الجزائر | يُظهر الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، إصراراً على مراجعة اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي المُوقّع عام 2002، بوصْفه لم يكن في صالح بلاده، وتمّ التوقيع عليه في مرحلة ضعف الدولة. ولذا، طَلب تبون، رسمياً، من حكومته تعديل هذا الاتفاق «بنداً بنداً»، ليكون أكثر توازناً، ويمنح الجزائر مجالاً أكبر للنفاذ نحو السوق الأوروبية. والواقع أن تبون ليس وحيداً في معارضته تلك الشراكة، بل تؤيّدة في ذلك قوى سياسيّة ذات توجُّه سيادي في المجال الاقتصادي، تُطالب بالعودة إلى النمط القديم الذي يجعل الجزائر تتعامل مع كلّ دولة أوروبية على حدة، بعيداً عن هيمنة بروكسل، خصوصاً بعدما أظهرت الاحصائيات عجزاً تجارياً فادحاً تعانيه الجزائر، منذ البدء بتطبيق الاتفاق عام 2005. إذ بلغت خسائر البلاد، وفق احصائيات متداولة، نحو 10 مليارات دولار، نتيجة إلغاء الرسوم الجمركية على المنتَجات الأوروبية، على الرغم من أن رفع الرسوم كان تدريجيّاً ولم يشمل جميع السلع. وكنموذج ممّا تَقدّم، تجاوَزت الواردات الجزائرية من الاتحاد الأوروبي خلال الـ15 سنة الماضية 300 مليار دولار، بينما لم تتجاوز الصادرات خارج دائرة المحروقات في الفترة نفسها 16 مليار دولار. ومن هنا، عمدت الجزائر إلى تأجيل «التفكيك الجمركي»، أي رفع الرسوم على كلّ السلع من دون استثناء، والذي كان مقرّراً سنة 2017، إلى سنة 2020، ثمّ اضطرّت من جديد إلى تأجيل ثانٍ، حيث تَجري حالياً مفاوضات حول الخلافات التجارية بين الطرفين.وبدا واضحاً أن الجزائر حملت نفسها على تلك القرارات، كونها لم تَعُد قادرة على الاستمرار في نهج «البذخ» التجاري نفسه، بفِعل تداعيات الأزمة المالية الكبيرة التي تعرّضت لها منذ عام 2015، عندما انهارت أسعار النفط الذي يشكّل المصدر الأساسي للبلاد من العملة الصعبة. ولجأت الجزائر، إثر ذلك، إلى الحدّ من وارداتها بشكل ملموس، واستهلاك احتياطي الصرف الهائل الذي راكمته (200 مليار دولار) في سنوات انتعاش أسعار البترول، والذي استمرّ لنحو عشريّة كاملة. ولم يكن الجانب الأوروبي، بالتأكيد، سعيداً بخطوات الجزائر التي تُعدّ أحد أهمّ زبائنه في القارّة الأفريقية، ليحتدم الخلاف بين الطرفين، إثر وضْع الجانب الجزائري ما يُعرف بـ«حصص الاستيراد»، التي تحدّد الكميات المستوردة من كلّ سلعة وتُقلّص من عدد المستوردين، في إجراء اعتبره الجانب الأوروبي نكوصاً عن اتفاق الشراكة الذي يضمن حرية التجارة بين الجانبين. ومارست الشركات الأوروبية المأزومة، بعد أن تقلّصت حصصها السوقية في الجزائر، ضغوطاً كبيرة على المفوضية الأوروبية لحضّ الجزائريّين على مراجعة قراراتهم، وهو ما فعلته المفوضية بشكل حثيث، ولكن من دون جدوى، إذ كان أسلوب الحدّ من الواردات هو الذي يتغيّر فقط، تارةً باستعمال رُخص الاستيراد، وتارةً أخرى بمنع الاستيراد لقائمة طويلة من المنتجات في السوق.
كبّد اتفاق الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، الجزائر، خسائر بلغت نحو 10 مليارات دولار


ولم تتّخذ الجزائر، إزاء ذلك، موقعاً دفاعياً، بل هاجمت، عبر قنواتها الرسمية وغير الرسمية، الجانب الأوروبي، الذي لا يهمّه، بحسبها، سوى فائدته التجارية، فيما لا يراعي أن الجزائريّين يمرّون بظرف اقتصادي صعب لا يسمح لهم بأن يستمرّوا في المقاربة نفسها. وعُقدت، إثر هذا التصعيد المتبادل، لقاءات سنة 2017 في إطار «مجلس الشراكة»، لمراجعة أولويات الشراكة والخروج من الطابع التجاري المحض الذي صبّ في فائدة الأوروبيّين دون الجزائر، التي بقيت عاجزة عن تصريف منتَجاتها في سوق أوروبية متطلّبة ومليئة بالقيود والموانع المتخفّية في معايير جودة وغيرها، تبدو مُفصّلة على مقاس الشركات الأوروبية التي ترفض المنافسة داخل أسواقها، وتمارس ضغوطاً كبيرة عبر لوبيّاتها، خاصة في المجال الزراعي، حيث يمكن للجزائر التصدير. واليوم، تبدو الرغبة المعلَنة في مراجعة اتفاق الشراكة مقتصرة على الجزائر، بينما لا يُظهر الطرف الأوروبي حماساً كبيراً لهكذا خطوة، وهو ما أشار إليه بوضوح السفير الأوروبي في الجزائر، جون أورورك، في تصريحاته إلى جريدة «الخبر» الجزائرية، حيث اعتبر أن «الخلل الموجود في الميزان التجاري بين الجانبَين، ليس بسبب اتفاق الشراكة، بل لأن الجزائر لا تملك قاعدة صناعية قادرة على طرح منتجاتها في السوق الأوروبية»، مضيفاً أن هذا الأمر «متعلّق أوّلاً بالجزائر، التي يجب عليها مراجعة قوانينها الاقتصادية، وتشجيع الاستثمار الخاص والأجنبي، واستقطاب رساميل أجنبية، والحدّ من البيروقراطية في المجال الاقتصادي، وهي مسائل لا دخل لاتفاق الشراكة فيها، باعتباره يحدّد فقط إطاراً عاماً وقواعد للتبادل التجاري الحرّ بين الجانبين».
وفي الحقيقة، لا يبدو التشخيص الجزائري الرسمي للأزمة بعيداً كثيراً عمّا يقوله السفير الأوروبي أو مختلف هيئات التقييم الاقتصادي الدولية. ففي لقاء الرئيس عبد المجيد تبون، مع الصناعيّين أخيراً، اعترف بأن الجزائر تعيش تخلّفاً صناعياً، إذ لا يمثّل القطاع الصناعي فيها سوى 5 إلى 6% من الناتج المحلّي الخام، وهذا راجع إلى أن البلاد - في تقديره - لم تستثمر سنوات الوفرة المحلية في إقامة صناعة حقيقية، بل اتّجهت نحو «التصنيع المزيّف القائم على نفخ العجلات» (تعبير ساخر يدلّل على مصانع تركيب السيارات التي أقيمت في فترة مرض الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة)، وتهريب الأموال نحو الخارج، في إشارة إلى بعض المصانع التي تُضخّم فواتير المواد التي تستوردها بغرض تهريب العملة الصعبة إلى الخارج. ويَعِد تبون بأن تكون 2022 «سنة اقتصادية محضة»، حيث يُنتظر أن تراجَع أهمّ القوانين، وعلى رأسها قانون الاستثمار الذي كان محلّ انتقادات كبرى بسبب فرضه قاعدة الأفضلية الوطنية في المشاريع، أو ما يسمّى القاعدة «51/49» التي تَفرض على أيّ مستثمر أجنبي إيجاد شريك جزائري تكون له الأغلبية في المشروع. كما تعوّل الجزائر، أيضاً، على تطوير نسيج المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، عبر منْح قروض وتسهيلات للشباب لتكوين مؤسّساتهم. لكن رؤية الحكومة التي وردت في مخطّط عملها المعروض أمام البرلمان في أيلول الماضي، مثّلت موضع انتقاد شديد لدى المعارضة، لافتقارها إلى أهداف محدَّدة قابلة للقياس، وهو ما يجعلها مجرّد «تنظير» وفق المعارِضين.
وتبْقى الجزائر، في انتظار تحقيق التحوّل نحو اقتصاد متنوّع، تعتمد بشكل مزمن على صادراتها من البترول والغاز، والتي تمثّل نحو 96% من مداخيلها من العملة الصعبة، وتُعاني من ثقل السوق الموازي الذي يتعاظم حجمه باستمرار، ويَحرم الدولة من مداخيل جبائية ضخمة، كما تواجه أزمة بطالة، خاصة في صفوف الشباب، تصل إلى 20%. وهي سلبيات تُقابلها، من الجانب الآخر، بعض الإيجابيّات، وأهمّها ضعف الدين الخارجي الذي لا يتجاوز 4 مليارات دولار، بالإضافة إلى احتياطي صرف يُقدَّر بنحو 40 مليار دولار، ناهيك عن الموقع الاستراتيجي الذي يجعلها همزة وصل بين أوروبا وأفريقيا في حال طوّرت من اقتصادها.