كانت المحاولات لإرساء مسار سياسي في ليبيا، محكومة بخارطة تحالفات ومواقف معقّدة جداً، تنتظم فيها اصطفافات القوى المحلية مع الأطراف الخارجية على أساس صراع المحاور التقليدية، إلّا أن هذه المحاور تَغيّرت أخيراً، وتَغيّرت معها المعطيات على المستوى الداخلي الليبي أيضاً، ما ساهم في صنع مشهد جديد لم تَعُد معه المُحدِّدات السابقة صالحة لقراءة الحدث. جاء هذا التَّغيّر في ظلّ تثبيت وقف إطلاق النار وإطلاق المسار السياسي الجديد، تزامناً مع انتهاء جولة الصراع الداخلي صيف 2020، والتي كانت قد اندلعت في نيسان 2019. كلّ ذلك أتى بدفْع من التحوّلات التي حصلت في مواقف الدول الإقليمية المتدخّلة في الشأن الليبي، بعضها من بعض. فالتقارب التركي - الإماراتي، والتركي - المصري، مثلاً، أثّرا كثيراً على اصطفافات الأفرقاء الليبيين. وبالمِثل، فإن الصراع الفرنسي - الإيطالي في ليبيا، لعب دوراً في خلْق واقع مختلف ميدانياً وسياسياً.تفاقَم الانقسام الليبي مع تنصيب مجلس النواب في طبرق، في شباط الماضي، فتحي باشاغا رئيساً لحكومة جديدة بدلاً من حكومة عبد الحميد الدبيبة، الذي يرفض تسليم السلطة إلّا لحكومة تأتي عن طريق برلمان جديد منتخب. في نهاية الشهر الجاري، تكون حكومة الدبيبة قد استنفدت أجَلها القانوني والسياسي الذي تَشكّلت بموجبه، فيما لا إشارات واضحة حتى الآن إلى وجود مخارج من المأزق الحالي. فالمشير خليفة حفتر، رجل الشرق القوي، رحَّب بحكومة باشاغا الجديدة، فيما سارع رئيس البرلمان، عقيلة صالح، إلى توفير الغطاء القانوني لها. أمّا الغرب، فيبدو منقسماً على نفسه، في ظلّ تمتُّع باشاغا بنفوذ في أوساط بعض مراكز القِوى في طرابلس، فيما يحظى الدبيبة بدعم قبائل مدينة مصراتة وأعيانها. وفي ظلّ الاصطفافات الحادّة بين رئاسة مجلس النواب وحكومتَي الدبيبة وباشاغا، لم يحسم المجلس الأعلى للدولة، برئاسة خالد المشري، موقفه بعد أن أصدر رأيَين متناقضَين حيال خطوة تنصيب باشاغا.

المشهد من منظار خارجي
في الأساس، حصلت المفاوضات التي أفضت إلى إطلاق خارطة الطريق السياسية في ليبيا، بالتوازي مع حوار تركي - مصري غير مرئي، لم يكن من الممكن الوصول إلى الانفراجات السياسية التي حدثت سابقاً لولاه. لكن سريعاً، اندلعت المشاكل بين الأطراف على تطبيق الاتفاقات. وبعد أن تمّ التأكّد من عدم إمكانية حصول الانتخابات، عاد الانقسام المعلَن إلى واجهة الأحداث، وزاد الصراع الروسي - الأميركي في أوكرانيا، المشهد الليبي تعقيداً، فيما رشّح ليبيا للعودة مجدّداً إلى أن تكون ساحة صراع بين القوى الكبرى على ساحل المتوسّط. مصادر دبلوماسية معنيّة بالملفّ الليبي قالت، لـ«الأخبار»، إن الاتفاق السياسي على الانتخابات لم يكن دقيقاً لجهة طمأنة القوى كافة إلى حفظ نفوذها، ومعالجة مخاوفها، وإعطاء الضمانات للجميع بعدم استحواذ الفائزين على كلّ شيء، وعدم إقصاء الخاسرين وتهميشهم. ولذلك، عمدت الأطراف الخائفة من نتائج الانتخابات إلى تعطيلها حتى الآن. وترى المصادر أن الأمم المتحدة لم تكن راعية جدّية للمسار الحقيقي المطلوب في ليبيا، لأسباب كثيرة أهمها الفساد والضغوطات الخارجية وعدم كفاءة فريقها المعنيّ.
الأداء الأميركي في ليبيا ليس واضح المعالم وهو يتحرّك وفقاً للمصالح الملحّة


الأداء الأميركي، من جهته، ليس واضح المعالم، وهو يتحرّك وفقاً للمصالح الملحّة. يمكن ملاحظة ذلك في ما تقوم به الشخصيّات المعنيّة بالملفّ في الإدارة الأميركية، وعلى رأسها المبعوث الخاص ريتشارد نورلاند، والفريق المسؤول عن الملفّ الليبي في وزارة الخارجية، حيث تتناقض مواقفهما في الكثير من المحطّات. غير أن مجموعة أولويات ثابتة تَحكم الانخراط الأميركي في ليبيا، والذي تَكثّف في مرحلة الإغلاق النفطي هناك، ما دفع واشنطن إلى العمل مباشرة، خصوصاً منذ اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية. ويمثّل منع روسيا من امتلاك موطئ قدم في البلاد أبرز تلك الأولويات، وهذا ما أشّر إليه سلوك واشنطن خلال فترة التحضير للانتخابات، حيث عملت بجدّ على منع ترشّح سيف الإسلام القذافي، ومحاصرة فُرص عودته إلى النور باعتباره مرتبطاً بموسكو. ومن بين عناوين اهتمام واشنطن، ضمان أن يواصل أيّ نظام حُكم في ليبيا التعاون الكامل في ملفّات «الحرب على الإرهاب»، والتي تتضمّن السيطرة على مناطق الساحل والصحراء، فضلاً عن ضمان تواصُل ضخّ النفط للتحكّم بالأسعار. وبحسب المصادر الدبلوماسية نفسها، فإن جميع اللاعبين على الساحة الليبية لا يعارضون دور واشنطن؛ فالمحلّيون منهم يطلبون تدخّلها عند كلّ مفترق، والإقليميون منهم هم حلفاؤها المباشرون. لذا، فإن الولايات المتحدة تَعتبر أنه أيّاً كان المنتصر، فهو يصبّ عندها، وهو ما يفسّر عدم صلابة مواقفها وتذبذبها باستمرار.

سيناريوات
مع اقتراب موعد انتهاء خارطة طريق «ملتقى الحوار السياسي» الليبي الذي اختار حكومة الدبيبة قبل عام في جنيف، لا يبدو أن الوقت والظرف سيسمحان بتنفيذ «خطّة عودة الأمانة إلى الشعب» التي أعلن عنها الدبيبة بنفسه في شباط الماضي، وهي خطّة من عدّة مسارات تقود إلى إجراء انتخابات برلمانية قبل نهاية حزيران الجاري، وترحيل الانتخابات الرئاسية إلى وقت لاحق. وهنا، تتحدّث مصادر سياسية ليبية، لـ«الأخبار»، عن احتمال «تَغيّر وضع» حكومة الدبيبة، مع ترجيح صدور قرار نهائي من المجلس الأعلى للدولة بقبول حكومة باشاغا، خصوصاً أن خارطة الطريق تنصّ على ضرورة رحيل الأولى بعد انتهاء مدّتها المحدّدة بـ18 شهراً (تنتهي في 21 الجاري)، على أن تُسلّم السلطة لحكومة جديدة، باتت جاهزة.
وفيما لا تزال الجهود الأممية في اجتماعات القاهرة متوقّفة عند مجموعة نقاط خلافية حول القاعدة الدستورية التي ستقوم على أساسها الانتخابات، تتحدّث المصادر عن «سيناريوات عملية» يجري تجهيزها قد تكون بديلة عن إجماع على حلّ طال انتظاره. ومن بين تلك السيناريوات إحداث تغييرات ميدانية، خصوصاً في طرابلس، شهدت الأيام القليلة الماضية إرهاصات لها، إثر اشتباكات بين «جهاز حفظ الاستقرار» الموالي للدبيبة، و«لواء النواصي» المقرّب من باشاغا. وتقول المصادر، في هذا الإطار، إنه ليس بالضرورة أن تكون هذه الاشتباكات بالذات مرتبطة مباشرة بالسيناريو الميداني الذي يتمّ الإعداد له، لكنها حتماً ستمثّل شرارة يمكن استغلالها لإحداث سلسلة اشتباكات تؤدّي «الغرض» الذي حدّدته المصادر نفسها بـ«إدخال الحكومة الجديدة إلى طرابلس وإيجاد موطئ قدم لها هناك». وبالتالي، فإن «محاصرة حكومة الدبيبة هو هدف مرحلي قد تفي عملية عسكرية محدودة بالمطلوب من أجله، بالتزامن مع جهود لضمان عملية قلْب ولاءات قوى مسلّحة معيّنة». إلّا أن المصادر نفسها تعترف بصعوبة ذلك السيناريو الذي يحتاج إلى «أضواء خضراء دولية وإقليمية كثيرة»، إذ إن فشله سيفضي إلى المزيد من التوتر وخلط الأوراق في ليبيا.
سيناريو آخر تُبيّن المصادر أن المبعوث الأميركي الخاص إلى ليبيا، ريتشارد نورلاند، «يهندسه»، ويُعتبر مقدّمة لتثبيت الأمر الواقع، ويقوم أساساً على وضع المقدَّرات المالية للبلاد (عائدات النفط) تحت نظام وصاية وحماية دوليّ باسم «الآلية المالية». وتضيف أن هذا السيناريو يُستتبع بالسعي للقضاء على دور البنك المركزي الليبي، بصفته الجهة الوحيدة التي تدير العمليات المالية الليبية الآن، معتبرة أن ذلك يقع تحت خانة توفير الشروط الموضوعية والمالية لتكريس التقسيم في البلاد.