تونس | على عكْس ما أمِله قيس سعيد من قراره عزل 57 قاضياً، جاء إضراب القضاة أوّل من أمس، والذي شاركت فيه أغلبية القضاة المباشرين لمهامهم، وفق تأكيد رئيس «جمعية القضاة» لـ«الأخبار»، ليؤكّد إصرار هؤلاء على مواجهة حالة الترهيب والتهشيم التي يتعرّضون لها. وفي ظلّ تَوجّه سعيد، ردّاً على ذلك، نحو تعميق تحالفه مع الأجهزة الأمنية، ومضاعفة الإجراءات العقابية بحقّ خصومه، يبدو أن معركة «كسر عظم» ستدور بين الجانبَين، لن تكون يدُ القضاة، على ما يبدو، قاصرة فيها، في ظلّ نيّتهم وضع يدهم بيد «اتحاد الشغل» الذي ثبت أن نفَسه غير قصير في هكذا مواجهات
دخل قضاة تونس إضرابهم مشحونين بخوف هائل من عدم استقرار سلطتهم، وهو شعور لم يعرفوه منذ سنة 2012، تاريخ إعفاء وزير العدل الأسبق والقيادي في حركة «النهضة»، نور الدين البحيري، لاثنين وثمانين قاضياً. وعلى رغم ذلك، أكد رئيس جمعية القضاة، أنس الحمادي، لـ«الأخبار»، أن «الإضراب سجّل مشاركة واسعة قاربت 99% من القضاة المباشرين لمهامهم»، مضيفاً أن «المضربين شاركوا بكثافة في التعبير عن رفضهم المذبحة القضائية التي طالت زملاءهم، ولم يُثنِهم التهديد بالقائمات التكميلية للإعفاءات أو الاقتطاع من أجورهم». ووصف الحمادي ذلك بأنه «فاتحة لتحرّكات القضاة التي لن تخمد، إلى حين التراجع في الإعفاءات وانتهاج مسار شفّاف في المحاسبة».
ولا تنفي «جمعية القضاة» وجود فساد ينخر هذه السلطة، وهي سبق وأن كانت من أوّل من أثاروا ملفّات قضاة مشتبه في تورّطهم في الفساد أو استغلال النفوذ، ولكنّها لا تعتبر النزول بسيف الإعفاء على رقابهم حلّاً مقبولاً ومنطقياً، بل تدعو إلى احترام المعايير الدولية، وخاصة استقلالية السلطة القضائية، التي عليها أن تتولّى إصلاح نفسها بنفسها لا عبر مراسيم رئاسية. وتؤكد الجمعية أن المرسوم، وإنْ حمل بعض الأسماء التي ثبت فسادها، إلّا أن شهادات بعض المعزولين تبيّن بشكل قاطع أن تهمتهم لم تكن الفساد، وإنّما رفض تعليمات من الدوائر المحيطة بالرئيس قيس سعيد، أو الدخول في نزاع مع السلطات الأمنية التي خرجت عن كلّ الضوابط، وباتت تسعى إلى تهشيم الحرّيات والحقوق من دون حسيب أو رقيب. وكشف الحمادي، لـ«الأخبار»، أن «عدداً من القضاة أُعفوا بناءً على وشايات أمنية، ومن المخزي أن لا يتمّ منحهم الحق في الدفاع عن أنفسهم».
وتعدّ وزارة الداخلية إحدى أهمّ أدوات حكم سعيد، والمستفيد الأبرز ممّا يحدث في البلاد، بعدما حظيت بحصانة سياسية جعلتها ترتكب انتهاكاتها بوجه مكشوف. فالوزارة التي تُعدّ ركناً من أركان العِشرية الماضية، وأساساً لخراب عقود حُكم زين العابدين بن علي، تتمكّن في كلّ عهد من عقد صفقات مربحة، وتعميق سلطتها وحصانتها. وإذ لم يكن مستغرباً أن تتحالف الوزارة مع حركة «النهضة» و«نداء تونس»، وتشكّل يداً قاسية ضدّ معارضيهما، والأمثلة على ذلك كثيرة، من أحداث الرشّ في سليانة وصولاً إلى حادثة سحل الطفل في ضواحي العاصمة السنة الماضية على خلفية الاحتجاجات الاجتماعية، فإن سعيد، الذي رفع شعار «استرجاع حق شهداء ثورة 2011»، وزار ضحايا العنف الأمني في بيوتهم، معتذراً نيابة عن الدولة ومتوعّداً بالمحاسبة، ها هو يخون وعداً آخر من وعوده، لا بل ويمنح «الداخلية» مطلَق الصلاحية، حتى ضدّ السلطة المخوَّلة دستوراً مراقبة الأمن ومنعه من انتهاك الحقوق والحريات.
لم يبقَ لسعيد من حليف غير مشروط إلّا الجهاز الأمني


والواقع أن انخراط سعيد في هكذا تنازلات وتحالفات ليس مستغرباً؛ فدائرة أصدقائه والمدافعين عن مشروعه باتت ضيّقة، فيما جبهة خصومه تزداد اتّساعاً، وحضوره الإعلامي شبه منعدم، ما يجعل الحديث عنه في الإعلام شبه منحصر في الانتقاد والتهشيم بكلّ الوسائل الممكنة. وعليه، لم يبقَ للرئيس من حليف غير مشروط إلّا الجهاز الأمني، الذي يبدو سعيد متّجهاً نحو تعميق تحالفه معه، وفق ما أظهرته رسالته المُصوّرة تعليقاً على إضراب القضاة، والتي نُشرت على الصفحة الرسمية لرئاسة الجمهورية، المنصّة الوحيدة التي يخاطب عبرها الرئيس العالم، حيث أوصى وزيرة العدل باتّخاذ الإجراءات اللازمة بحقّ القضاة الرافضين للعمل «حتى لا يتمّ المساس بمصالح المتقاضين». ومن هنا، يبدو أن معركة القضاة مع سعيد ستكون معركة كسر عظم، وهو ما جعلهم يستبقونه بخطوة عبر البحث عن حليف قوي أثبتت التجارب «طول نفَسه وقدرته على طحن أعدائه»، وهو «الاتحاد العام التونسي للشغل». وإن كان سعيد يظنّ أنه فائز لا محالة في تلك المعركة، على غرار معاركه السابقة، فإن حساباته ربّما لن تكون في محلّها هذه المرّة، إذا لم يسارع إلى كسب ودّ «اتّحاد الشغل»، وإدخاله كطرف رئيس في الحوار الوطني حول الدستور والقضايا الاجتماعية والاقتصادية. وكانت اللجنتان اللتان نصّبهما سعيد لإعداد الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية قد باشرتا عملهما، على رغم علمهما بأن الرئيس أعدّ نصّاً جاهزاً يتضمّن رؤيته الخاصة للحقوق والحرّيات والنظام السياسي.
على المقلب الشعبي، تبدو اللامبالاة غالبة على طيف واسع من التونسيين، الذين يستشعرون أنهم اختُزلوا في شكل خزّان انتخابي تجري مغازلته في كلّ محطّة، ثمّ يتمّ التعامل معه كفاعل غير مرغوب فيه. والظاهر أن العشرية الماضية قتلت روح الحماسة لدى كثيرين، بعدما أظهرت النُخبة انتهازيّتها ومصلحيّتها بعيداً عن احتياجات المواطنين، وبالتالي قد يجلب ما يقوم به سعيد اليوم بعضاً من نشوة انتقام إلى هؤلاء. على أن الرئيس يغفل أهمية استعادة الشارع كفاعل أساسي في الأحداث، على رغم أنه غالب جميع خصومه بشعار «الشعب يريد»، وهو ما ينبئ بمآل غير مبشّر بالنسبة لسعيد، في حال واصل مساره الحالي من دون تعديل.