تونس | تتجدّد المواجهة بين الرئيس التونسي، قيس سعيّد، والسلطة القضائية، مع وصولها اليوم إلى مرحلة تجريد قضاة «المجلس الأعلى للقضاء» من امتيازاتهم ومِنحهم. وبالنظر إلى أنه ليس بإمكان الرئيس إقصاء القضاة ولا تحييد وجودهم - كما فعل مع الأحزاب -؛ لدورهم الحيوي في الحياة العامّة، فقد التجأ إلى حيلة أخرى، وهي احتواؤهم ترهيباً وترغيباً. وهكذا، باتت منهجية سعيّد في تحجيم دور خصومه واضحة للعيان ومتكاملة، إذ تكون بدايتها باستغلال أيّ فرصة لتوجيه الاتهامات والتخوين لهم، وهم في هذه الحالة القضاة، ما يفسح في المجال أمام انفجار الغضب الشعبي بوجههم، وما إن تَثبت على هذا الجهاز الحيوي اتهامات «اللاعدالة والتحيّز والعمل لصالح أطراف معادية للوطن وناهبة لقوت التونسيين»، حتى يُجهز عليه الرئيس بالتجميد، وإن كان مستحيلاً تجميده فيضحي الحِرمان من المِنح والامتيازات طريقة لـ»تصويب الأمور»، من وجهة نظر سعيّد.على أنه لا يمكن تحميل الرئيس وحده مسؤولية وصْم القضاة بـ»اللاعدالة والانحياز»؛ فالأمر معلوم للتونسيين، وشهدت عليه الهياكل المهنية للقضاة أنفسهم، ولكن ما أقدم عليه الرئيس لم يكن إصلاحاً ولا تصويباً للأمور، من وُجهة نظر ناقديه، بقدر ما هو إجراء شعبوي لا نتائج واقعية له في جعل هذا الجهاز عادلاً أو محترِماً للضوابط والمعايير الدولية. ولذا، يرى مراقبون أن قرارات سعيّد إنما ترمي إلى غايات أخرى، أبرزها تحميل هذه السلطة مسؤولية تعثُّر العدالة، كونها جزءاً من «قِوى الردّة» التي ترفض محاسبة منظومة «النهضة» وحلفائها على امتداد العشرية الماضية. أمّا بقيّة الغايات فلا تتعدّى محاسبة القضاة على إهمال الملفّات التي أحالها القصر الرئاسي إليهم، وإصرارهم على البقاء خارج دائرة هيمنة القصر.
ضربة قاصمة، إذاً، تلقّاها القضاة بتجريد مجلسهم من امتيازاته، ولا يمكن لهؤلاء التظلُّم ضدّها لوسائل الإعلام والتأثير في الرأي العام؛ فكلّ تصريح في هذا الاتجاه سيُعيد الجدل الذي اندلع السنة الماضية، عندما أقرّت حكومة هشام المشيشي زيادة هامّة في رواتب القضاة على رغم استهجان الشارع التونسي. وسيعود القضاة، مجدّداً، إذا ما تذمّروا من قرار سعيّد، إلى مربّع الوصْم بـ»الجشع والطمع» في موازنة تنهشها المديونية وتسعى للتوفير بأيّ طريقة كانت. وأمام استحالة التوجّه إلى الرأي العام طالما أن نتائج هذه الخطوة ستكون وخيمة على أصحابها، فقد لجأ هؤلاء إلى ردّ من نوع مختلف على مستويَين: الأوّل، تصريح أعضاء من المجلس بأن «الاستمرار في العمل غير مرتبط بالمِنح والامتيازات بقدر ما يتعلّق بالإيمان برسالة القضاء»؛ والثاني قرار المحكمة الإدارية إعادة وكيل الجمهورية المتورّط في قضايا تستُّر على إرهابيين إلى عمله، ونقض قرار فصله من القضاء وإحالته على التحقيق الجنائي، بسبب الأخطاء الإجرائية التي شابت ذلك القرار.
إقدام سعيّد على حلّ «المجلس الأعلى للقضاء» سيمثّل محطّة حاسمة في مسار الأزمة


وفي ظلّ استمرار المناكفات المتبادلة، خفتت الأصوات العقلانية التي تنادي فعلاً بإصلاح المؤسسة القضائية، وهي التي لم تنفكّ تفعل ذلك طيلة العشرية الماضية أيضاً. وفي هذا الإطار، تُشدّد «الجمعية الشرعية للقضاة» على أن لا إصلاح بقرارات ارتجالية أو في سياق الاستثناءات، والمطلوب من الرئيس لكي يبرهن على حُسن نيّته تجاه هذه السلطة، هو «احترام استقلاليّتها، وتمهيد الأرضية لتباحث مقترحات مخطط الإصلاح المتماشية مع المعايير الدولية بين أبناء السلطة القضائية، ثمّ تنزيل مقترحاتهم في قوانين بعد انتخاب سلطة تشريعية جديدة». وتُحذّر الجمعية من أن أيّ «إصلاح في سياق المراسيم الرئاسية التي يتّخذها سعيد سيكون هشّاً ومن دون أثر ومشكوكاً في مصداقيّته».
ولا يبدو أن سعيد يُلقي بالاً لصوت ناصحيه المتعقّلين، بقدر استجابته للدعوات الراديكالية إلى حلّ «المجلس الأعلى للقضاء» جملة وتفصيلاً. وبصرف النظر عن أن الأداء الهزيل لهذا الهيكل، وانحيازه المكشوف إلى السلطة التي أَسندت إليه امتيازاته، وما كشفته التسريبات سابقاً عن مدى تأثير الفاعلين السياسيين في قراراته التي تُعدّ على الأصابع في مدّة عمل تجاوزت الثلاث سنوات، فإن إقدام سعيّد على حلّه سيمثّل محطّة حاسمة في مسار توسيع دائرة خصومه، والإضعاف الذاتي لمشروعه السياسي.