كيف تحلّلون إجراء هذه الانتخابات الثالثة - بعد الانتخابات الرئاسية في 12 كانون الأول 2019، والاستفتاء على الدستور في الأوّل من تشرين الثاني 2020 -، والتي ظلّت، حتى وقت قريب، غير واضحة المعالم؟
- بدايةً، هناك واقع، وهو ليس بجديد، مفاده بأن مقاطعة الانتخابات لن يكون لها تأثير فعلي إلّا في الولايات الثلاث أو الأربع في وسط البلاد. وأنا أعني، على وجه الخصوص، تيزي-وزو، وبيجاية، ومنطقة القبائل، وهي معقل المعارضة، ولا سيما «جبهة القوى الاشتراكية» وحزب «التجمّع من أجل الثقافة والديمقراطية». ولا يُعدّ هذا جديداً، لأن عدد الناخبين في منطقة القبائل لطالما كان منخفضاً جداً، حتى عندما لا يقاطع الحزبان السابقا الذكر الانتخابات. وبالنسبة إلى الأكثر تفاؤلاً، ومنهم الخبير في القانون الدستوري، المقرّب إلى حدّ ما من السلطة، رشيد لوراري، ستتجاوز نسبة المشاركة، هذه المرّة، 50% (يشار إلى أن معدّل المشاركة في الانتخابات التشريعية بلغ 35% عام 2017، و43% عام 2012). من جهة أخرى، يَعتبر الأشخاص الأكثر تشاؤماً، والذين غالباً ما يكونون مقرّبين من المعارضة، أن معدّل المشاركة لن يتجاوز الـ15%. ووفقاً لهذا الرأي، فإنه بالإضافة إلى عدم مشاركة منطقة القبائل في الانتخابات، سيواجه سكّان مناطق أخرى في البلاد، ولا سيما الشرق والجنوب، صعوبة في التصويت، كما كان الحال في الماضي، نظراً إلى أن بعض قادة «أحزاب الدولة»، مثل «جبهة التحرير الوطني» أو «التجمع الوطني الديمقراطي»، مُتّهمون بالفساد.
ويبقى السؤال المطروح هو ما إذا كان الذين لا يشاركون في التصويت عادة، سيختارون القوائمَ المستقلّة الخاصة بالشباب. في الواقع، يشكّ المراقبون في ذلك، لأن المستقلّين، ولا سيما الشباب منهم، لا يملكون في كثير من الأحيان إلّا القليل من الخبرة السياسية، ونادراً ما يحصلون على دعم إعلامي أو اجتماعي. وحتى لو لم يكن في الإمكان عدم إيلاء أيّ اهتمام لهذا السيناريو (أي التصويت للشباب)، فإنه يستند إلى رؤية مجرّدة للغاية للمجتمع الجزائري، ولا سيما من جهة مقاربة الأحزاب السياسية الراسخة، وعلى وجه الخصوص «جبهة التحرير الوطني». وأخيراً، وليس آخراً، فإن هذا السيناريو يفتقر إلى إجراء تحليل لكلّ حالة على حدة للقوائم المستقلة. وبعض هذه القوائم، التي لا تُعرف نسبتها، هي مستقلّة «رسمياً» فحسب، لأنها مرتبطة بجماعات ضغط مؤثرة، أو بأحزاب سياسية، بما في ذلك بعض الأحزاب المعارضة.
بعيداً عن التشاؤم والتفاؤل، أرى، من منظور واقعي، أن نسبة المشاركة في الانتخابات هذه ستتجاوز الـ30%، إلّا أنها لن تصل إلى الـ50%، مع معدّلات مرتفعة نسبياً في الجنوب، ومنخفضة بشكل كبير في تيزي-وزو وبيجاية. وحتى لو كانت مشاركة الناخبين مسألة أساسية، فمِن المهمّ أن نلاحظ تطورَيْن سياسيَّيْن لا يقلّان أهمية عن الطابع التمثيلي للبرلمان القادم، وهما: البروز المتوقّع، بعد هذه الانتخابات، لـ«حركة مجتمع السلم»، الحزب المقرّب من جماعة «الإخوان المسلمين»، والذي أنشأه الراحل الشيخ نحناح، عام 1990، كقوّة سياسية أولى. ومن شأن هذا التطوّر أن يؤدّي إلى تفاقم العزلة السياسية لمنطقة القبائل، ما يعود بالنفع، وهنا يكمن التطوّر الثاني، على الجماعات المطالبة بالحكم الذاتي، أو حتى الانفصالية من مثل «الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل». ومن وجهة نظرنا، هذا هو المنظور الذي علينا أن نفهم من خلاله تصريح الرئيس تبون، الذي أكد فيه، قبل بضعة أيام، أنه مستعدّ للتعايش مع «حركة مجتمع السلم»، كما هو الحال في تونس أو في تركيا. ومن هذا المنظور أيضاً، علينا تفسير واقع أن السلطات العليا تصف «الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل»، على غرار «راشاد»، بالجماعة الإرهابية.

ما الذي يفسّر تطوّر هاتين الحركتين في وقت قصير؟
- إلى جانب أنهما حركتان سياسيتان بارزتان، تتّخذ إحدى هذه الحركات طابعاً «دينياً»، والأخرى طابعاً «ثقافياً» أو «إقليمياً». وفي الجزائر، نميل عادةً إلى نسيان أن «حركة مجتمع السلم» فرضت نفسها، منذ أوائل التسعينيات، عبر استغلال أخطاء «الجبهة الإسلامية للإنقاذ» السابقة، واختيار سياسة الدخول التدريجي إلى مؤسسات السلطة. وعلى عكس «الحركة من أجل تقرير المصير في منطقة القبائل»، التي تواجه فشل كلّ الديناميات الانفصالية تقريباً، والتي باءت دعوتها إلى الإضراب العام في منطقة القبائل، في العاشر من حزيران، بالفشل، يبدو أن حركة «الإخوان المسلمين» منطلقة باندفاع. وأكرّر: ما يتمّ تجاهله في كثير من الأحيان أيضاً، هو أن «حركة مجتمع السلم» تشارك في السلطة منذ أكثر من 30 عاماً، وبالتالي، فهي تمتلك المقوّمات السياسية والإدارية للحكم. وما يمنح هذه الحركة مزيداً من المصداقية، هو أنها تقدّم مشروعاً ملهماً بنظر قطاعات وازنة من الشباب. فهل من قبيل الصدفة، أن يكون عنوان برنامجها لهذه الانتخابات التشريعية: «الحلم الجزائري»؟ وفي هذا البرنامج، تعِدُ الجبهة، في حال قيادتها للحكومة، بإنشاء مليون شركة في خمس سنوات، لضمان الأمن الغذائي للبلاد في عشر سنوات، وجعل الجزائر واحدة من أغنى 20 دولة في العالم، خلال 20 عاماً! هل ستقبل ما يُسمّى بالحركة الديمقراطية، أو الفرنكوفونية، أو حتى بالأحرى المتفرنسة، احتمال وجود حكومة يترأسها «أصدقاء إردوغان»؟
ولأسباب سياسية، أكثر منها إيديولوجية، فإن رفض «الديمقراطيين» لـ«حركة مجتمع السلم»، هو رأي خاص ببعض جماعات الضغط الفرنسية، التي تخشى المزيد من التقارب الاستراتيجي بين الجزائر وأنقرة. وهذا التقارب قائم بالفعل حول قضايا عدة، بما في ذلك قضية ليبيا الحساسة جدّاً. كذلك، وكما هو متوقّع، هذا التقارب موجود حول صناعة الأسلحة، وفي مجال الزراعة والخدمات أيضاً.
بالنسبة إلى الأكثر تفاؤلاً ستتجاوز نسبة المشاركة في الانتخابات التشريعية الـ 50%

وليس من قبيل الصدفة أن تكون أنقرة إحدى أولى وجهات الرئيس تبون. فهل يهدف هذا إلى طمأنة الفرنسيين إلى أن «حركة مجتمع السلم» استبعدت، أخيراً، وزير العمل الحالي، جعبوب، والذي أعلن، في نيسان الماضي، أن «فرنسا هي العدو التاريخي والتقليدي للجزائر»؟ لا يستطيع حزب يستعدّ لحكم الجزائر إلّا أن يتصرّف بهذا الشكل! لكن، هل تكفي مثل هذه التصرفات لطمأنة فرنسا؟ وهل تتقيّد جماعات الضغط القريبة من التيار الديمقراطي المزعوم، المالي تحديداً، والمؤثّرة بشكل كبير في العديد من مجالات القرار، بنهج حكومي محتمل من جانب الحركة؟ سيكشف لنا المستقبل الكثير حتماً. ولكنْ هناك أمر واحد مؤكد: إذا أثبتت حكومة «حركة مجتمع السلم» قدرتها على ضمان التنمية الاقتصادية والاجتماعية، في ظروف تسمح لها بمنع زعزعة الاستقرار الاجتماعي السياسي للبلاد، خلال الأمد القريب، فقد تتقبّل فرنسا «تجربة إردوغان» في الجزائر. كان بمقدور فرنسا والولايات المتحدة أن تتقبّلا حكومة يقودها «أصدقاء إردوغان» بسهولة أكبر من قبولهما بحكومة تكون بمثابة «شريك متميّز للصين» في الجزائر. وهنالك أدلة على ذلك، من بينها منع مشروع البناء في ميناء الحمدانية، في مدينة شرشال، شرق الجزائر العاصمة، وهو المشروع الذي تموّله الصين بقيمة 6 مليارات دولار، والذي صُمّم ليكون واحداً من أكبر الموانئ في البحر الأبيض المتوسط، ذي التأثير على العلاقات التجارية بين آسيا وأفريقيا من جهة، وأوروبا وأفريقيا من جهة أخرى.
يمكننا القول إن حكومةً برئاسة «حركة مجتمع السلم»، هي الثمن الذي كان ينبغي على بعض دوائر القرار القريبة من الإليزيه دفعه، حتى في ظلّ غياب إجماع في هذا الصدد في فرنسا. ويتجلّى ذلك في دعم جزء كبير من الطبقة السياسية ووسائل الإعلام، لخيار «الانتقال الديمقراطي»، المحبّب جداً إلى قلب التيار الديمقراطي المزعوم، الذي لا يزال ينكر شرعية الرئيس تبون ويشوّه سمعة الجيش الجزائري.

مسألة «الانتقال الديمقراطي» تبدو في صميم المواجهة بين المعارضة والسلطة. وبالنسبة إلى هذه الأخيرة، فإن هذا الانتقال يعني التدخّل الأجنبي وزعزعة الاستقرار. أمّا بالنسبة إلى المعارضة، فإنّ «التحول الديمقراطي»، هو البديل الوحيد لأزمة النظام السياسي. كيف تُحلّل هذه المواجهة؟
- لنكن واضحين، هذه المعارضة، وهي أقلية، تقول بوضوح تام إنها تسعى إلى «تجريد السلطة من السلاح»، لإنشاء «سلطة مدنية»، على حدّ تعبيرها. وبعبارة أخرى، هي تهدف إلى الاستيلاء على السلطة كما هو الحال في السودان، وهي تجربة يدعو إليها بعض قادة هذه الحركة بشكل علني. وهل تعدّ «السلطة المدنية» بالضرورة قوّة مناهضة للجيش؟ وهل الجيش الجزائري هو «واقع السلطة» في الجزائر، والممثّلون المنتخبون «الواجهة المدنية»؟ بإمكاننا أن نتساءل لماذا لم تُطرح هذه الأسئلة، عندما تمّ اعتماد دستور شباط 1989، الذي أنشأ النظام المتعدّد الأحزاب، أو حتى بعد انقلاب كانون الثاني 1992؟ في الواقع، يتجنّب قادة هذه الحركة مثل هذه الأسئلة، لأنهم يتحاشون مناقشة أحداث التاريخ الجزائري، حين كانت هذه الأسئلة محور الجدل. وأنا أتحدّث عن الثورة التي اندلعت بين عامَي 1956 و1957، أثناء انتزاع الاستقلال، حين كان، آنذاك، أولئك الذين يسعون إلى التوصل إلى حلول توافقية مع الاستعمار، يطالبون بـ«سلطة مدنية». وكيف بإمكاني أن أختتم ملاحظاتي دون أن أذكر، ولو بإيجاز شديد، الجدلية حول نموذج «علم التحوّل» في الأوساط العلمية؟ هذه الجدلية غائبة بشكل غريب في عالمنا العربي، الذي عادةً ما يسارع إلى استيراد كلّ شيء. ومن الضروري وضع حدّ «للاستثنائية الاستبدادية»، التي ندّد بها، ميشيل دوبري، رغبةً منه في أن تكون الاستبدادية مرضاً خاصاً ببلدان الجنوب، ولا سيما بلدان العالم العربي - الإسلامي. هو انعكاس يتوافق مع العديد من مقاربات الباحثين، من ضمنهم أولئك في الولايات المتحدة وأوروبا، الذين يحتجّون على «الباحثين في علم التحوّل»، الذين توكل إليهم عادة، ومنذ أكثر من 30 سنة، رغماً عنهم، «دراسات المناطق»، ولا سيما العالم العربي، بما يترتّب على ذلك من عواقب مدمّرة نشهدها اليوم. ومن هذه العواقب، الحروب الأهلية وغيرها من مظاهر الفوضى المبرمجة نوعاً ما. ولا يتمحور الموضوع هنا حول «مؤامرات» ما، بل حول «برامج بحث». لماذا يتمّ منعنا من مناقشة هذه الأسئلة بحرّية كاملة؟



اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا