبل أن تنسحب مع بدء عمليات إطلاق النار من جانب الميليشيات الداعمة لحكومة الدبيبة. ويتمسّك هذا الأخير بروايته حول قدرة حكومته على إجراء الانتخابات، معتبراً أن تكليفه الذي جرى برعاية أمميّة لا يمكن إسقاطه في البرلمان.
تهدف المفاوضات بشكل رئيس، إلى رسم خريطة طريق جديدة، تمهّد لإجراء الانتخابات


وبيّن سقوط المدنيين والتخريب الذي طاول الممتلكات، بالإضافة إلى تعرُّض بعض المناطق لأضرار بالغة، وشلّ الحياة في العاصمة طرابلس لعدّة ساعات، أن الحرب التي استمرّت لنحو عامين، يمكن أن تعود مجدّداً، على رغم أن الطرفين يفضّلان عدم الاصطدام لما يمكن أن يسبّبه هذا السيناريو من عقوبات دولية ستطاولهما نتيجته. ولكن مناورة باشاغا العسكرية، حقّقت هدفها الرئيس، بإرسال رسالة تحذير قويّة إلى الأطراف المعنية بالأزمة الليبية، تضمّنت ضرورة التأكيد على العودة إلى الاهتمام بالقضيّة، والضغط على جميع الأطراف لاستئناف المفاوضات، سواء لإجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية سريعاً، أو استئناف التفاوض حول الدستور الذي قطعت فيه الأمم المتحدة شوطاً كبيراً بعد اجتماعات القاهرة وجنيف.
في هذا الوقت، أفادت المعطيات بوجود وساطة غير مباشرة للبدء في التفاوض بين الدبيبة وباشاغا، في محاولة للوصول إلى تفاهمات سياسية عبر وسطاء وأطراف إقليمية. هذه التفاهمات التي ستتكثّف خلال الساعات المقبلة، ستسعى إلى خلْق تصوّرات جديدة تخصّ مستقبل ليبيا، فيما ستتولّى الاستخبارات عملية التواصل المباشر للاتفاق على أُطر يمكن العمل عليها، شرط أن يستمرّ الوضع العسكري القائم إبّان عمليّة التفاوض. وتهدف المفاوضات بشكل رئيس، إلى رسم خريطة طريق جديدة، تمهّد لإجراء الانتخابات، عبر خلْق مسار جديد. من جهتها، لا تزال لجنة «5+5» المسؤولة عن المسار العسكري، ملتزمة الصمت إزاء الأحداث التي وقعت، إذ تحاول الإبقاء على الحوار قائماً بين العسكريين الليبيين المتنازعين على السلطة، على رغم صعوبة خطوة توحيد الميليشيات العسكرية في الشرق والغرب تحت قيادة موحّدة باسم «الجيش الليبي».
حتى الآن، لا يزال الدبيبة يحظى بالقدرة على المناورة في ظلّ استمرار سيطرته على العاصمة، فيما سيكون لدى باشاغا فرصة أكبر للدفع نحو إجراء الانتخابات، وتسوية الوضع من خلال حكومة مشتركة بين حكومته وحكومة الدبيبة، تُجري الانتخابات النيابية والرئاسية في يوم واحد، وبرعاية أممية.