في 9 تموز/ يوليو 2020، عمدت صفحة «إسرائيل تتكلّم بالعربية» على «فايسبوك» إلى تعداد مظاهر التكريم التي قامت بها «دولة إسرائيل»، لتخليد اسم الحسن الثاني في الذكرى الـ91 لميلاده، فقالت: أُقيم نصب لتخليد ذكراه في مدينة «بتاح تيكفا»؛ أُطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسة في بلدة «كريات عكرون» في وسط إسرائيل؛ أقيمت حديقة لتخليد ذكراه في مدينة «أشدود»؛ أقيم ممشى باسمه في مدينة «كريات جات». وعند وفاته، أصدرت إسرائيل طابعاً بريدياً يحمل صورته، كُتب عليه بالعربية: صاحب الجلالة الملك الحسن الثاني ملك المغرب.معالم التكريم هذه، لم تأتِ من فراغ. فما قدّمه الحسن الثاني لإسرائيل من خدمات، يصعب حصره في مقالة أو اثنتين. إنه تاريخ طويل من التعاون والتنسيق، بل والتحالف، يعود إلى بدايات تولّيه عرش المملكة المغربية، عام 1961، حينما وجد الملك الشاب نفسه في محيطٍ هائجٍ مضطرب، حيث الثورات الشيوعية والاشتراكية تغزو أنحاء كثيرة من العالم، وحركات التحرّر الوطني تتواصل بلا توقّف في أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية، لتطرد الاستعمار القديم وتطرد معه توابعه من أنظمةٍ ملكية ومحميّاتٍ قبليّة ووكلاء. وبجواره في الجزائر، كانت الثورة الكبرى في أوجّها، وكانت تحظى بدعمٍ لا محدود من نظام عبد الناصر في مصر، عدوّ الملكيّات العربية جميعها. التهديد كان كبيراً، والشعب المغربي لم يكن بمنأى عن «العدوى الثورية» التي تهبّ رياحها وتشتدّ مع توالي سقوط الملكيات العربية من مصر إلى العراق إلى اليمن. توجّه الحسن الثاني ببصره إلى الشرق، ليجد إسرائيل الدولة المنبوذة اللقيطة المزروعة في المنطقة قسراً، والتي تعادي جميع الحركات الثورية والأنظمة التقدّمية والأحزاب القومية العربية والمنظّمات اليسارية في المنطقة، عن بكرة أبيها. رأى الحسن الثاني في إسرائيل حليفاً محتملاً يمكن الوثوق به والركون إليه عند الحاجة. وكان الإغراء الإسرائيلي كبيراً، خصوصاً مع معرفة الملك الشاب بما للكيان العبري من حظوةٍ لدى الدول الكبرى في الغرب، ما يُيَسّر له الأمور ويفتح له الأبواب المغلقة للوصول إلى مراكز صنع القرار في باريس ولندن وواشنطن، التي هي، بنظره، أقوى وأفضل ضمانٍ لحُكمِه وعرشِه.
لم يُضع الحسن الثاني وقتاً. وما بين عامَي 1961 و1964، بدأ العمل مع إسرائيل سرّاً؛ فساعدها على تهجير ونقل 97 ألفاً من اليهود المغاربة - عبر أوروبا - إلى فلسطين المحتلّة (كانت هجرة يهود المغرب إلى إسرائيل قد أُوقفت عام 1956). وفي عام 1965، عقد صفقة معها، إذ قام بالسماح لـ«الموساد» الإسرائيلي بالتجسّس على مؤتمر القمّة العربية الذي عُقد عنده في المغرب، وسجّل كلّ المداولات والنقاشات، بما فيها السرّية والمغلقة. وفي المقابل، ساعده «الموساد» في تعقّب واختطاف وقتل المعارض المغربي الأبرز والأخطر له، المهدي بن بركة، في باريس.
لعِب الحسن الثاني دوراً مهمّاً في التقريب بين مصر وإسرائيل


وعلى رغم العلاقات السرية الوثيقة التي كان الحسن الثاني قد نسجها مع إسرائيل، إلّا أنّه، بذكائه الفطري، لم يكن يغفل عن أهمية الظهور أمام شعبه بمظهر المؤيّد للحق العربي في فلسطين. وهكذا، اتخذ قرار إرسال لوائَي مشاة ضَمّا عشرات الجنود، واحد إلى الجبهة المصرية، وآخر إلى الجبهة السورية، للمشاركة في «حرب أكتوبر» 1973، عدا الكلام العلني عن المسجد الأقصى واهتمام «أمير المؤمنين» به. وعندما أسّست منظمة المؤتمر الإسلامي «لجنة القدس»، عام 1975، أسندت رئاستها إلى الحسن الثاني.
لعب الحسن الثاني دوراً مهمّاً في التقريب بين مصر وإسرائيل، عن طريق تسهيل وتشجيع الاتصالات السرية بين الطرفين. فحينما بدأ أنور السادات استعداداته لمشوار «السلام»، لم يجد أفضل من صديقه الملك ليساعده في نقل أفكاره لإسرائيل والتواصل مع قياداتها. وبالفعل، قام الحسن الثاني بترتيب أهم لقاء سري جرى قبيل زيارة السادات إلى القدس، عام 1977، بين وزير الأمن الإسرائيلي، موشيه ديان، ومستشار السادات المقرّب، حسن التهامي، حيث اجتمعا في المغرب وبرعايته. وفي الثمانينيات، اعتبر الحسن الثاني أنّ الوقت قد حان والظروف تهيّأت للمجاهرة بعلاقته مع إسرائيل، وكسر المزيد من «الحواجز النفسية» بين العرب وإسرائيل. في عام 1986، استقبل رئيسَ الحكومة الإسرائيلية في قصره في الرباط، وسمح الملك بالإعلان عن تلك الزيارة واللقاء الذي جمعه مع شمعون بيريز. ويومها، قال الإعلام المغربي إنّ الاجتماع حصل «من أجل دعم الشعب الفلسطيني». وفي عام 1990، عيّن الحسن الثاني أندريه أزولاي، وهو يهودي مغربي - فرنسي عالي الثقافة، مستشاراً خاصّاً له. بقي أزولاي لصيقاً بالملك بعدها، يقدّم له «النصح» في كلّ محطّاته إلى أن توفّي عام 1999، فكان من ضمن «الترِكَة»، فورثه محمد السادس وهو معه إلى اليوم. أرسلت إسرائيل وفداً ضخماً ضمّ 200 شخصية رسمية للمشاركة بجنازته والتعزية بوفاته.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا