الجزائر | دخلت العلاقات بين الجزائر وإسبانيا فصلاً جديداً من التوتّر، تجاوَز الشقّ السياسي إلى ذلك التجاري والاقتصادي وحتى الأمني، حيث دفع تمسّك رئيس الحكومة الإسبانية، بيدرو سانشيز، بالموقف المؤيّد للطرح المغربي في قضية الصحراء الغربية، السلطات الجزائرية، إلى الردّ باتّخاذ عدّة قرارات تصعيدية، أبرزها وقف العمل بـ«اتّفاقية الصداقة والتعاون»، وكذا تجميد الاستيراد والتصدير بين البلدين، فيما يُتوقّع أن تمسّ المقاطعة العصب الحسّاس بين البلدَين، وهو ملفّ الغاز. وكان سانشيز قال، خلال مثوله في جلسة مساءلة أمام البرلمان الإسباني، حول زيارته الأخيرة إلى الرباط في نيسان الماضي، إن «مقترح الحُكم الذاتي في الصحراء الغربية هو أكثر الأسس جدّية وواقعية ومصداقية لحلّ النزاع»، وإن «هذا المقترح يمكّن من تحقيق الأمن والاستقرار في المنطقة». وجاء هذا التصريح كخطوة أخرى في إطار مساعي التقارب بين إسبانيا والمغرب، بعد الجفاف الذي عرفته علاقات البلدين، إثر استقبال مدريد زعيم جهة «البوليساريو»، إبراهيم غالي، للعلاج من فيروس «كورونا» سابقاً. غير أن تلك الخطوة أثارت حفيظة الجزائر، التي بادرت إلى اتّخاذ قرارات أكثر راديكالية، في محاولة منها لدفع إسبانيا إلى التراجع عن موقفها، إذ قرّر مجلس الأمن القومي برئاسة عبد المجيد تبون، الأربعاء، «التعليق الفوري لمعاهدة الصداقة وحُسن الجوار والتعاون مع إسبانيا، والتي كان قد تمّ التوقيع عليها في الثامن من تشرين الأول 2008». واعتبرت الرئاسة، في بيان، أن «السلطات الإسبانية تعمل على تكريس سياسة الأمر الواقع الاستعماري، باستعمال مبرّرات زائفة، ونفْس هذه السلطات تتحمّل مسؤولية التحوّل غير المبرَّر لموقفها منذ تصريحات 18 آذار 2022، والتي قدّمت الحكومة الإسبانية الحالية من خلالها دعمها الكامل للصيغة غير القانونية وغير المشروعة للحُكم الذاتي الداخلي، والمُقترَحة من قِبَل القوّة المحتلّة». وأشار البيان إلى أن «السلطات الإسبانية باشرت حملة لتبرير الموقف الذي تبنّته إزاء الصحراء، والذي يتنافى مع التزاماتها القانونية والأخلاقية والسياسية كقوّة مديرة للإقليم (...) إلى غاية إعلان الأمم المتحدة استكمال تصفية الاستعمار في الصحراء الغربية».
يبدو أن الجزائر تريد، من خلال خطواتها الأخيرة، إيصال رسالة إلى إسبانيا بضرورة العودة إلى «المنطقة الرمادية»


وبوقْف «معاهدة الصداقة وحسن الجوار والتعاون»، يكون الخلاف بين الطرفَين وصل إلى مرحلة جدّ متقدمة، كون الاتّفاقية لا تقتصر على التعاون الثنائي في الشقّ السياسي، وإنّما تشمل أيضاً المجالات العسكرية والاقتصادية والثقافية ومكافحة الإرهاب. وبالعودة إلى نصّ الاتفاقية، فهي تتضمّن 21 بنداً حول التنسيق في المجال الأمني والهجرة السرّية، وتعزيز التعاون بين المؤسّسات القضائية في الشؤون المدنية والتجارية والجنائية، وكذا تعزيز التعاون بين قوّاتهما المسلّحة، وعقد دورات التدريب والتحسين، وتنظيم التدريبات المشتركة. كما تنصّ المعاهدة على تنفيذ برامج مشتركة للبحث والتطوير وإنتاج أنظمة الأسلحة والمواد والمعدّات الدفاعية المُوجَّهة لتغطية احتياجات الطرفين، من خلال تبادل المعلومات التقنية والتكنولوجية والصناعية، إلى جانب احترام القانون الدولي والاعتراف بالحقّ في المساواة القانونية وسلامة الأراضي والاستقلال السياسي، واحترام حقّ كلّ طرف في اختيار وتطوير نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي بحرّية، وتسوية النزاعات بالوسائل السلمية، واحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للأفراد، وتعزيز الإجراءات الهادفة إلى خلْق فضاء ثقافي مشترك. ومن بين البنود أيضاً تعزيز التعاون الاقتصادي والمالي، والسعي لتنشيط وتحديث الاقتصاد الجزائري، والدفع بالاستثمارات المتبادلة، فضلاً عن تشجيع التعاون في مجال التربية والتعليم، وعقْد اجتماع رفيع المستوى (بين رئيسَي حكومتَي البلدَين) مرّة في العام، واجتماع وزاري ثانٍ بين وزيرَي خارجيتهما.
ولم تكد ساعات تمر ّعلى قرار وقْف العمل بالمعاهدة، حتى صدر قرار آخر من الجزائر، يتمثّل في منْع عمليات التوريد والتصدير بينها وبين إسبانيا. وجاء هذا القرار في شكل تعليمة أصدرتها «الجمعية المهنية للبنوك والمؤسّسات المالية»، وُجّهت إلى مديري البنوك والمؤسّسات المالية كافة، تدعو إلى وقف تنفيذ أيّ عمليات توطين بنكي (تغطية مالية) لإجراء عملية توريد منتجات وسلع من إسبانيا، أو تصدير بضائع وسلع جزائرية إليها، بدءاً من يوم الخميس.

تداعيات ثقيلة
بالنظر إلى حجم التبادل الاقتصادي بين البلدَين، فإن التصعيد ستكون له تداعيات ثقيلة على الطرفَين، خاصة إن استمرّت المقاطعة لوقت طويل، بالنظر إلى حجم المبادلات الثُّنائية، والذي قارب الـ7 مليارات دولار، إذ تُعتبر مدريد رابع ممونّ للجزائر، والمنتَجات الإسبانية تفوق الـ6% من إجمالي واردات الأخيرة، بقيمة 25 مليار دولار (تتنوّع ما بين مواد غذائية ومواد تجميل ومنتجات تجهيز صناعي وغيرها). كما تُعتبر إسبانيا ثالث زبون للجزائر بنحو أربعة مليارات دولار، منها ثلاثة في مجال الطاقة. غير أن التموين بالغاز هو الملفّ الذي قد تطاوله الحُزمة التالية من القرارات؛ حيث تُورّد الجزائر إلى إسبانيا عبر خطّ بحري يربط بني صاف الجزائرية وألميريا الإسبانية، ما بين 8.5 وعشرة مليارات متر مكعّب من الغاز. وسبق لوزارة الطاقة الجزائرية، في أيار الماضي، أن هدّدت بقطع إمدادات الغاز عن إسبانيا، في حال أخلّت الأخيرة بالعقود المبرمة بين البلدين بشأن توريد الغاز الجزائري أو إعادة توجيهه إلى أيّ بلد آخر (تقصد المغرب)، مُنبّهة إلى أن «أيّ كمّية من الغاز الجزائري المُصدَّر إلى إسبانيا تكون وجهتها غير تلك المنصوص عليها في العقود، ستُعتبر إخلالاً بالالتزامات التعاقدية». وفي حال نفّذت الجزائر تهديدها بالفعل، فسيكون ذلك بمثابة القشّة التي ستقصم ظهر العلاقات الإسبانية - الجزائرية.

العودة إلى المنطقة الرمادية
يبدو أن الجزائر تريد، من خلال خطواتها الأخيرة، إيصال رسالة إلى إسبانيا بضرورة العودة إلى «المنطقة الرمادية» - على الأقلّ - بشأن النزاع في الصحراء الغربية، وخاصة أن التوتّر لم يهدأ بين الجانبَين منذ 18 آذار الماضي، وذلك على خلفيّة إعلان وزير الخارجية الإسباني، خوسيه مانويل ألباريس، في تصريح إعلامي، دعم الحلّ المغربي في قضية الصحراء. واتّخذت الجزائر، حينذاك، قراراً باستدعاء سفيرها لدى إسبانيا فوراً للتشاور، حتى إن تبون أعلن، في 26 نيسان، رفضه عودة السفير إلى مدريد، فيما ربطت الحكومة عودته بـ«توضيحات صريحة من قِبَل مدريد لإعادة بناء الثقة التي تضرّرت بشدّة»، وأن يكون هذا «على أسس واضحة ومتوقّعة ومطابِقة للقانون الدولي». كما قرّرت الجزائر وقْف التعاون الكامل مع إسبانيا في ملفّ الهجرة غير النظامية، ورفض تسلّم وعودة المهاجرين غير النظاميين وترحيلهم إلى الجزائر.