الجزائر | بعد 38 عاماً على آخر عرض عسكري بمناسبة عيد الاستقلال، جاء استعراض هذا العام الأكبر منذ استقلال البلاد. وكان بارزاً في احتفالية الستّينية، حضور رؤساء كلّ من: تونس، فلسطين، النيجر، الكونغو الديمقراطية، إثيوبيا و«الجمهورية العربية الصحراوية الديموقراطية» (غير المعترَف بها على نطاق واسع)، فضلاً عن ممثّلي دول أخرى. كما برز، في هذه المناسبة، ثقل العتاد العسكري المستخدَم في الاستعراض الذي شاركت فيه 100 تشكيلة، وأراد رئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، التأكيد من خلاله على قوّة الجيش الجزائري الذي وصل «إلى احترافية وتحكُّم عالٍ في العلوم والتكنولوجيا العسكرية». وإذ بدا الاحتفال محمَّلاً برسائل إلى الخارج، فهو لم يخلُ أيضاً من أخرى مُوجَّهة إلى الداخل، الذي كان شهد قبيل خمود الحراك الشعبي خروج مئات الآلاف إلى الشوارع للاحتفال بذكرى الاستقلال، على عكس السنوات التي سبقت وتلك التي تلت، حيث كان الاحتفال (وعاد كما كان) لا يخرج في غالبه عن الإطار الرسمي، فيما المواطنون متابعون لا أكثر. ومن هنا، لم تتوقّف المعارضة، منذ أيام، عن استذكار احتفال 2019 الأكبر شعبياً، والمفاضلة بينه وبين احتفال 2022 الأضخم تنظيمياً، والاستدلال بذلك على «القطيعة» التي لا تزال قائمة بين السلطة والشعب.وفي هذا الإطار، رأى المنسّق الوطني لـ«الحركة الديموقراطية الاجتماعية»، فتحي غراس (المفرَج عنه قبل أسابيع)، أن «العنوان البارز للاحتفالات بالذكرى الـ60 للاستقلال، هو تحويل المناسبة إلى احتفال السلطة الحالية بإنقاذ النظام من الهزيمة النهائية أمام الاندفاع الثوري الديموقراطي للشعب الجزائري»، معتبراً أن «غياب الشعب عن الزردة (احتفال تقليدي) السلطانية التي أفرغت ذكرى الاستقلال من كلّ مضامينها التحرّرية والديموقراطية والشعبية، دليل قاطع على عزلة السلطة، وعدم قدرتها على تحويل انتصارها المؤقّت إلى انتصار دائم يحتوي الغضب الشعبي، ولو تطلّب ذلك استعمال مسكّنات سياسية واجتماعية وإيديولوجية مؤقّتة». وهكذا، فقد قُرِئَ الاحتفال على أنه رغبة من السلطة في استغلال القاسم المشترك بينها وبين الجزائريين، والمتمثّل في العداء لفرنسا الاستعمارية، وخاصة أن تبون، مترشّحاً ورئيساً، كان قد أكد أن أولويته هي «استعادة الجزائريين الثقة بمؤسّساتهم»، وبذل جهوداً على هذا الطريق، كان آخرها تنظيم ألعاب البحر الأبيض المتوسط (وهران 2022). كذلك، ظهرت جليّةً محاولة رأْب الصدْع بين الشعب والجيش، الذي يُعاب عليه تدخُّله في كلّ الاستحقاقات التي واجهتها الجزائر، بل وكونُه المحرّك الأساسي للشأن السياسي والمتحكّم بالرؤساء، وأخيراً المُتسبّب الأوّل بإيقاف الحراك الشعبي و«فرْض» انتخابات رئاسية «معروفة النتيجة مسبقاً». وانطلاقاً ممّا تَقدّم، شدّد تبون، في خطابه في بداية الاحتفالية، على ضرورة أن «نُجدِّد تقدير الأمّة لدرع الجزائر، جيشنا الوطني الشعبي، حامل لواء جيش التحرير، الذي نشهد معه باعتزاز، بمناسبة هذا الحدث التاريخي، ما أحرزه من مكاسب وإنجازات عظيمة».
تُواجه الجزائر وضعاً إقليمياً حسّاساً، وسط جوّ مشحون عالمياً بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا


رسائل إقليمية مباشرة ودولية مبطنة
على الصعيد الخارجي، تُواجه الجزائر وضعاً إقليمياً حسّاساً، وسط جوّ مشحون عالمياً بفعل الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي قسمت الدول بين مساند ومعارض. غير أن التحدّي الأكبر للبلاد يظلّ مع الجار المغرب، حيث بلغ الاحتقان بين الطرفَين أشدّه منذ أشهر، ووصل إلى غاية قطع العلاقات كلّية، خاصة بعد أن اعتبرت الجزائر أن تحالف المغرب مع الكيان الإسرائيلي، هو تهديد مباشر لحدودها الغربية. وأثّر النزاع بين الدولتَين على وضع الصحراء الغربية، التي تَعتبرها الرباط إقليماً مغربياً، وتَعدّها الجزائر مستعمرة، وهو ما انعكس أيضاً على علاقة الجزائر بإسبانيا، بعد أن غيّرت الأخيرة موقفها من الصراع ومالت إلى الطرح المغربي. وعليه، فإن الاحتفال بستّينية الاستقلال شكّل مناسبة لإظهار قوّة الجزائر العسكرية، والعتاد الضخم الذي تملكه وتقدر على استعماله في حال تعرُّضها لأيّ اعتداء، علماً أن الجزائر والمغرب يتسابقان منذ سنوات لاقتناء أضخم المعدّات الحربية.
أمّا في الشأن الدولي، فلا تزال الجزائر متّخذة موقف الحياد منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية، وهو ما أكّدته تصريحاً وتلميحاً، ومن ذلك قول الرئيس الجزائري أخيراً: «نحن على مسافة واحدة من جميع الدول... عدا الكيان الصهيوني». وإذ لا يبدو غريباً هذا الموقف على الجزائر التي بنت سياستها الخارجية على مبدأ عدم الانحياز، منذ الاستقلال في 5 تموز 1962، إلّا أن العرض العسكري الأخير طرح تساؤلات كثيرة حول الرسالة التي أرادت الجزائر إيصالها من خلاله بخصوص النزاع العالمي الدائر حالياً، بالنظر إلى أن الاحتفال هو بمناسبة الاستقلال عن أحد بلدان محور الغرب المسانِد لأوكرانيا (فرنسا)، وأنه يأتي في توقيت تعرف فيه العلاقات الجزائرية - الإسبانية قطيعة غير مسبوقة، يُمنع بموجبها حتى الاستيراد والتصدير بين الطرفَين. واللافت، هنا أيضاً، أنه لم يحضر الفعاليةَ أيّ رئيس من الغرب، عدا ممثّل رئيس مجلس الشيوخ الإيطالي، على خلفية التقارب أخيراً بين البلدَين، فيما برز استخدام أسلحة أغلبيّتها مستوردة من روسيا في الاستعراض، ما جعل بعض المتابعين يتساءلون عمّا إذا كانت الجزائر قد أمالت الكفّة لصالح الحليف القديم - الجديد.